زار وزير الخارجية التركي هاكان فادان، العراق، لبحث عدة قضايا مع قادة بغداد، على رأسها سُبُل تقويض حزب العمال الكردستاني.
وبحسب التسريبات الإعلامية، تعهدت أنقرة بتعميق العلاقات الاقتصادية وزيادة كميات المياه المتدفقة إلى بلاد الرافدين، بشرط تعاونها مع تركيا في الإجهاز على حزب العمال الكردستاني.
لا يعدُّ هذا الطلب جديدًا، إذ سبق وأن أعربت تركيا مرارًا عن رفضها تمركز المسلحين الأكراد على الحدود، لهذا نفذت عدة عمليات عسكرية في عُمق الأراضي العراقية آخرها عملية “مخلب السيف” عام 2022، في خطوة أثارت غضب بغداد وندّدت بها.
المنظمة العسكرية الكردية مصنّفة كتنظيم إرهابي من قِبَل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتتبنّى أنقرة رواية معادية لكافة أنشطة الحزب، معتبرة أنه يسعى لتفكيك الدولة التركية، وطيلة 30 سنة نفّذ عمليات عسكرية استهدفت أمنها وتسبّب في مقتل أكثر من 40 ألف تركي، وفقًا لما ذكره دياري صالح مجيد في دراسته “حزب العمال الكردستاني في العراق: قراءة جيوبولتيكية” عام 2019.
بسبب طول أمد النزاع وضخامة عدد ضحاياه أصبح حزب العمال الكردستاني يمثل أكبر مشكلة تشغل المنطقة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، بحسب تعبير عامر الجومرد في بحثه “التكييف القانوني لما نجم عن عمليات مقاتلي حزب العمال الكردستاني”.
النشأة: ثورية دموية
منذ بداية السبعينيات زاد الزخم الثوري في صفوف الشباب الكردي تأثرًا بالأفكار الماركسية اللينية التي اعترفت بالقوميات.
في 1974 تأسس اتحاد “طلبة الدراسات العليا في أنقرة”، وسعى لتجنيد الطلاب الأكراد في صفوفه، وتزّعمه عبدالله أوجلان الذي لُقِّب بـ”آبو”. من هذا الاتحاد تكوّنت المجموعة القتالية “جيش التحرير القومي”، وبات أعضاؤها يُعرفون بِاسم “أتباع آبو”.
وخلال عامٍ واحد انتقل أفراد هذه الجماعة من أنقرة إلى المناطق الكردية حيث بدأوا في شن عمليات عسكرية من هناك. لم يكن “العمال” أول حزب كردي ينتهج العنف لتنفيذ أجندته السياسية، إنما نشبت أول حركة كردية مسلحة سنة 1925 أعقبتها حركة “آرارات” (1927- 1931) ثم حركة “درسيم” (1937-1938)، وجميعها قُوبلت بقمعٍ عنيف من الحكومات التركية.
قبل الاستقرار على الاسم النهائي للحزب الكردستاني ظهر بأكثر من تسمية مختلفة؛ فمرة بِاسم “مؤتمر الحرية والديمقراطية الكردستاني” (KADEK)، كما حملت بعض أفرعه اسم “الجيش الشعبي لتحرير كردستان” (ARGK) ) وأيضًا ظهر فرع آخر حمل اسم “قوات الدفاع الشعبية” (HPG).
نفذت هذه المجموعات عمليات عسكرية محدودة مثل إرهاب المدنيين الأتراك أو التعدّي على بعض المسؤولين الحكوميين لذا لم تُصنّفهم تركيا بأكثر من أنهم مجرد “قُطاع طُرق”.
لكن في 1979 حدث التطوّر العملياتي الأكبر حينما أُعلن دمج جميع هذه الفروع تحت مظلّة عسكرية واحدة هي “حزب العمال الكردستاني” (PKK)، وعُين أوجلان سكرتيرًا عامًا له.
وبسبب تبنّي الحزب نظام العمل العسكري اللامركزي، ظهر العديد من الفروع التي حملت اسما مستقلاً لكنها عملت عسكريا تحت إشرافه، مثل “مجلس شباب كردستان” و”حركة الشباب المستقل” و”حركة الشباب الديمقراطي” التي نشطت في إيران والعراق، و”حركة الشباب الحُر” العاملة في سوريا وأوروبا.
لم يكتفِ الحزب بتنفيذ عمليات في الأراضي التركية وحسب، إذ امتدّت أنشطته إلى الخارج أيضا فنفّذ عملية تفجير النقصلية التركية في ستراسبورج عام 1980.
في العام نفسه شهدت تركيا انقلابا عسكريا قاده كنعان إيفرين رئيس أركان الجيش وخلّف تصاعدًا حادًا للقومية التركية واتخاذ مواقف شديدة العداء تجاه الأكراد.
بناءً على هذا الوضع الجديد، اضطر أوجلان للهرب إلى سوريا حيث نجح في كسب ثقة الرئيس حافظ الأسد الذي سمح له بجلب مسلحيه إلى سوريا. وحتى عام 1984 أقام مقاتلو حزب العمال عشرات المعسكرات في سوريا ولبنان بمساعدة منظمة التحرير الفلسطينية.
نشط مقاتلو الحزب في استهداف دوريات الجيش والشرطة والثكنات العسكرية التركية، وما بين عامي 1989 و1990 نفّذ الحزب 251 عملية.
في 1998 ضاقت تركيا بالأنشطة الكردية العسكرية في سوريا فحشدت قوات عسكرية ضخمة من أجل تصفية المعسكر الرئيس لحزب العمال في “وادي البقاع”، وهو أرض لبنانية تسيطر عليها سوريا.
انتهت هذه الأزمة بإغلاق المعسكر وطرد أوجلان وأتباعه من سوريا فغادروا إلى العراق، وكانت بداية انتشارهم في شمال البلاد وتحديدًا في جبل قنديل.
العراق: علاقات معقدة جدا
منذ عام 1991 أصبحت منطقة كردستان العراق، شمال (خط 32)، ملاذًا آمنًا خصوصا أنها كانت تحت طائلة الحظر الجوي على هامش حرب الخليج الثانية، ما جعلها خارجة عن سيطرة بغداد، فصارت بيئة آمنة لحزب العمال للاستمرار في جذب وتدريب الأتباع وإقامة عشرات المخازن للأسلحة والمؤن.
في هذه المنطقة نجح الحزب الكردستاني في استغلال الجغرافيا الحدودية المعقدة بين العراق وإيران وتركيا لبناء قواعده العسكرية، وبات له حضور واضح في جبال قنديل، وهو الوجود الذي تعتبره أنقرة تهديدًا خطيرًا لها، حتى أن وزير الداخلية التركي سلَيمان حسن صويلو، صرّح بأن “منطقة قنديل يجب أن تصبح مكانا آمنا بالنسبة لتركيا”.
في المقابل، تتمنّى تركيا فصل “قنديل” عن بقية القرى المحيطة بها التي ينتشر بها مقاتلو حزب العمال وسيطروا عليها لعقودٍ طويلة، لذا لم تتوقف عن شنِّ هجماتٍ عسكرية ضد مقاتلي الحزب في هذه البقاع، حتى أنها في بعض المرات توغلت بقواتها مسافة 35 كيلومترًا في عُمق الأراضي العراقية لكنها حتى الآن لم تتمكن من إحراز نصرٍ حاسم في هذا الشأن.
في السابق، كانت هذه العمليات تتم بموافقة حكومة صدام حسين، فخلال انشغاله التام بحربه مع إيران اتفق مع تركيا على السماح لها بدخول الأراضي العراقية لتتبع الخلايا الكردية “بعمق 30 كيلومترا، وبقوة لا تزيد عن فرقة ولمدة لا تزيد عن 72 ساعة، بموجب اتفاق أمني يُجدد سنويا”.
من جانبه، حاول أوجلان التوصل إلى حلٍّ مع الحكومة التركية فطالب بوقف النار ثم تراجع عن إقامة دولة مستقلة وطالبَ بإقامة منطقة حكم ذاتي تخضع فيدراليا إلى تركيا، وهي المطالب التي رفضتها أنقرة وواصلت عملياتها العسكرية ضد حزبه، حتى اعتقلته عام 1999 وحكم عليه بالإعدام ثم استبدلته بالسجن مدى الحياة.
وبرغم العمليات العسكرية المتواصلة ضد الحزب الكردي، إلا أنه تمكّن من الصمود. وفي 2014 ازداد رسوخا في العراق عقب سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الموصل.
لاحقا، اتهمت تركيا الحزب بالسعي لاستغلال الفراغ الناشئ عن قتال داعش للاستيلاء على المزيد من المُدن الإستراتيجية على رأسها تلعفر ذات الأغلبية التركمانية السُنية، وسنجار ذات الأغلبية الأيزيدية، التي شهدت اشتباكات بين مقاتلي البيشمركة وحزب العمال الكردستاني، مضيفة المزيد من التعقيد على الصراع الكردي-الكردي في العراق.
بشكلٍ عام فإن العلاقة بين الحزب الديمقراطي (الذي يقوده آل برزاني) وحزب العمال متوترة بشدة بسبب الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بممارسة أنشطة ضارة بالآخر، واعتبر أن “أنشطة حزب العمال جرّت الإقليم إلى حربٍ لا يريد خوضها ضد تركيا، وأن قتاله المتواصل ضد أنقرة عطل خطط التنمية الموضوعة وأدّت لمقتل عشرات السكان المحليين”.
فيما يتهم حزب العمال قادة أربيل بأنهم “عملاء لتركيا العدو الرئيس للقضية الكردية، وأنهم يقدمون العون لأنقرة في عملياتها العسكرية في قنديل وسنجار”.
في المقابل، فإن حزب العمال يمتلك علاقة متوترة أيضا مع القطب السياسي الكردي الآخر وهو الاتحاد الوطني (الذي يقوده آل طالباني)، بلغت حدَّ إغلاق كل طرف مقرات الحزب الآخر في سنجار ثم السليمانية، وهو القرار الذي لاقى ترحيبا تركيا متوقعا.
الاتحاد الوطني مثله مثل الحزب الديمقراطي يتمنّى توثيق علاقته بأنقرة حتى تكون شريكا اقتصاديًا أكثر فاعلية لتصدير ثرواته الطبيعية للخارج وعلى رأسها النفط.
من ناحية أخرى، وبحسب دياري مجيد، فإن سياسيين عراقيين في بغداد لا يجدون بأسا من السماح لحزب العمال الكردستاني بالنمو في التربة العراقية ليكون ورقة ضغط مهمة في العلاقات العراقية التركية، كما أنه سيشكل توازنا هاما ضد نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يمتلك علاقات متردية مع بغداد في الفترة الأخيرة.
هذه السياسة أثارت حفيظة أربيل التي طلبت من بغداد رسميًا عدم السماح لحزب العمال بالمشاركة في عملية تحرير الموصل، وسط تخوفات من قادة أربيل بأن يسعى الحزب للمزيد من التوغل في العراق، وهذه المرة في كركوك.
الهاجس الرئيس في نفوس قادة أربيل تجاه نوايا حزب العمال في كركوك، تلك المدينة النفطية بالغة الأهمية للأكراد، جاءت على خلفية نشاط حركة المجتمع الحر الكردستاني، إحدى أذرع حزب العمال في العراق، والتي تسعى بنشاط لتأسيس حضور فعال لها في كركوك.
ميادة داود