حكاية من تلك الايام
الى ذكرى رحيل الشهيد، جواد كاظم الكرخي، الصديق وزميل الدراسة والسكن الجامعي، الذي غادرنا مغدورا في 15
اذار 1979 …
كتبت هذا النص، في دولة الكويت التي وصلتها مشيا عبر الصحراء، بعد اضطراري لترك وطني أثر القمع البعثي العفلقي
الصدامي الوحشي لكل من رفض سياسة التبعيث الشوفينية الفاشية. نشر النص في خريف العام 1979 في مجلة العامل
الكويتية ضمن مسلسل حكايات بعنوان (حكايات من زماننا) ووقعته باسم مستعار
(شياع مساعد فهد ــ بيروت) ـ لاحظ تركيبة الاسم! ـ. لابد هنا من الاشارة بتقدير
كبير الى موقف الصحافة الكويتية الديمقراطية، واحتضانها لأقلام العشرات من الكتاب
العراقيين، اليساريين والديمقراطيين، الذين وصلوا الكويت تخلصا من عسف وارهاب
نظام حزب البعث الذي كان يتشدق بديماغوجية مقرفة بلافتات القومية والحرية.
تجدر الاشارة هنا خصوصا الى مجلتي (الطليعة الكويتية) الاسبوعية و(العامل)
الكويتية الشهرية، اللتين فتحتا صفحاتها، امام جملة من الكتاب العراقيين، الذين وتحت
اسماء مستعارة راحوا ينشرون كتاباتهم السياسية والادبية، التي صارت تغيض سفارة
النظام الديكتاتوري كثيرا، مما عرض مجلتي الطليعة والعامل الى العديد من الضغوط
والاستفزازات من قبل سفارة النظام الديكتاتوري في دولة الكويت ، التي تلح على
اللقاء مع بعض الكتاب والتعرف اليهم، فصرت شخصيا باقتراح من المحرر اكتب مع
التوقيع (بيروت) ليتذرع بأن النصوص تصله عبر البريد.
النص أعلاه من مجموعة اول كتاباتي، ستنشر قريبا ضمن مجموعة قصصية تشمل اغلب الكتابات التي نشرت في
الدوريات الكويتية، واغلب النصوص تستند الى تجارب حقيقية عاشها الكاتب ومن حوله من رفاقه واصدقائه، سيلمس
القارئ اللغة الحماسية ـ المباشرة ـ المعادية للديكتاتورية والعسف.
*****
لابد من توجيه التحية لجندي مجهول حقيقي رفض الافصاح عن أسمه بذل جهدا مثابرا للحصول على نصوصي المنشورة
في الصحافة الكويتية وارسلها كأجمل هدية.
****
…، لم يكن جميلا بالشكل الذي تحلم به فتيات القصور، أو كما تحاول السينما المصرية تصوير فتى
الاحلام، مديد القامة … ازرق العينين … شعره الاصفر مسترسل على كتفيه العريضتين … لم يكن كذلك.
كانت لصاحبي ملامح وجه عادية، مثلي مثلك، وفوق كل ذلك كان أحدبا! ربما تتوقع ان هذا ولد لديه
عقدة شعور بالنقص أو ما شابه … أبدا … ربما في مطلع حياته، في صباه تضايق من ذلك ـ باعترافه هو
ـ لكن في عنفوان شبابه، في ايام صداقتي له كانت المسألة عقدة الاخرين، أكثر مما هي عقدته. والأخرين
هنا هم نحن اصدقاؤه الذين كنا نحاول ان نجعله لا ينتبه لذلك، ولكنه كان اذكى منا، يبتسم ويقول جادا
وبكل تواضع:
ـ لقد خلقت هكذا، فأقبلوني كما انا، ودعوني اعيش!
كان جسده يقول كثيرا، لكنه يتحرك أكثر من الحرية التي يمنحها له جسده. اتصدق انه كان يلعب معنا
كرة الطائرة؟ وأحيانا … نعم … احيانا يتمادى في مزاحه فيشمر عن ساعديه ويتحدى واحدا منا في انه لا
يستطيع صرعه؟ وقد تستغرب إذا قلت لك انه كان مهووسا بالرقص، طبعا هو لا يعرف شيئا عن الديسكو
أو (الروك اند رول) أكثر مما يطالع في الصحافة، لكنه كان (يموت) في الهيوا و(يجن) في البزخ. صوته
الريفي النبرات، الجميل، إكاد في هذه اللحظة أسمعه، يناديني، يدعوني للرقص:
(شوكي الج شوك الفلح للكاع
مشتاك الج يم العيون وساع)
كنا نتحلق حوله، فيفهم ما نريد، يغني لنا، عن طموحاتنا، احلامنا، صورة الوطن الجديد، عن همومنا
العادية وغير العادية، عن الحب والناس. كان صوته يمنحنا دفئا روحيا، فهو حين يغني، يغني بكل
حواسه، فيحرك كل مشاعرنا، يغسل احزاننا، يصقل عزائمنا، وفي المناسبات حين نحتفل كان يقفز منتشيا
في الوسط، وبدون مقدمات يقول:
ـ دعوني أغني للفرح لأعيش!
ويتصاعد صوته، ملتهبا بالطموح والثقة والامل:
( اوداعتك لاخر محطة كلوبنا اتروح اوياك
اوداعتك ما تحله دنيا ولا عمر بلياك)
بالإضافة الى ذلك كان مرحا بشكل لا يوصف، … حين ينجح أحد مقالبه، التي يدبرها لاحد الاصدقاء
يغرق في الضحك، فيهاجمه مرضه اللعين ـ الناتج تركيبه الجسماني ـ فنبادر الى علاجه ناسين ما دبره
قبل قليل، وما ان يستعيد انفاسه، حتى يعاود الضحك مرة ثانية، وحين نرجوه الكف عن ذلك خوفا على
صحته، يحتج قائلا:
ـ دعوني اضحك لأعيش!
ولم يكن صاحبي يعيش للغناء والمرح فقط … لا ابدا … هذا جزء من صفات جعلته محبوبا بين اصدقاءه،
وبين الناس. وكانت هناك اشياء اهم يعيش من اجلها، يمكنك ان تدركها بمجرد ان تجالسه، وتتحدث معه،
حينها ستشعر وكأنه خلق لها وحدها. وبالرغم من امكانياته المتواضعة، لكنه كان يعيشها بكل جوارحه.
يعيش لأجلها بكل صدق، متناسيا حتى ضيق التنفس، هذا الذي يهاجمه على أثر أدنى تعب او انفعال. وكنا
نحن اصدقاؤه ناسف لذلك، لان مرضه احيانا يكون عائقا امامه، لكنه لا يكترث ولا يهادن، يتحرك
ويتصرف كأي أنسان نذر نفسه لقضيته العادلة، واثقا منها، متمسكا بها فتراه يتحرك بحفة وعلى شفتيه
الباسمتين تقرأ دوما:
ـ دعوني أعيش!
وكان بعض الاصدقاء المتزوجين، خاصة، او الذين لديهم ارتباطات عاطفية يحثونه او يتبرعون له بأيجاد
فتاة يخطبونها له، انطلاقا من ان هذا جزء من واجبهم نحو صديقهم، ولملاحظتهم له بأنه لا يكترث
للموضوع كثيرا. لكنه كان يحتج ويرفض بشدة. طبعا هو ليس ضد الزواج، وليس ضد الحب، ولكنه كان
يريد كل شيء ان يتم بأسلوبه الخاص. وفقا لمبادئه وآرائه. واعتمادا على نفسه. وامام الواقع الاجتماعي
الذي نعيشه، والذي لا يزال يعرج فأن بعض الاصدقاء قالوا: ان صاحبنا سوف يظل طول عمره عازبا،
فأين سيعثر على حبيبة تقبل به كما هو، فهو لا يتمتع بأي امتياز شكلي تحلم به فتيات هذا العصر، فهو لا
مديد القامة ولا عريض المنكبين، ولا ازرق العينين ولا … و … من حيث لا ندري حدث كل شيء
بسرعة. جاءنا يوما، جلس بيننا، وبكل بساطة أخبرنا:
ـ انا في حالة حب.
بادره أحدنا ضاحكا:
ـ انت دوما في حالة حب، انت تعيش الحب.
واضاف اخر بنفس اللهجة:
ـ أنك الحب نفسه.
ولكنه وبالبساطة نفسها أكد:
ـ أني لا اقصد هنا حب القضية، او حب الناس، او حب الحياة او …
ـ ماذا تعني؟!
والتففننا حوله نتساءل، ليقول لنا:
ـ أنني أعني ما اقول. ثمة فتاة كحبيباتكم وزوجاتكم، صارحتها وصارحتني، واتفقنا على الخطبة والزواج
وعدد الاطفال واسمائهم ونوع حليب الاطفال و …
وراح يتحدث عن مشاريعه المستقبلية لهذه المسألة، وبكل بساطة وروح مرحة. ساعتها لم يكن ما قاله لنا
مفاجئة للبعض بقدر ما كان مفاجئة لبعض آخر. شخصيا هكذا تعودته. وفرحنا لذلك كثيرا، فها هو الحب
قد جاء اخيرا. جاء من حيث اراد: فتاة رائعة، مثلما كان يحلم: جمال مقبول، شخصية ساحرة، أحبت
صاحبنا بكل صدق، احبت فيه الانسان المناضل، الطموح، الواثق، وضعت يدها في يده وقررا معا السير
على نفس الدرب.
وبدا صاحبنا يكون أكثر سعادة. بدأت طموحاته تكبر، آماله تخضر، فها هو الحب جاء اخيرا، هذا الذي
كان البعض يتصور انه لن يأتيه، و … بسرعة أكثر تلاحقت احداث كثيرة. فضباع القرن العشرين
وجندرمتهم ينتشرون في الازقة، الاسواق، الحدائق، المدراس، المعامل والبيوت. في كل مكان. يسترقون
السمع لأحاديث العشاق ليحنقوا الحب. كان صاحبنا من الذين قالوا (لا) وللجحيم كل الضباع والجندرمة
وانصاف الرجال. كان يريد ان يغني كما يشاء، ويضحك متى يشاء. فحياته ملكه ويريد ان يعيشها كما
يريد، حتى لو عاشها غريبا في وطنه. ولكن كيف لهذا الجسد ان يتحمل كل هذا القلق والانفعالات وجو
الارهاب والخوف المنتشر في الازقة، البيوت، المدراس، … الخ؟ كيف لهذا الجسد ان يترك صاحبه
يتحرك بحرية أكثر، يواصل المسيرة، متحديا الطاغوت واذنابه جنبا الى جنب مع الالاف الذين يريدون
العيش بكرامة؟
بعد اربعة شهور من تشرده في وطنه، أنهكه المرض فلازم الفراش. ثم انتشر الخبر كالشرر بين
الاصدقاء. استطاع الضياع معرفة مكان اختباءه فاقتادوه ليلا من فراش المرض ليسلموه بعد يومين لذويه
جثة هامدة. لم يتمكن اصدقاؤه الذين شاركوه التشرد من القاء نظرة اخيرة عليه، او تشييع جثمانه، بل ولا
حتى تقديم العزاء لأهله، فالجندرمة هناك، يتربصون بمن يزور البيت الذي يسوده الحزن والصمت
فالأوامر صريحة: لا جنازة … لا عزاء … لا صوت مع البكاء. وكانوا يظنون انهم بفرضهم كابوس
الصمت هذا سيخفون جريمتهم، لكن الناس، كل الناس، عرفوا كل شيء، وحزنوا لسكوت القلب النابض
بالحب والثقة بهم وبالقضية. قتل الضباع حالة الحب التي انتظرها الناس له. لم يستجيبوا لأبسط حقوقه ان
يدعوه يعيش! ظنوا انهم بقتله سيسكتون صوته عن الغناء، لكنه هنا يعيش في القلب وقلوب كل الناس،
أصبح حبيبا لكل العذارى وصوته يتردد عند لقاء كل عاشقين:
(الناس للناس ابتعبنه والفرح من تالي)
نهض محدثي مستأذنا على امل اللقاء، وتركني غارقا في ألمي، استعيد كل ما رواه لي قبل قليل، وانا
أردد … حقا ان أجمل الازهار، هي زهرة