1. أفرز ت الانتخابات الأخيرة التي جرت في الدانمارك في شهر تشرين الثاني/ نوفيمر من العام المنصرم، تراجعاً في مقاعد بعض الأحزاب المحسوبة على كتلة اليسار (اليسار الراديكالي، والشعب الاشتراكي، والقائمة الموحدة) عدا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الدانماركي، وبذلك كُلفت ميته فريدريكسن رئيسة الوزراء في الحكومة السابقة بتشكيل الحكومة الجديدة.
2. اختارت ميته الحزب الليبرالي الفنستره بزعامة ياكوب إلمان، وهو حزب يميني وحزب المعتدلون اليمين الوسط بقيادة لارس لوكه الذي غادر حزب اليسار الدانماركي وكان سابقا رئيسا للوزراء (اي تحالف ثلاثي) ، وتم ابعاد الحلفاء التقليديين للحزب الاشتراكي من الحكم. واليوم، تمثل ميته ما يسمى بالجناح اليميني للحزب الاشتراكي الديمقراطي مع الائتلاف الجديد. وفق بعض الدراسات التي نُشرت مؤخرا، فإن اقتصاد الدانمارك يجابه مشاكل عديدة، في ظل الحكومة التي تتجه نحو تطبيق نموذج اللبراليين الجدد. ومن هذه المشاكل ارتفاع التضخم بمعدلات عالية تجاوزت %10، وهو أكبر معدل منذ أربعين عاما، مما تسّببَ في تراجع القوة الشرائية في البلاد بنسبة تترواح بين 20- 30% مقارنةً بنفس الفترة من العام الماضي. وقد تجسدَ كل ذلك في ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الطاقة وعناصر الإنتاج الاخرى من المستلزمات السلعية والخدمية. كما نتجَ ذلك عن تأثير الحرب الروسية ــ الاوكرانية على السياسة والاقتصاد والحالة الاجتماعية في البلاد. وبذلك أخذت فئات من المجتمع تواجه تحدياً كبيراً، مما أثّر على نموذج دولة الرفاه في الدانمارك الذي أصبح في حالة تراجع.
3. هنا أود أن أركز على هذه الحرب وانخراط الدانمارك بقوة فيها، من خلال عضويته في الاتحاد الاوروبي، وفي حلف الناتو، وذلك من خلال تقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، ودعمها المستمر في هذه الحرب القذرة، واحتضان عدد كبير من اللاجئين الأوكرانيين ومعاملتهم بشكل تفضيلي، وهذا شيء جيد. ولكن، في الوقت نفسه، نشهد تراجع سياسة الدانمارك اتجاه لاجئين آخرين من الدول الشرق الأوسطية والافريقية والقوارب البحرية من شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وخاصة الضغط على اللاجئين السوريين الذين لديهم إقامة دائمة في الدانمارك، ومحاولة ارجاعهم الى سوريا ــ اللاذقية بحجة انها أصبحت منطقة آمنة، وقد نسوا او تناسوا أن المنطقة تعرضت لكارثة الزلزال، وباتت منطقة غير آمنة. وقد أكد ذلك الصليب الأحمر ومنظمة اللاجئين الدانماركية والمنظمة الدولية لحقوق الانسان (أمنستي إنترناشونال).
4. زارت رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن، قبل أيام قليلة، جمهورية مصر العربية، وهي أول مرة، منذ 20 سنة، يقوم فيها مسؤول رفيع من الدانمارك بزيار مصر. وحسب الانباء، فإن الهدف من الزيارة هو تعزيز العلاقة بين البلدين في المجالات السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والهجرة، وكذلك محاولة دول الاتحاد الاوربي التدخل في العلاقات الافريقية والشرق الأوسطية عبر بوابة مصر، وذلك بعد هيمنة كل من الصين وروسيا ونجاحهما في تعزيز علاقة الشراكة مع البلدان الأفريقية، والعربية سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً.
وبقدر ما يتعلق بمسالة الهجرة، لقد تم التركيز بشكل خاص على الهجرة من البلدان الافريقية والشرق الأوسطية الى البلدان الاوربية ومنها الدانمارك، وكيفية إيجاد حلول لهذه
المشكلة والحد منها، من خلال تشديد الرقابة ومزيد من التعاون والتنسيق مع دول الاتحاد الاوربي وبهذا الخصوص. ومن خلال النقاش الدائر حول هذا الموضوع، تناولت ميته مسألة
إمكانية انشاء مراكز استقبال في مصر لإيواء اللاجئين القادمين الى الدانمارك، مقابل تغطية نفقاتهم من الدانمارك لحين النظر في امر لجوئهم وما يتطلب من إجراءات بهذا الخصوص.
ومما لا شك فيه، ان الجانب المصري لم يوافق أخلاقيا على هذه المسالة. وإن الحكومة السابقة برئاسة ميته سبق وأن حاولت ارسال اللاجئين الموجودين في مراكز الاستقبال الى دولة
رواندا في افريقيا، ولكنها لم تفلح بذلك. واليوم أقدمت بريطانيا على ارسال اللاجئين اليها، عبر بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا لحين البت في معاملاتهم للجوء.
5. لقد أصبح اليوم العداء ضد اللاجئين في الدانمارك واضحاً للعيان من قبل الاحزاب اليمينية، المتطرفة والشعبوية، كما هو حال عليه أيضا في السويد. فقد أقدم المتطرف الدانماركي راسموس بالودان وزعيم حزب (هارد لاين) اليميني المتطرف الذي أسسه عام 2017، على حرق نسخ من القرآن مرتين في السويد، مدينة مالمو والعاصمة ستوكهولم، وذلك بحماية من الشرطة السويدية. وقام أيضا بتنظيم الاحتجاجات والمظاهرات ضد المهاجرين في المناطق التي يقطنها المهاجرون المسلمون في المدن الكبيرة في الدانمارك، وإحراق القرآن، والتحريض ضد مجموعة عرقية معينة ونشر الكراهية ضد الأجانب. ولم تُتخذ، حتى الان، اجراءات قانونية مناسبة وملموسة ضد ممارساته العنصرية.
6. هناك تراجع ملحوظ في الخدمات الصحية والتعليمية المقدَّمة من الدولة. وقد خلفت جائحة كورونا آثارها على القطاع الصحي، بالإضافة إلى التوجه الى مزيد من الخصخصة في مؤسسات هذا القطاع، وكذلك تأثير الحرب الروسية ــ الأوكرانية ودعم الدانمارك المادي والعسكري لأوكرانيا في هذه الحرب. كل هذه العوامل وغيرها أدت الى الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم، وضآلة الزيادة في الرواتب والأجور، مع زيادة التخصيصات المالية لوزارة الدفاع، بتوجيه من الناتو على حساب التخصيصات المدنية في الموازنة العامة للدولة. وعلى أثر ذلك، ظهرت الاحتجاجات والمظاهرات المتكررة للعاملين في القطاع الصحي من الممرضات والممرضين والكوادر الصحية الأخرى، مطالبين بزيادة رواتبهم وتحسين ظروف عملهم، ولكن لم تتم تلبية مطالبهم. وقد أدى ذلك، وبعد جائحة كورنا، الى سفر حوالي عشرة آلاف من هذه الكوادر الى المملكة النرويجية للعمل في القطاع الصحي براتب أكبر مرتين من راتبهم وساعة واحدة اقل من يوم العمل في الدانمارك. كما تتراجع الخدمات في المستشفيات، وتتزايد فترة انتظار المرضى للمعالجة التي قد تستغرق شهوراً، مع نقص في عدد الاطباء والمعدات الصحية والتخصيصات المالية في الميزانية العامة.
7. وهناك تراجع أيضا في خدمات قطاع التعليم، وإيقاف صرف المساعدات للطلبة في بعض الفروع الدراسية، مثل التاريخ والدين، التربية، علم الاجتماع، علم النفس، وغيرها، لمواصلة مرحلة الكانديدات. وهناك مؤشرات على توسع عدد المدارس والجامعات وخاصة الاهلية منها، مع نقص الاعتمادات المالية للجامعات ومراكز الأبحاث في الموازنة العامة السنوية وفي الكادر التدريسي والباحثين.
8. وختاماً، ان تشكيلة الحكومة الحالية ليست متجانسة. وهناك تباين في الرؤى وتطبيق البرنامج الحكومي المتفق عليه، مع تراجع دور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية، وتتجه هذه الحكومة نحو الأخذ بنموذج “اللبرالية الجديدة ” في سياستها الاقتصادية، وبمجاراة السياسات الامريكية في العلاقات الدولية، وبشكل خاص ضد روسيا الاتحادية والصين باتجاه فرض المزيد من العقوبات عليهما.