الخطباء الذين يكلمونكم عن الحب , والساسة الذين يخرقون آذانكم بالحديث عن الوطن والشرف والعدالة , كلهم يثيرون الغثيان ( نيكوس كازنتزاكي / الاخوة الاعداء ) .
هذا جوهر الخطاب الروائي ودلالته الفكرية والتعبيرية , وهو يتناول أحداث عاصفة ترسم خارطة طريق الصراع السياسي في العراق التاريخية ومراحل تقلباته وهزاته العنيفة في بنية المجتمع , رواية تتحدث من خلال رحلتها الطويلة تجاوزت أكثر من نصف قرن , رسمت ملامح المراحل التاريخية التي مرت على العراق ( الاحتلال العثماني ونهايته . الاحتلال الانكليزي واعطى الراية الى الحكم الملكي , العهد الملكي . العهد الجمهوري ) يكشف المتن الروائي تراجيدية الازمنة , في الصراع السياسي والديني , يعطي صورة نقدية وفكرية في تراجيدية عقلية السلب والنهب ( الفرهود ) , التي أصبحت من العقلية العراقية المبطنة , والت تنهض من سباتها عند كل انقلاب سياسي أو في منزلقات أو منعطفات سياسية عاصفة تمر بالبلاد , في استغلال الفوضى والانفلات الأمني , ومستمر هذا النهج إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة ومتنوعة, والرواية ( أفراس الأعوام ) للاديب المتمكن في لغة السرد الحديث وتقنياته الفنية المبتكرة والحديثة في الإبداع السردي المعاصر , وأسلوب صياغته وطرحه وتناوله بالخيال الفني الملهم عند الاستاذ زيد الشهيد , سلط الضوء الكاشف في البانوراما الواقع العراقي , عبر هذه المراحل السياسية في أزمنتها المختلفة , بموضوعية واقعية وانتقادية رصينة , من خلال الفصول الثلاثة للرواية , وكل فصل يمثل نقلة نوعية في مسارات كل مرحلة زمنية وسياسية , ومشبعة بالرؤية الفكرية في النقد والتحليل , من خلال رحلة طويلة . تؤرخ وتوثق وتصور عدسة مرآة كل مرحلة في التوثيق الروائي , عبر سيرة حياة بطل الرواية ( جعفر حسن درجال / مثقف وسياسي ورسام ) الذي عانى مرارتها ولوعتها بالمطاردة والسجن , هذه الاحداث السياسية العاصفة شكلت شرخاً عميقاً في بنية المجتمع , بل وضعت جدراناً حديدة لا يمكن اختراقها بالالوان الطائفية وزعانفها المسمومة , التي جعلت المجتمع التي جعلته ينزف دماً وجروحاً لا تندمل , غايتها الاولى طمس الهوية العراقية على مذبح الطائفية , ان تصب الزيت على النار , كما كانت في الماضي وتعيد الكرة في الحاضر ايضاً ,. لكي تشق كيان المجتمع الى صنفين متخانقين بالاحتقان السياسي والاجتماعي , مما يسهل عملية الاحتلال الأجنبي , الذي يجد ارضاً خصبة في تكريس الاحتلال والوصاية والنفوذ , هذه لعبة المحتل الأجنبي المفضلة في العراق , في تكريس شرخ الانقسام والعداوة والحقد داخل الكيان العراقي , تدور الأحداث السرد الروائي في مدينة ( السماوة ) ولكنه يرسم الصورة العراق باجمعه . في لغة سردية شفافة في سليقتها المبدعة , تشد القارئ شداً وبتلهف مرهف في متابعة مسار أحداثها الدراماتيكية المتصاعدة , في تراجيدية الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية . والرواية ايضاً تمثل تراجيدية موت الحب بنيران الطائفية , كأن الحب هو الضحية أو القربان على مذبح الطائفية الدموي . اعتقد جازماً ان رواية ( أفراس الأعوام ) تصلح لفيلم سينمائي ناجح , يتناول تاريخ العراق العاصف بالأحداث الجسام التي مرت به , لنجد أنفسنا في مرآة الماضي و نقارنه مع مرآة الحاضر . ويمكن ايجاز المتن الروائي بهذه النقاط المختصرة :
1 – الاحتلال العثماني ونهايته المخزية : اعتمد على نهج : تفرق تسد في شق بنية المجتمع وطوائفه , بالانحياز والتمايز التام لطائفة على حساب طائفة آخرى , وبناء جدران اسمنتية بين الطائفة الشيعية والسنية ( – الترك لا يعينون موظفاً ينتمي لمذهبنا الشيعي , بل من السنة فقط ) ص49 . وفي آخر أيامه لعب على الورقة الدينية في حربه مع الجيش الإنكليزي المحتل , بأنهم اعداء الاسلام , وجاءوا لكي يدنسوا أرض الإسلام الطاهرة , وهم اعداء الدين الاسلامي الحنيف , كفرة وملحدين , لكن هذه الورق خسرت وتمزقت في نهاية احتلاله للعراق .
2 – الاحتلال الانكليزي :
لعب على ورقة تنوير الناس بالثقافة الاوربية ومحاربة الفقر والتخلف , وتنشيط حركة التجارة والنشاط الاقتصادي في تطوير البلاد , ومحاولة رأب الصدع بين الطوائف , في فتح مجال العمل والتوظيف ان يكون لكل الطوائف والذين يمتلكون كفاءة , في تولي التوظيف والمسؤولية وأعطى الفرص للجميع . ومحاولة إحداث تغيرات بنهوض الشعب من الجهل والتخلف , وبدأت ملامح التغيير الجديدة تظهر على السطح ( بمجيء الانكليز توجهت الحكومة لكسر جدران أن يكون موظفو الدولة من السنة فقط , فراحت تصدر تعيينات لمن يمتلك مؤهلات تثبت بمرور الأيام الكفوئين وتلغي توظيف المتلكئين وصارت المدينة تشهد وجوهاً من شبابها ورجالها يتسلمون الاعمال الوظيفية , مثلما تدفقت البضائع الأوروبية على المدينة وانتهى تداول الليرة العثمانية ) ص 106 .
3 – العهد الملكي : حاول ترسيخ نهج مسار تطوير البلاد , بفتح المدارس وتشجيع التعليم بين الجنسين ( الذكر والانثى ) , وإدخال مظاهر جديد ة في المجتمع , وكسر رتابة الخمول في الحياة اليومية , وبدأت بوادر الخلاف الخلاف في العقلية العراقية , بين البداوة والمدنية , وفتح آفاق السجال الثقافي بين المحافظين على القديم , وبين أصحاب تحديث المجتمع وتنويره , وتنقية الاجواء الطائفية , وبداية خطوات التنوير الثقافي تبدأ في الظهور , ومحاولة كسر الاحتقان الطائفي , وتشجيع التجارة والعمل , ومحاولة تنقية الطقوس الدينية من شوائبها وعيوبها , وتصليح الشعائر الدينية بما هو يتفق مع الدين الإسلامي الحنيف , من خلال منع ممارسة في طقوس عاشوراء , مثل ضرب الزنجيل والتطبير ( أصدار وزارة الداخلية في عام 1935 , أمراً يمنع إقامة شعائر ( الزنجيل ) و ( التطبير ) واقتصار طقوس عاشوراء على إقامة جلسات الوعظ وتنوير العامة من الناس بخطأ اقامة مثل هكذا ممارسات لا تمت للدين الإسلامي الحنيف بشيء ) ص187 . وفي هذا العهد شهد تأسيس واقامة أحزاب سياسية متنوعة الاتجاهات السياسية , وتدخل في سجالات الصراع السياسي بينها , بوتيرة واسعة بالخلافات و التناحرات . مما ظهرت الاصطفافات السياسية , واضحة المعالم في الصراع , من يؤيد الحكم الملكي , ومن يعارضه , ودخلت المجموعات الدينية على خط هذه الصراعات , لكي تصب الزيت على النار . في الفتاوى الدينية التي عملت في إشعال الحريق في المسرح السياسي القائم , مثل الفتوى الدينية ( الشيوعية كفر والحاد ) والتي ساهمت في بلبلة الرأي العام , في تكفير الرأي الآخر , واستغلال بسطاء الناس في هذا المجال للقيام بالاعمال العدائية , واستمر هذا النهج بالتكفير الاخر أكثر عنفاً في العهد الجمهوري الوليد , بالهجوم على مقرات الحزب الشيوعي ونهب الأثاث البسيط وحرقه. وكلما دخلت الطائفية في اي زاوية من الحياة العامة أفسدته خراباً , حتى في العلاقات الاجتماعية , وحتى في نواحي الحب والزواج , توجه طعنات الموت اليه . فعندما أحب ( جعفر حسن درجال ) فتاة من الطائفة السنية ( وهيبة ) بشكل حب جارف ونقي , وعزم على الزواج منها , فصارح أمه لكي تقوم في تسهيل إجراءات الزواج . ارتعبت أمه بالغضب الشديد بالرفض والاحتجاج , كأن عقلها لا يصدق كلام ابنها , بأنه يعتزم الزواج من فتاة من الطائفة السنية ( أمجنون ولدي هذا ؟ أنه يتحدث بثقة تفشيها ملامحه …يقول كلاماً لا يريد ان يسحبه أو يقلبه الى مزاح ………….. أولئك أناس ليس من طينتنا ولا من مذهبنا ….. كيف لنا الشيعة أن نقبل في عائلتنا سنية لا تقدس ( علي ) ولا تبكي على ( الحسين ) ؟! كيف أن نقبل أن يمتزج دمها بدمنا ؟ .. وكيف لوالدها السني أن يعطي أبنته لشيعي يراه بعيداً عن مذهبه وخارجاً عن دينه ؟! ) ص69 . و ( لا . يا ولدي أنت مجنون ….. وإذا كانت هي تحبك فعلاً كما تزعم فمجنونة ايضاً ) ص69 . فأحدثت في نفسيته الاحباط والخيبة والحزن , وشعر قلبه يتكسر ويتفتت مرارة وحزناً . بأن حب قد ذهب الى ادراج الضياع , فشكى مرارة حزنه الى أحد اصحابه , وقام هذا ان يواسي معاناته و حزنه الشديد ( عوائق لا مبرر لها , يا جعفر … افهمك وافهم معاناتك … المذاهب تفرق الأمم ) ص76 .
4 – العهد الجمهوري :
فتح باب الصراعات السياسية والحزبية على مصراعيها بعد سقوط الملكية , انتهت بحادثة المجزرة للعائلة الملكية . وأخذ العنف السياسي ينتقل من الشوارع الى داخل السجون والمعتقلات , ودخلت البلاد في بلبلة وفوضى سياسية في ضبابها الكثيف , كأن العهد الجمهوري فتح صندوق ( باندورا ) لتخرج منه كل الشرور العنيفة , كل الأمراض الاجتماعية والسياسية والدينية , ولعبت الفتاوى الدينية , في زيادة الاحتقان السياسي , لقد توحدت كل القوى المعادية التي تضررت بالثورة , الى العمل في اسقاطها وإجهاضها . حتى وصل العنف الى الشوارع , وحياكة الدسائس والمؤامرات بدفع مباشر من القوى الاستعمارية , وكذلك ساهمت مصر جمال عبدالناصر في السعي الى اسقاط الثورة , وكانت اذاعة صوت العرب من القاهرة تزعق بالعواء والنهيق ضد الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم في تحريف مجريات الأحداث بالكذب والدجل ( كل يوم يتناهى الى مسامع انتهاكات إنسانية ! حتى لتمنَّى غالبية الناس العودة الى العهد الملكي . رغم أن البلاد يقوده حاكم نقي احب الوطن والشعب ) ص216 . أن نزاهة الزعيم ووطنيته وحبه للفقراء ,و طموحه وصدقه في رفع الحيف ورفع الظلم والحرمان , فتح باب الخلاف والخصام , وفي سبيل إحداث الخلل في شعبية الزعيم الجماهيرية الواسعة , واعداء الثورة وجدوا الفرصة السانحة , بأن الزعيم تلكئ في وعوده ولم يحقق ما وعد به الشعب , بل أدخل البلاد في زاغور الأفاعي السامة , مما أفسح المجال للمؤامرات والدسائس أن تفلح بإسقاط الثورة في انقلاب عسكري دموي .
5 – ازمة ومحنة المثقف :
ضمن هذه الأجواء المتوترة بالغيوم السوداء من العنف والبلبة السياسية , حتى فتحت أبواب السجون , أثر بشكل سلبي على نكوص الحركة الثقافية , وأصبحت محنة للمثقف قائمة فعلاً , ووجد المثقف نفسه محاصراً ومطارداً , بل مهدداً في حياته , ضمن الانقسام السياسي والحزبي الرهيب والحاد , مما اصاب المثقف بالاحباط والخمول ومنهم ( جعفر ) الذي خفت عنفوانه المتمرد ( أنت لا ترغب في رؤية الرسم .. أنت ترغب في تعنيف ذاتك . أيها المغمور بالنقاء … لكن مع هذا لا يجب أن أتركك تجذف بزورق الضياع . أنا معك ) ص163 .
6 – موت وهيبة :
ظلت ترفض الزواج لتحافظ على حبها المغدور , ولم تتزوج إلا بعدما تزوج ( جعفر ) وعندما داهمها شبح الموت وهي راقدة فراشه في لحظاتها الاخيرة , كلفت بأنها بأن ينقل وصيتها الى ( جعفر ) ووافق ابنها على مهمة نقل رسالتها , التي احتفظت بها طيلة عمرها , وهي في اللحظات الاخيرة لتودع الحياة. ونقل وصية أمه المتوفاة الى ( جعفر ) :
( لقد ترجتني وهي على فراش الموت , أن أعيد أليك هديتك لتحتفظ بها , ظناً منها أنك خير حافظ لها
– لا . بل هي رسالة على انها احتفظت بحبها لي حتى اللحظة الاخيرة ) ص 267.
ثم ينال الموت بعد ذلك من ( جعفر ) لم يشاهد بعد ذلك ما مر به العراق من المآسي , من المجازر والكوارث والفرهود , والطائفية تعود في رونقها الذهبية بالخراب في تدمير العراق .