توارث الصابئة المندائيون عبر الأجيال صياغة المعادن الثمينة كالذهب والفضة، ونقشها وتزيينها بالمينا، لتتحول إلى موروث ثقافي واجتماعي مرتبط باسم الطائفة سواء في العراق أو على أرض المهجر، حيث استقر معظم أبنائها حين تردت الأوضاع الاقتصادية والأمنية في بلدهم.
ولم تكن الصياغة بالنسبة للصابئة المندائيين مجرد مهنة يعتاشون منها بل تحولت إلى “جزء لا يتجزأ من تراثها الإنساني، فلا يُذكر الصابئة إلا ويكون اسمهم مرتبطاً بشكل وثيق بصياغة الذهب والفضة في جميع محافظات العراق” يقول الصائغ الصابئي حامد رويد لـ”ارفع صوتك”.
هذا الارتباط الوثيق بين أبناء الديانة والعمل الحِرفي المتوارث في صياغة الذهب والفضة أغرى رويد لترك تخصصه في هندسة النفط ليتجه إلى دراسة النحت في كلية الفنون الجميلة ببغداد.
ويشرح السبب: “هذا الارتباط العائلي يجبرك دون أن تشعر على الاتجاه نحو هذه المهنة التي تتحول إلى شغف، فأينما تدور ببصرك يكون هذا الفن معك في منزلك ومنازل أقاربك فهو جزء من بيئتك وتربيتك”.
وفن الصياغة الصابئي، بحسب رويد، له عدة فروع “تصب بالنتيجة في بوتقة واحدة”، وهي عبارة عن ثلاثة فروع أساسية لا يكاد يفصلها عن بعض من لا يعمل في المهنة.
يتابع: “في البداية هناك من يقوم بإعداد القطعة، وهو بدوره يسلمها للنقاش حين يكون مطلوباً نقش كتابة أو رسم، ثم تنتقل إلى يد المتخصص بزخرفتها بمادة المينا عند رغبة الزبائن بذلك. وهناك حالات نادرة جداً”يقوم فيها شخص واحد بإنتاج القطعة ثم نقشها وطلائها، أي أن يقوم بالمهمات الثلاث في وقت واحد”.
وكانت حصة عائلة رويد من الفروع الثلاث “النقش على الذهب والفضة”.
جذور تاريخية
يقول الباحث المتخصص في التراث عباس عبيد: “من الصعب معرفة توقيت احتراف الصابئة لمهنة الصياغة، ففن تطويع المعادن معروف في العراق منذ آلاف السنين، مثل ذهب الملكة شبعاد الذي يعود لنحو 4700 عام قبل الميلاد، وهو مطعم بالفضة والأحجار الكريمة وفيه اشتغال على المعادن الثمينة بحرفية عالية”.
ورغم ذلك يشير الباحث في حديثه لـ”ارفع صوتك” إلى أنه “أمكن تتبع تطور المهنة قديماً، عبر دراسة أماكن تركز الصابئة وانتشارهم، ومعرفة علاقتهم بحرفة التعامل مع المعادن، حيث يسكنون قرب المياه لارتباطها بطقوسهم الدينية”.
ويتركزون في “ثلاثة مناطق عراقية بمحافظة ميسان وفي الناصرية كما يوجد عدد محدود منهم في البصرة، ولهم وجود مهم في المناطق الإيرانية الجنوبية المحاذية للعراق حيث يبرعون بصياغة الفضة”، وفق عبيد.
ويوضح، أن هذا الارتباط المُحكَم بالماء أدى بالنتيجة إلى “احترافهم صناعة أدوات الصيد والزراعة مثل المسحاة والفالة والرمح وآلات ذر الحنطة بعد الحصاد وسكين تكريب النخيل، ومسامير صناعة الزوارق، وهو يشكل بداية التعامل مع المعادن وما يتطلبه من إذابة وتشكيل”.
وبالإضافة للصناعات المتعلقة بصيد الأسماك والزراعة، مارس الصابئة المندائيون التجارة المرتبطة بالِحرف والمهن التي اقتصرت عليهم، كما يقول المؤرخ نبيل عبد الأمير الربيعي لـ”ارفع صوتك”، منها “صناعة الزوارق وإصلاحها ونجارة الأثاث، ونحت صناديق خشبية لحفظ الأشياء الثمينة، إذ تفنَنَ المندائيون في صناعتها بأشكال جميلة يتم حفرها ونقشها يدوياً وتزيينها بالمسامير النحاسية”.
ونتيجة لكل هذه الأعمال التي تمكن الصابئة من إتقانها بحسب عبيد، “أمكن تتبع تطور المهنة لديهم وصولاً إلى صياغة الفضة وطرقها قبل نحو 200 عام، فيطوعها الحرفي ويصنع منها الحُلي مثل الخواتم والقلائد وكثير من الأدوات”.
وهي مهنة حافظوا عليها واعتبروها “مهنة متوارثة من جيل إلى آخر لا يعطون أسرارها خارج العائلة حتى لا يكون هناك منافسون”، على حد تعبير عبيد.
القرن العشرين
يبيّن الربيعي، أن “قلعة صالح في محافظة ميسان كانت من مراكز الإشعاع الديني لطائفة الصابئة، الذين بدأوا يهاجرون منها إلى بغداد أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث ازدهرت فيها التجارة وزاد الطلب على مهنة الصياغة”.
ويؤكد أن “بغداد كانت من أهم مناطق الجذب لمهنة الصياغة بعد انتهاء العهد العثماني ودخول القوات البريطانية وقدوم السياح الأجانب، الذين كانت تجذبهم الصياغة المتقنة للسلع الفضية من أساور وقلائد وبروشات”.
وكان مقر تجمع محال الصاغة الصابئة “في شارع النهر حيث وصلوا إلى شهرة كبيرة، بفضل القفزة الاقتصادية، والطلب الكبير على المشغولات الفضية لاقتنائها كهدايا وتذكارات من قبل الجنود والسياح”، كما يقو ل الربيعي.
ويوضح: “تخصص القسم الأغلب من الصابئة بصناعة المينا حتى أبدعوا فيها. وأتقَنوا فن نقل الصور بضبط ودقة فكانوا يستطيعون نقل الصورة الشمسية على علبة السيجار الفضية، أو على خاتم صغير. كما حرصوا على حفظ أسرار هذه المهنة لهم ولأبنائهم من بعدهم، ولا يبوحون للغير بها”.
ومع هجرة اليهود من العراق في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، استلم الصابئة أعمالهم في بيع وشراء وصناعة الذهب، لتنتعش تجارتهم وتكبر، كما ذكر الصائغ توفيق بقال في مذكراته التي حملت عنوان “ذكريات بغدادية”.
وحتى ثمانينيات القرن الماضي، “بقي شارع النهر مقصداً للعرائس لشراء متطلبات الأفراح من مصوغات ذهبية وكماليات للتزين بها في يوم زفافهن”.
أشهر الصاغة الصابئة
أهم مشكلة تواجه الباحثين في مجال دراسة علاقة الصابئة بالصياغة كما يقول عباس عبيد، “عدم وجود وثائق محفوظة تتعلق بقدرتهم على الإبداع والإنتاج”، مستدركاً “لكن، يبقى لدينا ما تم تناقله في التاريخ الحديث، وما تم صناعته والاحتفاظ به من قبل كبار الشخصيات السياسية والفنية حول العالم”.
أما أكثر العوائل شهرة في مجال الصياغة، فهي “عائلة زهرون وأنيس الفياض ومال الله وغيرهم كثيرون تحولت أسماؤهم إلى ماركات (علامات تجارية) تزيد من قيمة منتجاتهم”، وفق عبيد.
في السياق ذاته، يقول حامد رويد، إن مهنة الصياغة لدى الصابئة اليوم “تمثل التطور الذي وصلت إليه خلال 150 أو 200 عام من العمل مع المعادن الثمينة، وما تم نقله داخل الأسر الصابئية التي اشتهرت خلال تلك الفترة مثل عائلة زهرون وعائلة مران التي ينحدر منها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعرة لميعة عباس عمارة التي كان والدها واحداً من أشهر الصاغة في العراق”.
وبحسب نبيل الربيعي، فإن “زهرون الملا خضر يعتبر واحداً من أهم الصاغة الصابئة. عرفه الملوك والساسة الكبار ومنهم الملك فيصل الأول والملك غازي، كما أن أعماله تعرض الآن في المزادات كأية أعمال فنية ذات قيمة كبيرة، وذكره الكتاب والمستشرقون الذين زاروا مدينة العمارة خلال نشوء الدولة العراقية”.
ويشير المؤرخ هنا إلى كتاب المستشرقة والباحثة الليدي دراوور المنشور عام 1923، حيث ذكرت الصائغ زهرون في كتابها “على ضفاف دجلة والفرات” وقالت: “زهرون هذا أبدع صاغة الذهب والفضة من الصابئة صيتاً، وتدر عليه صناعته هذه رزقاً حسناً. إنه في الخمسين من عمره، ولو وضع اسمه على أي مصاغ لارتفعت في الحال قيمته أضعافاً مضاعفة”.
وذكرت أن ولي عهد إنجلترا، والسير بيرسي كوكس المندوب السامي، عرضا عليها بعضاً من مقتنياتهما التي صنعها زهرون.
كما وصفت الليدي دراوور نقوش زهرون على أواني الفضة بأنه يمكن للإنسان وهو ينظر لها “تلمّس روح الفنان، فيخيّل إليك أن السفينة تجري حقاً، وأن الإبل تباري الريح في سيرها حثيثاً، وأن النهر يتدفق بمائه غدقاً”.
في دول المهجر
مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية واجتياح العراق للكويت وفرض الحصار الاقتصادي (1990-2003) “تراجعت مهنة الصياغة كثيراً حتى كادت أن تنقرض بفترات متقطعة بعد تراجع الطلب، لأن قدرات المواطنين المالية كانت ضعيفة جداً فرجع الصاغة إلى العمل اليدوي المقتصر على الصيانة أو التصليح”، يقول المؤرخ نبيل الربيعي.
ويضيف لـ”ارفع صوتك”: “بدأ أتباع الطائفة الصابئية بالهجرة من العراق مع تدهور الوضع الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، وزادت وتيرة الهجرة بعد عام 2003 مع أحداث العنف الطائفي (2006-2007) حتى لم يبق منهم اليوم إلا بضعة آلاف”.
الصائغ الصابئي رويد، يفسر من جهته هذه الهجرة بالقول “عند تعرض أي بلد لظروف صعبة كما حصل في العراق، تهاجر الأقليات حفاظاً على حياتها وممتلكاتها، لأنها لا تجد من يحميها”.
ويضيف: “نرى اليوم تواجداً للصابئة في ألمانيا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك لم يترك الصاغة الصابئة مهنتهم، سواء من الذين بقوا في العراق، أو الذين هاجروا، حيث افتتح كل منهم مشغلاً لصياغة الذهب والفضة”.
ويحرص رويد الذي يسكن منذ أعوام في الأردن ولديه مشغله العائلي، على “نقل مهنة الصياغة إلى من لديه الشغف من أبنائه”.
وبدا متفائلاً حين ختم حديثه مع “ارفع صوتك” بالقول: “هذه المهنة لن تندثر، فهي جزء من تراث الصابئة المندائيين الإنساني، ونحرص على نقل كل الخبرات التي تم اكتسابها إلى الأجيال المقبلة كما تم نقلها لنا. فصياغة الذهب والفضة فن متوارث يُقبِل على اقتناء منتجاتها الذواقة في كل زمان ومكان”.
ميادة داود