في العراق تاريخياً لم تكن حرية الرأي والتعبير مصانة بل العكس فحالات انتهاك الحريات الصحافية وحقوق الانسان العامة والخاصة مستمرة على قدم وساق، وعلى مرور حقب عديدة لم نجد بالمعنى الصحيح عدم خرق حرية للرأي والتعبير فحسب بل الحريات العامة والخاصة، ولم تكن هناك ديمقراطية حقيقية بل هناك اضطهاد وحرمان من الحقوق تصاحبها ادعاءات حول منح الحقوق والحريات وتراجعات مؤقتة لفترة قصيرة لكن سرعان ما تعود اجراءات الملاحقة البوليسية والاعتقال والضغط وصولاً الى اصدار قرارات مجحفة وقوانين تقيد الحريات العامة والشخصية، ان تفكير المواطنين في حقهم المشروع في حرية المعتقد والراي عبارة عن اضطهاد للفكر والاعتقاد وقد نصت أكثرية المواثيق الدولية والإنسانية والقانونية على ضرورة عدم التجاوز على الحريات الخاصة والحريات العامة للأفراد أي كان شكلهم او جنسهم او قوميتهم او دينهم وعدم استخدام السياسة بمفهومها الديمقراطي الإنساني ضد حرية الراي والتعبير، وفي العراق ومنذ تأسيس الدولة العراقية فلقد قيدت الحريات بشكل تعسفي واستخدم العنف النفسي والجسدي للخلاف الفكري وكانت ومازالت السجون والمعتقلات تكتظ بالمعتقلين بسبب أفكارهم السياسية واعتقاداتهم الايدلوجية ووصل التعسف والاضطهاد الى الاغتيالات والإعدام، وفي حينها مارس النظام الملكي هذا العنف بإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في بداية الاربعينات لمجرد الاختلاف الفكري والسياسي مع سياسة وأفكار الحكومات العراقية، وهذا الأسلوب انتهجته جميع الحكومات والأنظمة إلا باستثناء بعض الأشهر الاولى لانبثاق ثورة 14 تموز 1958 ، لكن سرعان ما تراجعت الحكومة فزج عشرات لا بل المئات في السجون والمعتقلات وأصدرت المحاكم حينذاك العديد من أحكام الإعدام لم تنفذ حينها إلا أن انقلاب 8 شباط 1963 قام بالجريمة فاعدم الكثير منهم وآخرين جدد بدون محاكمة وخير مثال اعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ووصفي طاهر وفاضل عباس المهداوي وقادة عسكريين معروفين ، كما أعدم سكرتير الحزب الشيوعي سلام عادل وغيره من القادة مثل الحيدري والعبلي وابو سعيد وحسن عوينة وأبو العيس وحمزه سلمان، وكان انقلاب 8 شباط عبارة عن مجزرة ومسلخ بشري إضافة الى حجب الحريات وإلغاء الآخر وكتم الافواه والهيمنة بالقوة والسلاح على وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، ولم تكن عهود الحكومات التي جاءت بعد انقلاب 8 شباط الفاشي ولا انقلاب 17 تشرين بقيادة عبد السلام عارف إلا صورة من مخلفات الأنظمة الإرهابية التي اعتمدت على سياسة كتم الأفواه وإلغاء الصوت المعارض ومنع نشر الحقائق والوقائع التي تخص حرية الصحافة والصحافيين ثم وجود الاعتقالات الكيفية والمعتقلات والسجون التي تعج بمختلف المعارضين، واكتملت صورة الانتهاكات والهيمنة على وسائل الإعلام بعد انقلاب 17 تموز 1968 فقد احكمت سلطة البعث بقيادة صدام حسين قبضتها على الوسائل الإعلامية وفي مقدمتها الصحافة حتى أنه امام عقاب يصل للإعدام اذا طال الانتقاد شخص صدام حسين وعائلته والمسؤولين الكبار في السلطة، في عام 2003 تم إسقاط نظام البعث الدكتاتوري واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها وبقي النهج المعادي للديمقراطية وحرية الإعلام والصحافيين غير الموالين للقوى المهيمنة والمخالفين لنهج المحاصصة الطائفية .
أن حقبة ما بعد الاحتلال وقيام اول حكومة عراقية بعد انتخابات 2005 لم تكن إلا وبال على الحريات وبخاصة الانتهاكات الفاضحة وعمليات الاغتيال والخطف والاعتقال التي تعرض اليها الكثير من المثقفين والصحافيين العراقيين كما أن عمليات التهديد بالقتل والخطف التي طالت أكثرية المثقفين والمعارضين كانت عبارة عن لغة العنف في تصفية ما يسمى ” بالخصوم أو تهمة الإرهاب ” وأصبحت هذه العمليات عبارة عن سياسة ممنهجة في مخططات الميليشيات والمافيات لإسكات اية معارضة حتى لو كانت مستقلة مثلما حدث للناشطين في انتفاضة تشرين وغيرها والتي سجلت حوالي اكثر من 800 شهيد واكثر من 20 الف جريح ومصاب وحدث ولا حرج عن الاعتقالات غير القانونية، ونتيجة فضائح السياسة المعادية لحرية التعبير وضد الصحافيين العراقيين فقد صرحت بلاسخارت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في بيان صحفي نشر في وسائل الإعلام “أن الأمم المتحدة تواصل في جميع أنحاء البلاد توثيق حالات المضايقة والترهيب الجارية، وكذلك حالات الانتقام التي تتم سواءٌ بالوسائل القانونية أو بالعنف ضد أولئك الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير” وأشار البيان الى حقبة اعتمدت على الطائفية والتقسيم والمحاصصة الطائفية التي أدت الى الكثير من المزالق الخطرة في التعامل مع حرية الرأي والتعبير، وقد ظهر اعتمادها في النهج الطائفي الذي قام على أساس تقسيم السلطة السياسة طائفياً ووفق المحاصصة المعروفة التي ارجعت العراق إلى الوراء بدون أي تقدم، و يذكر وفي هذا المضمار مئات الخروقات والانتهاكات والتضييق على الحريات، واشارت بلاسخارت في الختام على “استمرار التزام الامم المتحدة “بدعم العراقيين في الدفاع عن حرية التعبير وغيرها من الحقوق الأساسية أما قضايا الحريات الصحافية فقد تأثرت ايضاً وأصبحت عبارة عن تقليد وتابعة كما وتربى البعض على نهج التخلف في الرؤيا امام هذا النوع الجديد من القسرية واقحام الأسلوب الطائفي في عدم رسم سياسة صحافية متحضرة مبنية على مبادئ الوطنية الحقيقية، وقد واجه مختلف الضغوط والمتاعب في مجال كشف الحقائق وملفات الفساد امام الرأي العام، وظهر أن حرية الصحافة ترتبط اشد الارتباط بحرية الرأي وحرية التعبير وحرية الاختيار، وقيد كل ذلك وفق التهديد بعقوبات قانونية والملاحقات لكبت حرياتهم وعملهم المهني وقد أكد مفيد الجزائري رئيس تحرير جريدة طريق الشعب بمناسبة ” اليوم العالمي لحرية الصحافة ” على “وجوب الكف عن ملاحقة الصحفيين وكبت حقهم في التعبير الحر عن الرأي، ووجوب ضمان تمتعهم بحق الوصول الى المعلومات والحصول عليها والكشف عنها، ففي هذا ما يساعد الجهات الرقابية والتنفيذية على درء الفساد وإيقاف هدر المال العام”.
من المؤكد ان الصحافة المستقلة والحرة التي هي خارج الهيمنة السلطوية تعتبر حجر الزاوية في كشف الحقائق حيث توفر الخبر الصحيح والمعلومة على حقيقتها كما تكون رقيباً على ما يدور من فساد وظلم في مجال حقوق الانسان، في العراق تواجه الصحافة والصحافيين معوقات تمنعها من العمل بحرية ومن بين المعوقات والاخطار هي الاغتيال والقتل والاعتقال ومحاصرة الصحافيين الاحرار مادياً وبخاصة في الأوضاع الصعبة التي يمر بها العراق، وأكد السيد هادي جلو مرعي اثناء حديثه للجزيرة عن ” ما يزيد على 500 ( صحفي متضرر بمختلف الاضرار ) منذ عام 2003 في ظروف مختلفة بسبب العديد من الانتهاكات الحكومية وأجهزتها وانتهاكات القوات الأجنبية عدا عن تهديدات التنظيمات المتطرفة، وتحولت الأمور لاحقا إلى ملاحقات قضائية وتهديدات وترهيب” وقد كشف السيد مرعي عن حقائق من الانتهاكات التي جرت وتجري للصحافيين منها ” مصادرة المعدات ، والمنع من التغطية، وتحطيم الكاميرات واخذ اشرطة الفيديو” كما شار بوضوح الى ” التمييز بين مؤسسة وأخرى، والإبعاد عن العمل بطريقة تعسفية، والتأخر في دفع الرواتب، والامتناع عن تسديد مستحقاتهم المالية، والتمييز بين الموظفين والتنمر عليهم، وتهميش دور المرأة الصحفية وتعرضها لمضايقات داخل بعض المؤسسات” ان هذه الحقائق وغيرها والكثيرة جداً جعل العراق في التصنيف العالمي في المرتبة 163 في العالم من حيث الحريات الصحفية وقضايا الصحافيين، ان المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان تنص “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقييد بالحدود الجغرافية” هذا النص واضح لا يقبل التأويل والاجتهاد الكيفي لأنه يندرج ضمن حرية التعبير ولهذا عانت الصحافة والصحافيين العراقيين من الممارسات السلطوية وأجهزتها القمعية الأمرين ومن الملاحقات والاضطهاد وحجب الحريات ،وحاول البرلمان العراقي في المدة الأخيرة ان يفرض مشاريع تحمل بين طياتها تهديدات حقيقية لحرية التعبير وحرية الإعلام بما فيها حرية الصحافة، وكانت الحجة المصطنعة ” مكافحة الجرائم الالكترونية ” لكن الهدف الحقيقي من ورائه خنق حرية التعبير وخنق حرية الاحتجاجات والمظاهرات السلمية.
أن حرية الصحافة والصحافيين العراقيين يجب أن تصان وفق معايير القوانين المتعارف عليها في العالم وحقوق الانسان ووسائل الاعلام في العمل والتعبير، وأن لا تمس حريتهم وكرامتهم بأي شكل من الاشكال من قبل الحكومة والأجهزة الامنية تحت طائلة أي حجة او تضليل، لأن حرية الصحافيين التي انتهكت قبل ومن بعد 2003 عبارة عن نهج لدى القوى المتنفذة وهناك انتهاكات جمة بما فيها الاغتيالات والتغييب والاعتقالات الكيفية وهي جرائم يجب ان يعاقب عليها قانونيا مرتكبوها كما هو الحال لمفهوم الديمقراطية وحرية الصحافة في العالم، ولم نشهد خلال العشرين عام التي انصرمت أي اجراء قانوني عوقب به المجرمين الذي اسهموا في التجاوزات والاعتداءات والاغتيالات والاعتقالات بدون أي حق قانوني شرعي .
|