عن المدى البغدادية عدد يوم 9 نيسان 2023
أعلنت مساء الاحد، الثاني من نيسان، نتائج الانتخابات البرلمانية الفنلندية، التي حملت الرقم 39، في
تاريخ البلاد، والتي تجري كل أربع سنوات، ولم تكن النتائج مفاجئة لأغلب المراقبين بفوز أحزاب اليمين
وتصدرهم النتائج وحصدهم لأغلبية المقاعد للدورة القادمة 2023ــ2027 ، حيث حصل حزب الاتحاد
الوطني الفنلندي،( يمين تقليدي) 48 مقعدا بنسبة 20.8٪، وحزب الفنلنديين الأصليين) يمين شعبوي
متطرف( 46 مقعدا بنسبة 20.1٪ ، بينما جاء في المركز الثالث الحزب الاجتماعي الديمقراطي، (يسار
الوسط)، ونال 43 مقعدا بنسبة 19.9%، وهو حزب رئيسة الوزراء (سانا مارين) (38 سنة) ، التي
عرفت كأصغر رئيسة وزراء في العالم، وقادت حكومة ائتلافية يسارية بقيادات نسائية، واجهت
وتجاوزت بنجاح ازمة الكورونا، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت من أبرز السياسيين
الفنلنديين في ادانة الغزو ودعم أوكرانيا بتقديم المساعدات وتكرار الزيارات للعاصمة كييف، وساهمت
بحيوية في قيادة الحملة لدخول فنلندا في حلف الناتو، ومؤخرا، في خطوة تتناسب مع حيوية شخصيتها
وجرأتها، أعلنت الأربعاء، الخامس من نيسان، استقالتها من زعامة حزبها، وانها ستعود عضو عادي في
البرلمان، وتفسح المجال لزعيم آخر لقيادة الحزب، سيتم انتخابه في مؤتمر الحزب الخريف القادم.
قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت نسبة تأييد الفنلنديين لدخول حلف الناتو لا تتجاوز 26٪، وما ان
اجتازت دبابات بوتين الحدود في أتجاه كييف، حتى تغيرت هذه النسبة لتصل الى اكثر من 80٪،
وسرعان ما غيرت الكثير من الاحزاب الفنلندية خطابها السياسي المحايد وصارت تردد ذات الخطاب
الذي طالما رددته أحزاب اليمين، وهي تحذر من خطر البعبع الروسي، الذي يمكن في أي لحظة ان
ينقض على فنلندا، التي لها حدود برية مع روسيا تبلغ 1340 كيلومترا عبر غابات وبحيرات متشابكة، بل
ان أحزابا مثل (اتحاد اليسار)، الذي طالما عرف بمعارضته لسياسات حلف الناتو، وكانت معارضته
لحلف الناتو دائما أحد أوراقه الانتخابية، شهد انشقاقا في موقفه، وهكذا في 17 أيار 2022، في تحول
تاريخي في الموقف العام، صوت البرلمان الفنلندي على طلب الانضمام لحلف الناتو، وبأغلبية 188 ضد
8 فقط. كان أبرز المصوتين، نواب حزب الاتحاد الوطني الفنلندي (يمين تقليدي) الذي طالما كان اشد
المطالبين بالانضمام للناتو، وأيضا صوت نواب حزب الوسط، حزب الخضر والاجتماعي الديمقراطي،
وكانت هذه الاحزاب لسنوات ماضية تعارض الانضمام للناتو وتشترك في حكومة سانا مارين، التي كان
من أبرز نقاط برنامجها البقاء خارج التحالفات العسكرية، وينص ان (الهدف من السياسة الخارجية
والأمنية لفنلندا هو منع فنلندا من أن تصبح طرفًا في النزاع العسكري. تنتهج فنلندا سياسة استقرار نشطة
لمنع التهديدات العسكرية. لا تسمح فنلندا باستخدام أراضيها لأغراض عدائية ضد دول أخرى)، فتم
التراجع عن كل هذا، والمفارقة ان حزب اتحاد اليسار، الذي دخل التحالف الحكومي أيامها باشتراط عدم
الانضمام للناتو، شهد انقساما في صفوفه، فقررت قيادته ان البقاء والاستمرار في الحكومة يكون بمعزل
عن الموقف من الناتو، ومنح نوابه الاثني عشر الحرية في التصويت، فصوت في حينه نصفهم بالضد
ونصفهم مع.
ومع دخول فنلندا في حلف الناتو، الذي أقر مؤخرا بشكل رسميا، أثر تراجع تركيا عن معارضتها، بعد
نجاحها في لعبة المساومة، وحصولها على العديد من الغنائم والتنازلات من الجانب الفنلندي، فيما يخص
رفع الحظر عن تجارة الأسلحة والموقف من الجماعات الكردية في دعمها وحرية نشاطها على الأراضي
الفنلندية، بشكل صارت فيه فنلندا تتماشى مع سياسة الولايات المتحدة الامريكية في النظر الى الجماعات
الكردية بانها مجاميع إرهابية، فأصبحت فنلندا العضو رقم 31 في الحلف العسكري السياسي، وهي التي
على طول تأريخها عرفت بسياسة الحياد والبقاء خارج الاحلاف الشرقية والغربية.
فما الذي حدث للشارع الفنلندي؟
مع بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت تتصاعد بشكل متسارع الروح القومية في الشارع الفنلندي، بتأثير
من النشاط الإعلامي وتوجهات مختلف الاحزاب الممثلة في البرلمان، وارتفعت صيحات الاحزاب
2
اليمينية كونها طالما حذرت ودعت للتحالف مع دول الناتو لمواجهة الخطر القادم من الشرق، بل
وسرعان ما ظهرت أحزاب وتنظيمات قومية جديدة، منها (الحركة الزرقاء والسوداء) التي نجح قادتها
في شهر واحد في جمع خمسة الاف توقيع، المطلوبة لتأسيسها حسب القانون. ورغم ان هذه الحركة لم
تنجح في إيصال نائب باسمها الى البرلمان في الانتخابات الاخيرة، لكنها كجماعة متطرفة يمينية، امتلكت
الحق القانوني بمواصلة العمل في الشارع الفنلندي، ويذكر ان وسائل الأعلام الفنلندية، بينت ان هذه
الحركة عند تقديمها الطلب اعتبرت وزارة العدل الفنلندية برنامجها المكون من 50 صفحة متطرفا جدا،
بل ومعادي للديمقراطية وطلبت إعادة كتابته واختصاره. ومن جانب اخر، اعتبرها الباحث والمؤرخ
(اولو سيلفينوينين) (مواليد 1970) من حزب الخضر، كونها حركة ذات إيدلوجية فاشية. والمعروف ان
اسم هذه الحركة والوان علمها مستوحاة من (الحركة الشعبية الوطنية الفاشية)، التي نشطت خلال فترة
الحروب السابقة مع الاتحاد السوفياتي، وعرفت بعلاقاتها بالحركات الفاشية الإيطالية والألمانية وعدائها
الشديد للشيوعية والاشتراكية.
ولم يكن كل هذا مفاجئا للمتابع والمراقب لتطور الاحداث في البلاد، فالغزو الروسي لأوكرانيا، أعاد
المخاوف من جديد لدى أبناء الشعب الفنلندي، من الجار الكبير، الذي لم تكن العلاقة معه تسير بوفاق
ووئام على طول الخط، ولطالما شعرت الطبقة السياسية الفنلندية، بوجود نوع من الهيمنة التي تجعلها
دائما تفكر برسم سياسات لا تزعج وتغيض الجار النووي. ورغم أن القيادة الروسية الحالية، والرئيس
الروسي، فلاديمير بوتين (مواليد 1952)، وبعد فشلهم في كبح فنلندا من دخول حلف الناتو، صارت
خطاباتهم الاخيرة تتحول اكثر من موضوع العضوية بحد ذاتها، إلى موضوع البنية التحتية العسكرية
لحلف الناتو وما يجلبه انضمام فنلندا بهذا الخصوص، وكرروا بان فنلندا لا تشكل خطرا لهم، إلا ان
الفنلنديين لا يمكنهم نسيان حروبهم السابقة مع جارهم الكبير. ففي سنوات الحرب العالمية الثانية،
اصطفت الحكومة اليمينية الفنلندية ايامها الى جانب حكومة وسياسات هتلر التوسعية وسمحت للقوات
الهتلرية النازية باستخدام الاراضي الفنلندية لمهاجمة اراضي الاتحاد السوفياتي، ومنها الحصار الشهير
لمدينة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا)، في الفترة 1941 ـ 1942 الذي استمر 455 يوما، والذي لم يمكن
تنفيذه لولا التعاون الفنلندي، ولهذا السبب أرسلت المحاكم التي شكلت بعد نهاية الحرب ، خامس رئيس
جمهورية فنلندي ،وهو (ريستو روتي) (1889 ـ 1956) الى السجن كمجرم حرب، اضافة الا ان
جوزيف ستالين (1878- 1953) استقطع من الاراضي الفنلندية كعقوبة مساحة تعادل 12% من
الاراضي الفنلندية كحزام واق لضمان أمن مدينة لينينغراد، هذه الاراضي التي اصبحت جزءا من
الاراضي الروسية حتى الان !
ولابد من التذكير بانه في عام 1920، بعد الحرب الاهلية الفنلندية عام 1918، بين معسكري البيض
والحمر، التي وقفت فيها روسيا البلشفية الى جانب الحمر، وقعت اول معاهدة سلام بين فنلندا وروسيا ،
ثم بعد سنوات الحرب العالمية الثانية (1937ـ 1945) وقعت بين فنلندا والاتحاد السوفياتي العديد من
المعاهدات التي تضمن للاتحاد السوفياتي أمن اراضيه ولمنع اي اعتداء انطلاقا من الاراضي الفنلندية،
فكانت هناك معاهدة سلام عام 1947 ثم معاهدة الصداقة والتضامن والمساعدة المتبادلة الموقعة عام
1948، التي اشارت المقدمة فيها الى رغبة فنلندا لان تكون خارج اطار نزاعات القوى العظمى، وقد
ألغت فنلندا كلا المعاهدتين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، لكنه لم يجر اي تغيرات في الحدود
او استرجاع الاراضي المستقطعة.
والفاحص للخارطة السياسية الفنلندية يرى ان الحزب الشيوعي الفنلندي، وهو خارج البرلمان، يكاد ينفرد
بمواصلته معارضة الانضمام الى حلف الناتو، متعاونا مع مجموعة منظمات وجمعيات ثقافية واجتماعية
يسارية صغيرة، منها جمعيات فنانين وكتاب، تجمع (اوقفوا الناتو)، المدعوم من الحزب الشيوعي
الفنلندي ومنظمة السلام الفنلندية، وتنخرط فيما بينها بمجلس تنسيقي، وتقوم بإدارة محاضرات وندوات
والاشتراك في تظاهرات تحت شعارات معارضة لحلف الناتو.
وهكذا، ساهم الغزو الروسي لأوكرانيا للتعجيل بتخلي فنلندا عن حيادتيها ويساريتها، فالتغيير الكبير في
البيئة الأمنية في أوروبا دفع بأهواء ورغبات المجتمع للتحول وبدرجات كبيرة نحو اليمين، وتصدر
أحزاب اليمين المشهد السياسي، بشكل يهدد بشكل ما تجربة بناء ( مجتمع الرفاه)، فلم تعد فنلندا، البلد
3
المسالم والمحايد في سياساته الخارجية، حيث ان سياسة الحياد النشطة والمحبة للسلام السابقة، كانت أحد
الأسباب التي جعلت من العاصمة الفنلندية، هلسنكي، المكان الأمثل لاستضافة مؤتمرات وقمم دولية تعني
بالسلام العالمي، لكن حرب بوتين الدائرة على الأرض الأوكرانية غيرت كل المعادلات، فلم تعد فنلندا
البلد المعني ببناء الجسور بين الشرق والغرب، بل ان حدودها مع روسيا عمليا اصبحت الخط الأمامي
لحلف الناتو. ويلاحظ ان هناك تغييب للأصوات المعارضة، دفعت في بداية الغزو الروسي لاوكرانيا،
بوزير الخارجية الأسبق (أركي توميويويا) (مواليد 1946)، وهو من قادة الحزب الاجتماعي الديمقراطي
المخضرمين، في حديثه مع راديو NPR الامريكي الى انتقاد الاعلام الفنلندي وطريقة إدارة النقاش حول
عضوية الناتو للقول (أن من ينتقد الناتو يتهم بكونه عميلا لبوتين)، والمفاجئ أنه صوت لاحقا بالانضمام
للناتو!
ومع كل ما تقدم، يبقى صوت جوزيف ستالين يرن محذرا وهو يقول لمحاوره الفنلندي، يوما، بعد نهاية
الحرب العالمية الثانية: (قد يكون لكم رأي آخر لكني لست مسؤولا عن الجغرافيا).