تجلّيات من الإبداع وصلاة من العشق
فوق بواسق السحاب ,
قراءة نقديّة لديوان (ما يرسم الغيم) للأديب الشّاعر وهيب نديم وهبة.
مدخل:
يقع الكتاب في 135 صفحة من الحجم المتوسط. إصدار الكاتب والشاعر سهيل عيساوي. يحتوي الدّيوان على ثمانٍ وعشرين قصيدة نثريّة وفي الختام موجز الإصدارات الناجزة للشاعر وهيب وهبة والجوائز التي فاز بها.
يُعتبر عنوان النّص الأدبي مدخلًا لغويًّا واستشراقًا فكريًّا للمتلقّي يحملُ ومضاتٍ دلاليّةٍ تُنير مداخل المحتوى وتتجلّى من خلالها فحوى وآفاق النّص لتُتيحَ للقارئ التخيّل والإبحار في المضمون وفقَ منظوره الثقافيّ ومشاربه الأدبيّة وأبعاده التّحليليّة ويأتي عنوان الكتاب (ما يرسم الغيم) ليُجيبَ عن تساؤلاتٍ واستطلاعاتٍ أوليّة وفق رؤيّة شموليّة تتعدّى حدود الزمكان والنظريات الفزيائيّة، تتعدد فيها الاستعارة والمجاز لكي تُبقي حيّزًا يتّسع لتصوّر القارئ في آفاقه التّحليليّة واستيعابة لجماليات الشّكل والمضمون في أُطرها الإبداعيّة والإشراقيّة،
إذا كان العنوانُ عتبةً مهمةً على مشارف النّص ودرجة أوليّة للولوج إلى أعماق النّتاج الأدبيّ، فإن مطالع القصائد هي المفاتيح السّحريّة لأصفاد النّص، لها جاذبيتها وإثارتها واستهلالها على المتلقّي في قراءته للعمل الأدبي، وإذا طالعنا بدايات القصائد في ديوان (ما يرسم الغيم) سنجدها قد جاءت بعد مقاطع أدبيّة وأقوال مأثورة مقتبسة لصوفيين وفلاسفة وشعراء، يستهلّها الشّاعر باستفتاح لصحيح البخاري ويُنهيها في مطلع قصيدة “خيال الورد” بمقطع لمُحيي الدين بن عربي، بحيث تتفاعل قصائدة مُتناغمة متمّمة ما سبقها من أقوالٍ لكبار الأُدباء والفلاسفة والصوفيين أمثال ابن الرّومي والحسن البصري والسهروردي وجبران خليل جبران والمهاتما غاندي وسقراط وغيرهم.
ها هو ذا شاعرُنا الوهيب يسيرُ على درب الأوائل يُجاور خُطواتهم كما جاور خُطوات الرسول من قبل في ديوانه (خُطوات فوق جسد الصحراء) يُكمل ما بدأوا به، يرسم بألوانه وأسلوبه المبتكر لوحاتٍ إبداعيّة وصور حياتيّة ترقى إلى قممٍ وإطلالات جديدة في الأدب العربي.
لقد برعَ شاعرُنا في توظيف المطالع مستحوذًا على فكر وشغف المتلقي في تنوعٍ راقٍ من الدلالات والصور التي تُشكّل مجموعة منسجمة من اللّوحات الإبداعيّة بريشة فنان قدير استطاع ترويض الكلمة وصياغتها في إطار حداثي مميّز.
تحليل :
الشّاعر وهيب وهبة في استخدامه لأقوال مأثورة في الرّوح والصوفيّة والعشق والسّياسة والحياة ومُناجاة الخالق، وفي تطويعه للّغة بمفرداتها ودلالاتها العميقة في استفاضة ابداعيّة يسمو بها فوق آلام البشر وهمومهم وأعباء الحياة ومآسيها، استطاع أن يصعد إلى السماء ويُجاري البحر ويغوص في العواطف والأشواق، ويتوسّل الفرح والإشراق في عالم مليء بالشّر والآلام، الفواجع والظلم والظلام، يستشرقُ بكلماته عالمًا يُشرق بالنّور والفنّ والحياة، بصدق التّعبير والتّحليق في أجواءٍ من الخيال مع مظاهر الوجود ومع الطّبيعة وما وراء الطّبيعة في مادّته الفكريّه ولغته الشعريّة المتميّزة ليُصبح هذا الدّيوان لوحةً تختزل كلّ جمال في حروف وكلمات ومناجاة لا تنقطع، للخير والإنسانية والعواطف البشريّة.
جاء في القصيدة الأولى “استفتاح” بعد صلاة صحيح البخاري:
مَاذَا سَتَخْسَرُ السَّمَاءُ…؟
لَوْ يَضْحَكُ هَذَا الْقَلْبُ مَرَّةً؟
أَيَتَغَيَّرُ فَصْلُ الصَّيْفِ شِتَاءً؟
نُكْتَةٌ كُبْرَى هذَا الْعَالَمُ … فَلِمَاذَا الشَّقَاءُ
أنه استلهام ودعاء يأتي في تساؤلاتٍ رمزيّةٍ يُعبّر فيها عن أُمنياتٍ واقعيّة تتداخل في علاقة إنسانيّة شاملة عبر نصٍ شعريٍّ مجازيٍّ يتحدّث عن قضيّة مباشرة لاسترجاع فرحٍ طفوليٍّ يُنهي مأساة هذا العالم.
في القصيدة الثّانيّة “سفر الرّوح” يتمازج النّص مع كلماتٍ لجلال الدّين الرّومي في مطلع القصيدة فيرسم شاعرُنا لوحةً في العشق الإلهي:
وَيَأْتِي الرَّعْدُ…
يَرْسُمُ شَعْرَكِ خُيُولًا
تَدُقُّ حَوَافِرُ الْخَيْلِ ذَاكِرَتِي
تَزْرَعُ شَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي عُرُوقِي
فَكَيْفَ لَا… لَا… لَا تُسَافِرُ الرُّوحُ
وَتَمْنَحكِ مَفَاتِيْحَ الْحَيَاةِ
… وَرَائِحَةُ عَبِيْرِكِ وَرَبِيْعِكِ
تُقِيْمُ الدُّنْيَا والْآخِرَةَ
وَتُعْلِنُ السَّمَاءُ المْطَرَ.
تأتي القصيدة الثّالثة “مرسمها والبحر” لتشكّل امتدادًا متواصلًا في المعنى والمضمون للقصائد السّابقة وقد تصدّرتها أبياتٌ لشهاب الدّين السّهروردي، يتلظّى من نار العشق، فيستدرك شاعرُنا مُكملًا:
أَخَذَتْنِي إِلَى مَرْسَمِهَا الْبَحْرِ
كُنْتُ اللَّوْنَ وَكَانَتِ الرِّيْشَة الَّتِي
ذَبَحَتْنِي مِنَ الْعِشْقِ…
استعارة ورؤيّة مجازيّة مُفعمة بالمفردات الدلاليّة والرّمزيّة تَنسجم في آيةٍ شعريّة حديثة، تمتزجُ فيها عناصرُ الطّبيعة مع إلهامات الرّوح لتُشكّل واقعًا لغويًّا يَتعامل فيه الظاهرُ والباطنُ في انسيابٍ إبداعيّ وبُنيّة جماليّة.
من الصّعب اختزال ديوان بهذا الحجم المعنويّ والكيفيّ في مقال نقديّ قصير ويحتاج إلى بحثٍ طويلٍ مما يدعوني للإنتقال إلى القصيدة الخامسة عشر والتي تحملُ نفس النّهج الصّوفيّ ومُقاربات جلال الدّين الرّومي وشمس التّبريزي وليس من الصّدفة اِختيار عنوانها “الصّمت والسّراب” بمطلع للرّومي يقول: الصّمت لغة الله وما عداه هو ترجمة سيئة، فيكمل شاعرنا وهيب وهبة:
أَعْمَقُ مِنْ سُكُونِ الْحَرْفِ فَوْقَ الْوَرَقِ…
سُكُونُ الْفَجْرِ بَيْنَ أَصَابِعِي…
وفي مقطع آخر من القصيدة:
أَشْكُرُ السَّمَاء وَالْمَلاكَ الْقَادِمَ مِنْ الْغَيْبِ
وَالضَّبَابِ…
وَأَعْرِفُ أَنْتِ لَسْتِ هُنَا…
وَأَنَا سَرَابٌ فِي سَرَابٍ، يَمْحُوَنِي الْوُجُودُ
وَيُخَلِّدُنِي عِشْقُكِ فِي كَلِمَاتٍ
ينجحُ الشّاعرُ هنا بالمزج بين الشّكل والجوهر، بين الصّمت والسّماء والضّباب والعشق وبين الموت والخلود!
في استطلاع للقصائد الأخري نرى تعلّق الشاعر بوطنه وحبه له، جذوره راسخة في عمق الأرض ورأسه يعانق السّحاب، في قصيدة “دير المحرقة الكرمليّ” تنتفض مشاعره الكرمليّة تتسرب عائمة في فضاء المعنى فتبوح الرّوح:
كَانَتْ نَوَافِذُ دَيْرِ الْمُحْرَقَةِ مَفْتُوحَةً…
عَلَى خَيَالِ الْمَرْجِ الأَخْضَرِ…
أَمَامِ بَهَاءِ الأَيْقُونَةِ السِّحْريّةِ…
كُنَّا الْحُلْمَ…
وَكَانَتْ الْمُحْرَقَةُ مِنْ جِهَّةِ الْقَلْبِ…
تَفْتَحُ لِلْفُقَرَاءِ أَبْوَابِهَا
وَيَسْكُنُ الضِّيَاءُ رٌوحَهَا الْمُعَتَّقَةِ
بِذِكْرِ الله.
في قصيدة جفرا ينطقُ الحنين ويتألق التُراث وترسمُ الأناملُ المقيّدةُ أجملَ الكلمات…
جَفْرَا
يَا جَمْرَةَ الْعِشْقِ الْمُذَابِ كَالشَّمْعِ…
يَا إِشْرَاقَةِ صَبَاحِي فِي اِبْتِهَالاتِ الضِّيَاءِ
جَفْرَا صَبَاحُكِ وَرْدٌ
وَعَكَّا امْرَأَةٌ تَخْرُجُ بِقَمِيْصِ الْبَحْرِ
إِلى شَوَاطِئِ حَيْفَا
وَالنَّوَارِسُ الْعَائِدَةُ مِنَ الْبَرْدِ وَالْغُرْبَةِ
تَقْرَأُ الرَّمْلَ… وَرَائِحَةَ الْبَحْرِ
وَتَسْكُنُ جَسَدَكِ الْوَطَنَ!
تَكْتُبُ جَفْرَا
بِعُيُونِ الْبُرْتُقَالِ وَالْحَنِيْنِ
هذا هو شاعرُنا مغتربٌ يبحثُ عن وطنٍ، يثورُ متمرّدًا على أعنّة اللّغة ليبحثَ عن قطرة ماءٍ تروي نارَ غُربته فتعيد له حدود الارتواء، يتغنى بلوعة واشتياق وحنين إلى الماضي إلى الوطن، يعود بفكره إلى الجذور إلى عكا وحيفا، ينفي الاغتراب عن الأرض والإنسان ليصبحَ منقّبًا وباحثًا عن وجه الحقّ، عن نور الحقيقة بين الواقع والحلم.
وانتقي قصيدة “صلاة في حضرة الدم” لأنهي عرضي الموجز في تحليل هذا الديوان…
عندما تكون كلمات المهاتما غاندي متصدّرة مطلع القصيدة يكون السلام والإنسانيّة واللا عنف والمحبّة عنوانًا لكلّ الأنام، في نبذه العنف والقتل والآثام، فيستنجد الشّاعرُ وهيب نديم وهبة:
يَا رَبُّ…
أَخْمِدْ لَهِيْبَ نِيْرَانِ الْحِقْدِ الْهَمَجِيَّةِ
اِسْكُبْ طِيْبَ مَحَبَّتِكَ فِي خَلجَاتِ الرُّوحِ
يَصْرخُ بِحُرْقَةٍ وَأَلَمٍ:
زَرْعُكَ نَحْنُ… زَرْعُكَ نَحْنُ…
يَقْلَعُنَا الْغَرِيْبُ وَيَقْتُلُنَا الْقَرِيْبُ وَالصَّدِيْقُ
إنّه اغتراب وصلاة ورجاء، يعيشه الشّاعرُ الباحثُ عن الحريّة والكرامة والإنسانيّة ليصوغها في إبداعه الأدبي ويعكس نتاجه شعرًا ونقوشًا إثرائيّة في وعي القارئ المجهول ووجدانه.
نهاية:
نحن أمام عمل إبداعي ضخم، يحمل في معظم قصائد المجموعة، تعبيرًا عميقًا وعباراتٍ عميقة ثريّة يالمعاني والدلالات والمفارقات، يتبنى رسالة وقضيّة يريدُ الشاعرُ أن يوصلها إلى القارئ المجهول إلى العالم إلى ذاته ووجوده مستخدمًا ملكة التّكوين ليصوّر لوحاتٍ إبداعيّة بخياله الخصب وتوظيفه للّغة بجمالياتها ومُفرداتها استطاع بها أن يُنتج أشكالًا مُفردةً تتجسدُ فيها أفكارٌ كليّة أو تجريديّة لنجد أنفسنا أمام عملٍ ونتاجٍ راقٍ في صوره الأدبيّة، الثقافيّة والرّوحيّة التي تحمل نوعيّة متطوّرة، مختلفة ومتميّزة وهي قمّة أخرى من القمم الإبداعيّة التي وصل إليها الأديب والشّاعر وهيب نديم وهبة. نرصد بها تداخل العوالم وتمازج الألوان وبروز عناصر التفاؤل وتألق الأمل الأخضر كسبيل للخروج من الظلم والظلام، الى عالم المحبّة والسّلام، لقد وفّق الشّاعر بشكل باهر بأسلوبه البليغ وسلاسته في التّعبير، في تبليغ رسالته الإنسانيّة وإشهارها.
للشّاعر الفاضل أتمنى المزيد من التّقدم والعطاء الراقي والمميّز في الأدب وللقارئ الكريم أتمنى أن تكون له قراءة ممتعة.