منذ عقود وأزمة آلاف العراقيين الذين يعيشون من دون أوراق ثبوتية لا تزال مستمرة، حيث يفتقرون للوصول إلى أبسط حقوقهم في التعليم والصحة، كما لا يستطيعون تحصيل الإعانات والوظائف الحكومية التي تضمن لهم تقاعداً عندما يتقدمون في السن.
ويتم تقسيم العراقيين الذين يعيشون من دون أوراق ثبوتية إلى فئات عديدة، رصدتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في دراسة نُشرت في سبتمبر 2022، بعنوان “حالات انعدام الجنسية ومخاطر غيابها في العراق”.
والفئتان الرئيسيتان هما “الكرد الفيلية والبدون”، بحسب الدراسة التي تشير إلى فئات أخرى عديدة تعيش دون الحصول على أوراق ثبوتية وهم “الغجر والعراقيون من أصل أفريقي واللاجئون عديمو الجنسية من سوريا والأقليات الكردية في منطقتي جويان والعمرية من تركيا”.
أضيف إليهم في السنوات الأخيرة، الأطفال المولودون من آباء منتمين لتنظيم داعش (منهم أطفال الأيزيديات المختطفات، والفتيات اللواتي تزوجن من أعضاء التنظيم الذين قتلوا أو اختفوا خلال المعارك).
وعلى الرغم من المحاولات السابقة التي بذلتها المفوضية وشركاؤها “إلا أنه حتى الآن وفي غياب دراسة شاملة، لم تتوفر تقديرات دقيقة عن حالات انعدام الجنسية أو الأشخاص المعرضين لخطر انعدام الجنسية في العراق”، كما تقول الدراسة.
الافتقار للإحصاءات
يؤكد القانوني صفاء اللامي لـ”ارفع صوتك”، وجود عراقيين من دون أوراق ثبوتية، لا توجد إحصاءات دقيقة بأعدادهم لا سابقاً، ولا في الوقت الحالي.
ويقسمهم لثلاث فئات أساسية: “الأولى، العراقيون الذين يعيشون في المناطق النائية أو من البدو الرحل، وهؤلاء ليس لديهم ثقافة قانونية، ولا يرغبون بإصدار أوراق رسمية ولا يسجلون عقود الزواج أو الولادات أو الوفيات، لأن لديهم نمط معيشة خاصا بهم. وأغلبهم ليس في نيتهم التسجيل”.
“والثانية، ما خلفته الكوارث والحروب في المجتمع، وهم مقسمون بدورهم إلى الأطفال الذين يتم العثور عليهم خلال تفجيرات الحرب الطائفية أو المناطق المنكوبة في الحروب، والأطفال الذين عثر عليهم تائهين خلال فترات النزوح، وأبناء مقاتلي داعش. أما الفئة الثالثة فهم مجهولو النسب الذين يتم العثور عليهم في مناطق مختلفة من العراق”، يوضح اللامي.
ويضيف أن هذه التصنيفات “تمثل الأغلبية من حالات عدم القدرة على استخراج الأوراق الرسمية مثل الجنسية وشهادة الجنسية وغيرها”، مردفاً أن “المشكلة الأساسية أن العراق يفتقد للنص القانوني للتعامل مع حالاتهم وتسجيلهم في المحاكم الرسمية، ما اضطر الحكومة إلى تشكيل لجنة للبت في القضايا من هذا النوع ورفع توصيات للقضاء ولوزارة الداخلية بشأنهم”.
وعن الكرد الفيليين والبدون من الذين يعيشون في مناطق جنوب العراق، “وجدت الحكومات ما بعد 2003 حلولاً قانونية لهذه الفئات كونهم من الذين أُسقطت عنهم الجنسية بقرارات حكومية وتم ضم أغلبهم إلى السجلات الحكومية من جديد”، وفق اللامي.
التجريد من الجنسية
أول حالة إسقاط للجنسية وتجريد للعراقيين من أوراقهم الثبوتية تمت خلال العهد الملكي (1921-1958) في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بموجب القانون “رقم 1 لسنة 1950″، الذي بموجبه تم تجريد أكثر من 120 ألف يهودي عراقي من جنسيتهم.
أسباب إسقاط الجنسية حينها جاء بذريعة مغادرة اليهود من العراق بصورة مشروعة أو غير مشروعة وبطريقة مخالفة للقوانين، ولم تراع الحكومة العراقية آنذاك تعرضهم إلى اعتداءات دموية، أدت إلى مقتل العشرات وجرح المئات وتدمير منازلهم في حوادث أطلق عليها اسم “فرهود اليهود”.
وفي عام 1980 تكررت الحالة من جديد، وهذه المرة ضد الكرد الفيليين حين أصدر مجلس قيادة الثورة حينها المرسوم المرقم (666) لتجريد 250-300 ألف كردي فَيلي من الجنسية العراقية تحت فرضية ولائهم المزعوم إلى إيران، وتجميد سجلاتهم المدنية.
بعد عام 2003، تم إلغاء المرسوم واستعاد أغلب الكرد الفيلية أوراقهم الرسمية بموجب الدستور العراقي الذي أقر عام 2005، باستثناء (3-5)% منهم لم يتمكنوا من استعادة جنسياتهم العراقية وهذا يعني وجود (9000-15000)، شخص بحسب إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
مع ذلك، بقي اليهود العراقيون مستثنين من هذه القرارات ولم يتمكن أي منهم أو من أبنائهم استعادة هوياتهم التعريفية العراقية لشروط الإقامة والشمول بتعداد السكان الذي أجري عام 1957.
مشاكل عالقة
أصبحت مسألة عدم الحصول على إثبات الجنسية لبعض الفئات العراقية كما يقول الباحث الاجتماعي ولي الخفاجي “من المشاكل العالقة، رغم أنها تتعلق بالعديد من شرائح المجتمع مثل الفيليين والبدون والغجر ومجهولي النسب”. مبيناً وجود شريحة جديدة أضيفت لهم بعد عام 2014 وهم “أبناء مقاتلي تنظيم داعش”.
ويقول الخفاجي لـ”ارفع صوتك” إن حل مشاكل أغلب مجهولي النسب يتم “عبر طريق قانوني طويل يتطلب إنجازه سنوات عديدة بالنسبة للأطفال المودعين في دور الأيتام والمشردين، يتم خلاله رفع القضايا إلى المحاكم المختصة التي ترفع توصياتها لوزارة الداخلية، من أجل فتح سجل خاص تمنح بموجبه اسماً ثلاثياً ويتم تسجيل الأهل كمتوفين”.
ويلفت إلى أن موضوع أبناء داعش “أكثر تعقيداً” لأن “المشكلة تكمن بتوافد الكثير من أعضاء التنظيم بعد اجتياح داعش لمناطق عراقية عديدة من خارج البلد وبشكل غير رسمي، ثم قام هؤلاء باختطاف الفتيات أو تزوجوا بعراقيات وغير عراقيات أنجبن منهم أو كن يحملن أطفالاً عندما ألقي القبض عليهن وتم إيداعهم (الأمهات وأطفالهن) السجون، ما تسبب يزيادة أعداد الأشخاص من دون إثباتات شخصية”.
المشكلة في تسجيل هؤلاء الأطفال، بحسب الخفاجي، أن أمهاتهم “لا يملكن أوراقاً ثبوتية لزواجهن ولم يتم تسجيل أطفالهن حين ولادتهم، وغالباً ما يكون الأب غير موجود”.
“والصعوبة الحقيقية في حالتهن تأتي من كون الزوج سواء كان عراقياً أو أجنبياً لا يمكن العثور عليه. فإما أنه قُتل في معارك التحرير أو هرب وترك الزوجة والأطفال لمواجهة مصيرهم بمفردهم”، يتابع الخفاجي.
نظرة مجتمعية
واقع الحال المُعاش بالنسبة لمن هم دون أوراق ثبوتيه في العراق بدا بالنسبة للخفاجي يحمل نفس أهمية الحصول على هوية الأحوال المدنية وغيرها.
يقول: “نحن هنا أمام مشاكل اجتماعية حقيقية هائلة تعيشها هذه الفئات، ففي حين حظيت فئات معينة بالتعاطف كونهم يعيشون من دون أوراق ثبوتية نتيجة ظلم وقع عليهم، لا تجد فئات أخرى مثل هذا التعامل بل على العكس هم منبوذون اجتماعياً”.
ويقسم الخفاجي من يعيشون دون أوراق ثبوتية إلى فئتين، إحداهما “إيجابية مقبولة اجتماعيا وتم التعاطف معهم، مثل الكرد الفيليين والبدون. وأخرى سلبية مرفوضة اجتماعياً وهي فئة مجهولي النسب وأبناء مقاتلي داعش والغجر، رغم أنهم غير مسؤولين عن وضعهم الخاص الذي وجدوا أنفسهم فيه، وهذا أصعب ما يواجهونه”.
القضية القانونية “يمكن معالجتها. لكن، النظرة الاجتماعية من الصعب تغييرها وهي تعتبر من أهم المشاكل التي تواجهها فئات من عديمي الجنسية، وهي محط نقاش في الكثير من المؤتمرات والندوات والاجتماعات، دون الحصول على نتيجة حقيقية لأي منهم”، يضيف الخفاجي.
ويتابع أن “طبيعة المجتمع العشائرية تجعل من الصعب على أي منهم الانخراط ضمنه مهما بذل من جهد، فلكل شخص عشيرة ينتمي لها وليس من السهل العيش ضمن مجتمع يتباهى أفراده بعشائرهم”.
ويضرب الباحث المثل بالأطفال الذين خرجوا من دور الإيواء، وغيرهم ممن يعيش من دون أوراق ثبوتية في المجتمع العراقي، فهم “يصطدمون بمشاكل كبيرة، ولا يتمكنون من الحصول على فرص عمل أو مهنة بسهولة أو الزواج وغيرها من أمور الحياة العادية”، على حد وصف الخفاجي.
ويؤكد أن هذه “معاناة كبيرة ليس من السهل تخطّيها إلا في حالات قليلة بمساعدة بعض الخيرين ممن يقومون بالتبني والاحتضان”.
الغجر.. أزمة هوية
“عالج القانون العراقي مسألة حصول الغجر العراقيين على أوراق ثبوتية على شكل مراحل، بحملة أطلقناها عام 2016 حملت اسم “الغجر بشر” وتمكنا فعلاً من الحصول على استثناء من وزارة الداخلية لإصدار بطاقات الهوية في مارس 2019″، تقول الناشطة المدنية منار الزبيدي لـ”ارفع صوتك”.
انطلقت في حملتها من قرية الزهور الغجرية بمحافظة الديوانية. تبيّن: “الغجر العراقيون محرومون من التعليم والصحة، ويعانون من التمييز المجتمعي ضدهم، فلم تكن القرية تتضمن أي مدرسة أو مركز صحي، وهو ما تحقق بشكل خجول خلال الأربع سنوات الماضية”.
مع ذلك، تؤكد الزبيدي “أن الغجر حصلوا على استثناء من قانون الجنسية بتعليمات من وزير الداخلية وليس عبر تغيير القانون عن طريق التصويت في مجلس النواب لضمان حقوقهم وحقوق أبنائهم في المستقبل”.
وتشير إلى أنه حتى اليوم “يعيش الغجر في خوف من أن يتم إلغاء التعليمات تحت أي سبب فتحرم الأجيال القادمة من حق الحصول على الجنسية”.
وتستدرك الزبيدي قائلة: “رغم ذلك نجد عدداً غير قليل من الغجر لم يبادروا إلى استخراج البطاقة الوطنية كونهم من غير المتعلمين، أو لعدم قدرتهم على الوصول إلى المؤسسات الحكومية بسبب الفقر، أو مواجهة الروتين الحكومي، فيتوقفون عن المراجعة لدوائر الدولة”.
ما تحدثت عنه الزبيدي رصدته دراسة المفوضية التي أشارت إلى أن تعقيد الإجراءات والافتقار للوثائق المطلوبة وقلة الوعي بالإجراءات، والعقبات العملية مثل مسافة الوصول إلى الدوائر والفقر والتمييز المتصور، من الأسباب التي تعيق حصول بعض الأفراد والأسر على الجنسية، وتحول دون الوصول للوثائق وتعرض الأشخاص لخطر انعدام الجنسية ومنع وصولهم إلى حقوقهم كمواطنين.
ميادة داود