|
يصدمك الفضاء الروائي في الصياغة والتعبير والرؤية , في أحداث سردية مدهشة في تفاصيلها ومعطياتها في الطرح والتناول , كأنها تؤكد , بأن لكل زمن له يوسف يحمل صخرته على كتفه بأشكال مختلفة , ولكن يبقى البئر هو السائد والمسيطر على مشاهد المعاناة الحب والواقع , ويقول الكثير من الحكايات , تستمد قوتها وخامتها من مجريات الواقع الفعلي , من عقلية وثقافة المجتمع الظالم , ومن الاعراف العشائرية المتشددة تجاه ظلم واجحاف حق المرأة وسلب إرادتها بسيف القتل أو في جرائم غسل العار , حتى في تعاطي الحب البريء في نقاوته و طيبته وبساطته وعفته , كأن هذا الحب العفيف خطاً احمراً للمرأة والشرائح الفقيرة المظلومة , ولكن هذا المجتمع يبيح زواج القاصرات في عمر الطفولة , واغلبهن لا يتحملن اعباء الحمل , ويتعرضن لموت عند الولادة العسيرة , وهن لم يخرجن بعد من أحلام الطفولة البريئة ولعب الأطفال . لذا فأن المرأة بصورة عامة والريفية بصورة خاصة , تواجه جملة من الصراعات الاخطبوطية في الحرمان و الاجحاف والظلم . الاديبة ( رسمية محيبس ) تعاملت بجدية رصينة في كشف عيوب المجتمع ( العشيرة . التقاليد . السلطة ) في الحب في البيئة الريفية والفقيرة , بحكايات الحب العفيف النزيه في برائته ونزاهته وبساطته . نجد أن المعادلة غير متكافئة من الإجحاف بحق المرأة وخاصة الريفية , في مقابل التمسك المرأة بالحب العفيف والنزيه كسلاح تقاوم به الحياة والظروف الصعبة , لتدلل على قوتها في الحب , تجاه ضعفها في معطيات المجتمع الأخرى , أي بتعبير آخر نور الحب الطاهر بالوفاء يضيء الاحساس الداخلي , تجاه ظلام المجتمع الدامس . من هذا المنطلق توجهت الاديبة الى اعماق مشاعر والحب واحساس العشاق العميق بهذا الشغف واللهفة , بشخصيات يؤطرون الصورة الجميلة للحب في حكاياته , ليس الغرض استنساخ صور وحكايات الواقع , بل وضع الواقع في مجهر الجدل والمناقشة والتأمل والتفكير . ووضعنا أحداث السرد الروائي ومجرياته المتلاحقة على صفيح ساخن من أحداث تراجيدية ودراماتيكية في شخوص الرواية وكيف تعاملت الأديبة ( رسمية محيبس ) مع شخوصها أو مخلوقاتها , الذين حولتهم في نهاية المطاف الى جثث واموات , وكأنها تسير في طريق معبداً بالجثث المتناثرة هنا وهناك بشخصيات الروائية , هذا يضعنا أمام سؤال وتساؤل وجيه : هل هي نزوة عابرة ارتكبتها الأديبة تجاه مخلوقاتها ؟ أم أنها تريد ان تشير الى معنى ودلالة بليغة التعبير , بتحميل الواقع الظالم تبعيات اجرامه , ومعاناة المرأة , وظلمها حتى في اختيار الحب العفيف الذي أن يقتل بدم بارد , أن ينهزم بالخيبة والإحباط , لتدلل بأن المجتمع غير صالح للحب , وكانه يحرث الحب في رمال الصحراء , غير صالح للبقاء , فما على العشاق ويوسف الذهاب الى العالم الاخر , ربما يكون أكثر عدلاً وإنسانية , من ظلم الواقع فوق الارض , الذي يكره الصدق والنزاهة والعفة , لانه تعود على التزييف والتجاهل والظلم والاجحاف والخداع . بذلك تعاملت الاديبة بصدق وحقيقة من معطيات الواقع رغم مرارته كالعلقم . وبراعة النص الروائي , استلهام في تناص بشخصية النبي يوسف والبئر , مع يوسف الجديد , الذي يحمل صفات وخصائص وسلوك يوسف القديم , في الجمال والسحر كما تقول اسطورة النبي يوسف ( له بعض سمات النبي يوسف الذي تقول الأسطورة بأن الله خصه بنصف الجمال وترك لبقية البشر النصف الآخر ) ص12 , ولكن كما أبتلى يوسف القديم بالبئر , ايضاً ابتلى يوسف الجديد بالبئر الواقع الحياتي , حيث تهالكت عليه الازمات والمشاكل في حكايات الحب , رغم انه يفيض بالطيبة والصدق بكل مشاعره وإحساسه العميق , أن يسمع آهات وانين الحب المقتول من عمق شخصياته تجرعت مراته وافضت بكاياتها الى يوسف , يوسف المكافح بعقليته المتفتحة على الثقافة الإنسانية والأدب العالمي الانساني , يوسف ابن الريف والطبقة الفقيرة , عاش ظروف صعبة وقاسية , وكان يطمح الخروج من الواقع المأزوم بالتغيير , الذي يستجيب لطموحات وآهات الطبقة الفقيرة , والظروف القاسية للبيئة الريفية التي تتحكم بها الأعراف والتقاليد العشيرة المجحفة ضد المرأة والحب ( لم تمنحني الحياة بعد الوقت الكافي , والمناسب لي كما أرغب يا صديقي , نحن الفقراء لا يحق لنا أن نحب ونستمتع بالحياة يا عزيزي , الحياة بالنسبة لنا مجازفة كبرى , ولا أخفيك بأنني حظيت بمحطات مضيئة شعرت من خلالها بالأمان هنا , لكن في أعماقي شيئاً لم يريوِ بعد ! أنا ابحث عن الحنان , ولم أحظَ بعد بحضن دافىء , وها أنا أخرج كما تراني فارغ اليدين , أنها مجرد محاولات , لكنني اقفز في الفراغ ) ص160 . واصل تعليمه الجامعي بالانتقال من الريف الى المدينة ( بغداد ) وانخرط في الكثير من النشاطات الادبية والفنية والثقافية , وصاحب شخصيات مرموقة في الوسط الثقافي والأدبي , وواصل ثقافته في الغرف من ينابيع الاصيلة من الادب الانساني العالمي , وتعامل مع الأشياء بواقعية رصينة وهادفة , وتحاشى الانخراط في السياسة والحزبية والخوض في غمارها الصعب , وكسب ثقة واحترام الناس , أنه يوسف في براءة الحياة وطيبتها , يوسف يحب بيئته الجنوبية , الماء والصيد والمشحوف , احب الحياة الحرة , وكان يسعى الى زرع شتلات الخير والصفاء والمحبة , لكن كان الواقع كان كرمال الصحراء لا يزهر بالنمو والخصب والعطاء , وكانت نهايته المأساوية مثل باقي شخوص الرواية , حيث مات يوسف , في حادثة قطار بالاصطدام وسقط القطار في الوادي العميق , وراح ضحيته عشرات المجندين الذين ركبوا القطار مجاناً متوجهين الى الموصل , وكان يوسف مجنداً وذاهباً الى وحدته العسكرية في الموصل , لتنهي رحلة حياة يوسف بالموت , ولم يكتمل حلمه بالتغيير في اعوجاج المجتمع والأعراف الظالمة تجاه الحب والمرأة . ذهب الى العالم الآخر هو ما يزال غصناً اخضراً طرياً , يفوح بالعطاء والخير , ربما الذهاب الى العالم الآخر , ارحم واكثر أنسانية ( رحل في ظروف قاهرة من الفقر والحرمان , ومن أشياء أخرى , لا اعرف لمََ تجمع هذا الحزن كله في اجمل عينين في العالم ؟ ) ص172 . وكتب صديقه يرثيه حزناً ( ما يؤلمني ليس الموت ! فهو نهاية حتمية لنا , بل أنني أتألم , لان الايام غدرت بك , ولم تكمل حلمك الجميل , أيها الطائر نحو المستقبل بروح حية …….. عيناك لم تغيبا واسمكَ يتوهج في كل حين , كالنار التي كنا نشعلها في الليالي المظلمة , فتضيء العالم من حولنا ) ص174 . اذهب ايها المحبوب حرستك ملائكة السماء .
×× بعض حكايات الحب :
× حكاية حب حسنة وجواد :
هذا الحب يحمل صفة النقاوة والبساطة والشفافية العاشق الذي يتمسك بالوفاء , مهما كانت الضغوط الهائلة في كسر شوكة الوفاء. هذا الحب انتهى بالزواج المبكر والرحيل المبكر بعدما انجب طفلين , فقد قتل الزوج ( جواد ) في نزاع عشائري لا طرفاً ولا شريكاً فيه , وترك زوجته ( حسنة ) في ريعان الصبى والشباب , وعاشت مع أمها وطفليها تئن بجروحها واحزانها ( تجتر أحزانها أذا جاء الليل , وقد دفنت نفسها في الملابس السوداء , كشأن الجنوبيات الفاقدات , ولا يخلو لياليها إلا اذا سكبت الدمع مدراراً متذكرة الايام الخوالي , وهي مقعدة في الفراش لا تكاد تخرج من البيت ) ص87 , تقدم إليها الكثير لطلب الزواج , ولكنها كانت ترفض بذريعة تربية الاطفال حتى تبقى وفية لحبها لزوجها المقتول , وفي اثناء الانتفاضة عام 1991 , ضاعت اخبارها , ولكن بعد سقوط النظام وجدوا هويتها ضمن جثث المقابر الجماعية .
× حكاية حب بدرية :
المرأة الريفية تنتمي الى عائلة فقيرة, بعد وفاة والدها في الحرب , أخذت مسؤولية توفير العيش في العمل في السوق في بيع السمك لتوفير الخبز لعائلتها واخوتها الثلاثة , وساعدهم في تدبير أمور المعيشة في تقديم المساعدة من العم ( أبا عمران ) الكبير بالسن , وبعدها تزوجت , ولكن يلتف القدر لتجد ( ابا عمران ) ينهشه المرض في حالة يرثى لها أمامها , طريح الفراش بدون عون وسند , فكان واجبها ان ترد المعروف بتقديم المساعدة وتوفير العناية , وإبعاد وحشة الحياة والموت عنه , ولكن زوجها وقف حائلاً في تقديم المساعدة والعون , وهددها بالعواقب الوخيمة إن واصلت زيارته , فضطرت مجبرة على قطع الصلة في مواصلة زيارة العم ( ابو عمران ) وتمادى الزوج أكثر في تهديد ( ابا عمران ) , غاضباً ومزمجراً , لم يعجب هذا السلوك الخشن من زوجها , رغم أنها صارحته بما كان يقدم مساعدة لعائلتها , فخرجت من البيت وضاعت أخبارها في انتفاضة عام 1991, وبعد سقوط النظام وجدوا هويتها من بين جثث المقابر الجماعية .
جمعة عبدالله