تشتهر دولة اليابان بكونها موطناً لبعض أكثر المباني مرونة في العالم، حيث تحافظ البنايات الشاهقة على اتزانها وتماسكها بتقنيات راقصة تتصدى للهزات الأرضية والزلازل الخطيرة دون انهيار.
إذ تهيمن المرتفعات الشاهقة في طوكيو وأوساكا ويوكوهاما على مناظر المدينة من حولها، وتُعد الخلفية الثابتة للحياة الحضرية اليومية في اليابان، كما هو الحال في أي مدينة كبيرة ومتطورة في العالم.
لكن وبينما يعج الناس وحركة المرور من حول تلك الأبنية، فإنها ثابتة ومنتصبة بشكل يجعل اليابان حالةً استثنائية في المقاومة، رغم وقوعها في بؤرة حزام الزلازل المعرَّضة لخطر الضربات الأرضية الشديدة.
ماضٍ مؤلم مع الزلازل المدمرة كان سبباً للإلهام
يقع الأرخبيل الياباني على طول خط النار الزلزالي المسمّى بمنطقة “الحزام الناري في المحيط الهادئ” المهدد بالضربات الأرضية العنيفة، فهو واقع على هوامش الصفائح التكتونية الأوراسية والفلبينية والمحيط الهادئ.
عند هذا الهامش تُدفع إحدى الصفائح التكتونية تحت الأخرى، ما يتسبب في تراكم ضغوط غير عادية بباطن الأرض، وبالتالي يحدث الزلزال كعملية الإطلاق المكبوتة، فيرسل اهتزازات قوية بما يكفي لهدم مدينة عادية ويمحوها من على وجه الأرض.
لذا عانت اليابان من الزلازل طوال تاريخها، وكان أحد أسوئها زلزال كانتو الكبير، عام 1923. وبلغت قوة الزلزال 7.9 درجة على مقياس ريختر، ودمّر طوكيو ويوكوهاما، وقتل أكثر من 140 ألف شخص.
بعد الحرب العالمية الثانية قدّمت الحكومة اليابانية سلسلة من الإجراءات الصارمة بشكل متزايد، لإجبار البُناة على إنشاء هياكل مقاوِمة للزلازل، خاصة مع تنامي المباني في الارتفاع.
كان أول زلزال كبير بعد الحرب هو زلزال فوكوي في عام 1948. وبعد ذلك بعامين، في عام 1950، تمت الموافقة على قانون معايير البناء، وهي خطة تنظيمية أجبرت شركات إنشاءات البنية التحتية على احترام المعايير الجديدة، ثم تم تحديث القانون بعد زلزال توكاتشي، في عام 1968، ومرة أخرى في عام 1981.
ثم في عام 2011، خلال زلزال شرق اليابان العظيم، وهو أحد أعنف الزلازل في تاريخ اليابان الحديث، الذي تسبب في مقتل وفقدان نحو 20 ألف شخص تقريباً بسبب الضربة وتداعيات التسونامي الذي تطور على إثره، لم يتضرر مبنى واحد بمنطقة سينداي التجارية المهمة. وهو ما يُعد دليلاً على كيف يمكن أن يؤدي الابتكار في إنشاء البنية التحتية إلى حماية حياة الناس.
وبالفعل، في عام 2018، تعرضت أوساكا، ثاني أكبر مدينة في اليابان من حيث عدد السكان والقيمة الاقتصادية، لزلزال ضخم، أظهر مدى التميّز التكنولوجي للزلازل والوقاية منها في اليابان.
حيث بلغ الرصيد النهائي للضحايا 3 قتلى فقط، وأكثر من 200 جريح، كما تمكنت تقنيات البناء في اليابان من احتواء الزلزال تماماً، والذي بلغت قوته 6.1 درجة على مقياس ريختر.
في أي جزء آخر من العالم كان من الممكن أن يتسبب هذا الحدث في مأساة أكبر بكثير. في المقابل، كشفت وزارة البنية التحتية أن الإنفاق السنوي على صيانة وإصلاح وإدارة أنابيب المياه والموانئ والمطارات، وغيرها من أعمال البنية التحتية الكبيرة، في جميع أنحاء البلاد، للوقاية من الزلازل، سيصل إلى 46.1 مليار دولار بنهاية عام 2023.
معايير بناء استثنائية للوقاية القصوى من خطر الزلازل
من أبرز المعايير المفروضة على الأبنية في اليابان القوانين التالية، بحسب موقع Plan Radar:
1- قانون تايشين: هذا هو الحد الأدنى من متطلبات المباني المقاومة للزلازل في اليابان، ويفرض أن تكون العوارض والأعمدة والجدران ذات سماكة دنيا لمواجهة الاهتزاز الأرضي عندما يضرب المدن.
2- قانون سيشن: هو المستوى التالي من المباني المقاومة للزلازل في اليابان، ويُوصى به للمباني الشاهقة، حيث يستخدم مخمّدات تمتص الكثير من طاقة الزلزال. وفيه يتم وضع طبقات من الخرائط المطاطية السميكة على الأرض، أسفل الأساسات، التي تمتص الهزات بشكل كبير.
3- قانون منشين: هذا هو الشكل الأكثر تقدماً للمباني المقاومة للزلازل في اليابان، وهو أيضاً الأعلى تكلفة. وفيه معايير لبناء هيكل المبنى نفسه بشكل معزول عن الأرض، بواسطة طبقات من الرصاص والفولاذ والمطاط التي تتحرك بشكل مستقل مع الأرض تحتها عند حدوث الهزات الأرضية. وهذا يعني أن المبنى نفسه يتحرك بشكل طفيف لامتصاص الصدمة.
استثمارات بمليارات الدولارات في التكنولوجيا المتطورة
تستثمر اليابان في التكنولوجيا الجديدة والحلول المبتكرة بميزانيات ضخمة، يقول مراقبون إنها لا تُقدر بثمن في مستوى كفاءتها في حماية الأرواح والممتلكات والإمكانات الاقتصادية.
وبحسب تقرير لموقع BBC البريطاني، في أعماق العاصمة طوكيو تم تأسيس قناة التفريغ الخارجية لمنطقة العاصمة تحت الأرض، وهو نفق يزيد طوله عن 6 كيلومترات.
تم تصميم النفق للتعامل مع الفيضانات من التسونامي، أو أي إعصار محتمل في المستقبل، وذلك عن طريق توجيه المياه إلى نهر إيدو دون التعرض للصدمات والانهيار.
استغرق حفر النفق 13 عاماً بكلفة 3 مليارات دولار، لكن مساهمته في سلامة المدينة لا تُقدر بثمن، بحسب موقع We Build Value للمعمار والبناء.
تشهد اليابان ما معدله 2000 زلزال كل عام تقريباً بمستويات متفاوتة، بعضها ذات إمكانية تدمير عالية للغاية. في عام 2011، عندما ضرب البلاد زلزال بقوة 9 درجات على مقياس ريختر، لم تتأثر الدولة تقريباً، بل كان 27 قطاراً عالي السرعة من طراز شينكانسن قيد الخدمة، وكأن شيئاً لم يكن.
كل هذا بفضل أجهزة قياس الزلازل الموضوعة في جميع أنحاء البلاد، والتي يمكنها اكتشاف هزات الأرض في وقت مبكر، والتي تمكن موصّلات القطار السريع من تنشيط مكابح الطوارئ قبل ثوانٍ قليلة من وصول أعنف موجات الزلزال.
هذه النتيجة أصبحت ممكنة بعدما أنفقت الحكومة اليابانية مليار دولار لبناء نظام إنذار زلزالي شهير عالمياً، يمكنه اكتشاف ذروة الزلزال قبل 80 ثانية من وصوله.
هذه الميزة، خاصة في مدينة مثل طوكيو، ضرورية لمنح الناس الوقت اللازم لاتخاذ خطوات عاجلة، مثل الابتعاد عن النوافذ، وإغلاق أنابيب الغاز لتجنب خطر الانفجار.
وهي السياسة التي تُواصل اليابان انتهاجها وتطويرها، فقد توصلت وزارة البنية التحتية إلى أنه بختام عام 2023، ستصل تكلفة صيانة وإصلاح وإدارة أنابيب المياه والموانئ والمطارات، وأصول البنية التحتية الكبيرة الأخرى إلى 46.1 مليار دولار، أو 40% أكثر من 10 سنوات مضت.