يشهد اقليم كردستان منذ سنوات، ارتفاعا سريعا في معدلات الاصابة بالأمراض السرطانية، وفق ما تؤكده الأرقام الرسمية التي سجلت اصابة أكثر من 81 الف شخصا منذ العام 2012، في وقت تكشف خارطة توزيع الاصابات عن تمركزها في مناطق تعاني من معدلات تلوث مرتفعة نتيجة انتشار الحقول والمصافي النفطية ومع استخدام وقود بنوعيات رديئة لتشغيل السيارات والمولدات الكهربائية.
يتقلب يميناً وشمالاً في فراشه الممد على الأرض، ثم يمد قبضة يده اليمنى الى عنقه ويشدها عليه، قبل أن يضرب بحركة سريعة أرضية الغرفة ويشير بأصابعه إلى قدح ماء موضوع على طاولة قريبة، ليسارع شقيقه في مناولته اياه.
بعد بضع رشفات من الماء، يقول عثمان محمد (42 عاما) بكلمات متقطعة بالكاد تُفهم، إنه “ينزل كالتيزاب إلى حنجرتي”. يئن ميكانيكيّ السيارات المصاب بالسرطان والذي يعيش بقضاء كلار شمالي السليمانية، حيث تكثر المصافي النفطية البدائية، ويردد بعد أن يسحب نفساً عميقاً محاولاً استخراج الكلمات “لم يعد لي قوة على مقاومته.. هو لن يفارقني حتى يقتلني.. لا مفر من ذلك”.
في النصف الثاني من العام 2018، وبشكل مفاجئ أصيبت حنجرة عثمان بآلام غير معتادة، فأجرى على أثرها عدّة فحوصات طبية تطابقت نتائجها، وأجبرت الأطباء على مواجهته بحقيقة إصابته بـ”سرطان الغدّة” من الدرجة الثانية.
هكذا انقلبت خلال أيام حياة “الأسطة عثمان” كما يُعرف في كلار، فالمرض جعل من مُصلِح السيارات المعروف في البلدة عاجزا تماما عن العمل، وحولته حلقات العلاج التي لاتنتهي إلى طريح أسرّة المستشفيات التي لا يكاد يغادرها.
أظهر التشخيص الدقيق، وجود 21 عقدة سرطانية خبيثة في عنقه، نجح في إزالة 19 منها من بتداخلات جراحية معقدة، لتبقى عقدتان خبيثتان حجمهما (4-5 ملم) مازالتا تهددان حياته، كما أخبره الأطباء.
منذ اكتشاف المرض واصل عثمان رحلة العلاج الطويلة والمكلفة التي تابعها في ثلاث دول هي تركيا وإيران والهند، لكنه كما يقول، يشعر بالإحباط مع عودته من كل رحلة علاج، حين تتراءى له سحب الدخان المتصاعدة من المصافي النفطية والتي تشكل أحياناً سحباً تغلف منطقة سكناه بسمومها.
يقول دلير، وهو خريج جامعي يعمل سائق سيارة أجرة، رافقنا في جولة على مصافي نفطية بمناطق إدارة كرميان التي تتبعها كلار، ان هناك ثمانية حقول نفطية توزع سمومها هنا.
يضيف بصوت حاد، بينما يحكم غلق زجاج نافذة سيارته وهو يشير الى خيط دخان أسود يمتد في الأفق “هذه بأدخنتها التي تملأ السماء هي من تقتلنا.. كيف يمكن أن يشفى المرضى وسط سحابات السموم التي تحيطهم؟”. يتمتم وهو يمسح العرق من على جبينه: “لم نلق منها غير الشر، حتى أراضينا الزراعية تضررت”.
عثمان أثناء العلاج صور أشعة تظهر العقد السرطانية في عنق عثمان
عثمان ليس المصاب الوحيد في العائلة، بل هو الثامن، فإثنان من أشقائه الأصغر سنا مصابان، أحدهما يبلغ من العمر 43 عاما والآخر 42 عاما، بالإضافة إلى سبعة أشخاص من أبناء أشقائه وشقيقاته وأقربائه، كلهم يعيشون في ذات البيئة القاتلة كما يصفها “لو أجريت فحوصات دقيقة على سكان المنطقة لأكتشفنا حجم الكارثة التي نعيشها في ظلّ مصافي بدائية تبثّ سمومها بلا معالجات ليل نهار”.
ارتفاع سريع بالاصابات
في عام 2019 بلغت الإصابات الإجمالية لمرضى السرطان في اقليم كردستان (7831 حالة)، وإنخفضت الأرقام المسجلة إلى (6293) خلال جائحة كورونا في عام 2020، وفقا لوزارة الصحة في حكومة كردستان، مع تراجع زيارة المؤسسات الطبية وانخفاض حركة المركبات في الشارع.
لكن الاصابات المسجلة في كردستان التي يُقدّر عدد سكانها بـ 6 ملايين نسمة، عادت لترتفع إلى أكثر من 8 آلاف حالة في عام 2021، و 9 آلاف و61 إصابة في عام 2022، بينما تم تشخيص 9911 اصابة جديدة في العام 2023.
هذه الزيادات السريعة في الاصابات، وحتى مع استحالة التحقق مخبرياً من الأسباب الدقيقة الكامنة وراءها، يرجعها أطباء ومتخصصون الى زيادة مستويات التلوث نتيجة انبعاثات المصافي النفطية ومنتجاتها من الوقود الرديء، مؤكدين انها عامل رئيسي الى جانب نوعية السلع الغذائية المستوردة.
وبحسب المعايير الدولية، يتم تشخيص 191 اصابة بالسرطان من كل 100 ألف شخص، ورغم ان الإقليم يشخص 151 اصابة من بين كل 100 ألف شخص، إلا ان تسجيل نحو 10 آلاف اصابة جديدة كل عام، ونسبة الزيادة السنوية التي لا تتوافق مع نسب زيادة السكان، تضع الاقليم في وضع حرج، في ظل قلة المستشفيات التخصصية وصعوبة الحصول على بعض العلاجات الضرورية.
وتشير الاحصائيات الرسمية لوزارة الصحة في كردستان إلى تشخيص 81 الف و62 اصابة منذ العام 2012 ولغاية العام 2023.
وتقول مسؤولة السيطرة على مرض السرطان في وزارة صحة كردستان الدكتورة جنار علي أن المصابين بسرطان الثدي يتصدرون لائحة الحالات المسجلة في الإقليم، ومن بعده يأتي حالات الإصابة بسرطان القولون، ومن ثم سرطان الرئة، والجلد، والغدد اللمفاوية، والبروستات، واللوكيميا، وسرطان الدماغ، والشرايين، والغدة الدرقية، وسرطان الفم واللثة.
مناطق تركز الاصابات
يؤكد أطباء إن الفرز المناطقي البسيط للمصابين يكشف عن خارطة توزيع الاصابات في كردستان، والتي تؤشر تمركزها في مناطق تعاني من معدلات تلوث بيئي مرتفعة نتيجة انتشار الحقول والمصافي النفطية.
للتحقق من تلك المعلومة، ومع صعوبة الحصول على المعلومات التفصيلية للمصابين ومناطق انتشارهم، في ظل عدم توثيقها بشكل دقيق ورفض بعض المؤسسات الصحية كشفها، أخذنا عينات عشوائية للمصابين المسجلين في مستشفى “هيوا” التخصصي بالسليمانية، وهو المركز الأكبر المختص بمعالجة السرطان في اقليم كردستان.
ضمت العينة 50 مصابا بالمرض ومن كلا الجنسين ومن جميع مناطق كردستان وبواقع 30 رجلا، 20 منهم أعمارهم أقل من 45 عاما و10 أعمارهم أكثر من 45 عاما. مع 20 امرأة، 10 أعمارهن أقل من 40 عاما والأخريات أكثر من 40 عاما.
شملت العينة محافظات اقليم كردستان الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) وأظهرت النتائج، أن 96% من المصابين بالسرطان تتواجد حقول ومصافي نفطية قرب مناطق سكناهم وبمسافات متفاوتة. حالهم كحال الأسطة عثمان حيث تنشط على مسافة من منزله في منطقة رزكاري بقضاء كلار، أحد الحقول النفطية.
أظهر تحليل العينة، إن محافظة السليمانية تصدرت محافظات الإقليم بعدد الإصابات، وتلتها
أربيل ومن ثم دهوك.
مصدر خطر آخر
الى جانب انبعاثات المصافي النفطية التي تعمل خارج المواصفات، يحذر أطباء ومختصون في البيئة من المخاطر التي تحملها انبعاثات المولدات الكهربائية المنتشر داخل الأحياء السكنية والتي تسخدم وقود الديزل (الكازوائل) المصنوع محليا وبمواصفات رديئة جدا.
يقول أحد العاملين في انتاج تلك المادة، انها تنتج في بعض المصافي البدائية، بخلط النفط الأسود ودهون السيارات منتهية الصلاحية الى مادة التيزاب ومكونات أخرى، ويتم اختيار الأنواع الأقل سعرا وبالتالي الأردأ نوعية سعيا لخفض الكلفة.
يحدث ذلك في ظل الغياب التام للرقابة البيئية على انتاج تلك المصافي وعلى انبعاثات مولدات الكهرباء المنتشرة داخل الاحياء السكنية، نتيجة استحالة الاستغناء عن عملها نتيجة عدم قدرة المؤسسات الحكومية على تأمين الكهرباء لأكثر من 12 ساعة يومياً.
وهناك مصدر آخر للتلوث، يتمثل في بنزين السيارات المُنتجة من تلك المصافي، وبوجود أكثر من مليوني سيارة في كردستان، تستخدم غالبيتها وقوداً رديئاً وعالي الخطورة على الصحة.
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور كاروان حمه صالح، ان مادتي البنزين والكازوائل، المستخدمة لتشغيل السيارات والمولدات، بمواصفاتها الرديئة المنتجة دون رقابة، تحملان ودون أي شكل أضرارا بيئة وصحية خطرة.
ويوضح ان أكثر من 90% من مادة الكازوائل المستخدمة في تشغيل المولدات، تنتج في المصافي بخلط النفط الخام مع دهن السيارات، والمادة التي تسمى محليا بـ”نفطه” (النفثة) ثم تضاف إليها مادة التيزاب لتحويل لونها من البني الى الأصفر ومن ثم تسويقها.
تعمل خلافا للقانون
ظهرت في اقليم كردستان، مئات المصافي النفطية المتوسطة والصغيرة، خلال السنوات العشرين الماضية، الى جانب المصافي الكبيرة المملوكة لمتنفذين في الأحزاب الحاكمة. المصافي الأصغر حجما والأقلُ انتاجا اختفت في السنوات العشر الأخيرة، بينما استمرت الأخرى والتي يقدر برلمانيون سابقون عددها حاليا بأكثر من 200 مصفى.
معظم تلك المصافي تعمل من دون رخص قانونية رسمية، لكنها تشتري النفط من الحكومة وتقوم بتكريره بطرق بدائية لا تلتزم بمواصفات الإنتاج العالمية حتى في حدها الأدنى، ولا تطبق شروط الصحة والسلامة العامة، لا من حيث الموقع الجغرافي ولا من حيث طريقة العمل.
في أربيل تنتشر تلك المصافي في نواحي قوشتبة وكوير وشمه مك. وفي السليمانية تنتشر في منطقة “تانجرو” جنوب شرقي المحافظة. وفي دهوك تتركز في منطقة “كاشي” غربي المحافظة.
مع ظهور هذه المصافي، بما تطرحه من ملوثات في الهواء وما تنتجه من مشتقات رديئة، بدأت أرقام الإصابات بالسرطان تتضاعف، بحسب كوادر في مؤسسات طبية ومنظمات معنية بالبيئة.
يؤكد معروف مجيد رئيس منظمة “آينده” لحماية البيئة، أن الكثير من تلك المصافي تعمل خارج السياقات القانونية، مبينا أن وفق قانون رقم (8) لسنة 2008 الخاص بحماية وتحسين البيئة في كردستان فإن أي شركة أو مشروع يتسبب بوقوع تلوث بيئي يجب أن يدفع تعويضا للمناطق المتضررة، معربا عن أسفه لعدم تطبيق ذلك بنحو شبه كلي.
وينبه رئيس المنظمة، الى واحدة من المشاكل التي تخلفها تلك الصناعة غير المراعية للبيئة والصحة العامة، وهو نقل المشتقات النفطية بسيارات حوضية غير مؤهلة وبطرق تقليدية ما بين المحافظات والمناطق المختلفة لاسيما في جمجمال ودربنديخان في السليمانية، مشيرا الى حادثة اصطدام حصلت في مطلع نيسان ابريل بقضاء دوكان أدت الى تسرب النفط المنقول إلى مياه الشرب ما تسبب بتلوثها وبالتالي قطع مياه الشرب لعدّة أيام عن الكثير من مناطق المحافظة.
ملوثات في الماء والهواء
في كردستان، توجد العديد من الملوثات في الماء أو التربة أو الهواء، والأخير على وجه الخصوص يعاني من إرتفاع في أكاسيد الكبريت والنايتروجين والكربون والهايدو كاربونات الناتجة عن العمليات المصاحبة لإحتراق الوقود في المصافي والحقول النفطية ووحدات إنتاج الطاقة والمعامل التي تعتمد على حرق الوقود، وفقاً للخبير في علوم البيئة التدريسي في جامعة كرميان الدكتور عبدالمطلب رفعت سرحت.
الى جانب ملوثات أخرى مثل أدخنة حرق المخلفات الصلبة بطرق بدائية، فضلا عن ما تطرحه أكثر من مليوني سيارة تشتغل في الاقليم.
يقول سرحت ان “تلك الملوثات تساهم في زيادة انتشار أمراض السرطان وبعض الأمراض الأخرى”.
يؤكد ذات الأمر رئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية في البرلمان السابق لاقليم كردستان علي حمه صالح، قائلاً إن المصافي ومادة الكازوائل المُستخدمة في تشغيل المولدات داخل الأحياء “زادتا وبنسب كبيرة من التلوث البيئي، الذي ضاعف معدلات الإصابة بالسرطان خلال السنوات الأخيرة”.
يوضح صالح، اعتمادا على مسوحات وبحوث علمية اطلع عليها: “في عام 2016 كان يتم تسجيل 12 إصابة جديدة بالمرض يوميا، لكنها إرتفعت إلى 41 اصابة يومية في نهاية العام 2022″، متوقعا أن تصل إلى “100 حالة يوميا خلال السنوات المقبلة في حال بقيت مصادر التلوث دون حلول”.
ويؤشّر النائب الكردي السابق، ما يصفه بحالة “الفساد الصادمة” في عمل مصافي النفط غير الرسمية من خلال انتاج زيت الكازوائل بمواصفات رديئة للمولدات الكهربائية، بينما يتم تهريب مادة الكازوائل المطابقة للمقاييس العالمية من المصافي الرسمية مثل “لاناز، بازيان، كه لك” إلى خارج الإقليم.
وينبه صالح الى المخاطر الصحية الكبيرة لآلية الانتاج المعتمدة “يتم يوميا خلط نحو 5 ملايين لتر من مادة النفط الأبيض مع مخلفات دهون السيارات مع بعض المواد البتروكيمياوية”.
في عام 2022 ومع تزايد الشكاوى التي وصلت إلى نواب في البرلمان الكردستاني بشأن التلوث، قام “حمه صالح” بتكليف مجموعة من المختصين لإجراء بحوث مختبرية على عينات من هذه المنتجات وفي مختبرات متطوّرة في تركيا.
النتيجة التي ظهرت كانت “صادمة جدا” كما يقول صالح: “هي غير صالحة للإستخدام إطلاقا”، مشبها استخدامها في تشغيل المولدات بما يشبه “وضع السم في المجاري التنفسية لمواطني الإقليم”.
تصرف مخلفاتها الى التربة
وهذا ما يجعل الدكتور عبدالمطلب رفعت سرحت، يشدد على أن تلك المواد، حوّلت أرض كردستان إلى مركزٍ لإنتشار الأوبئة والأمراض المُزمنة والخطرة.
يوضح: “يحدث ذلك من خلال تطاير غازات أول أوكسيد الكاربون، ثاني أوكسيد الكاربون، ميثان، كبريتيد الهيدروجين، الكبريتات، أوكسيدات النتروجين، بالإضافة إلى مكونات الخام الأسود والأبخرة، والتي تستنشق من قبل المواطنين”.
يضيف الخبير في علوم البيئة “أما القسم الآخر فيتعلق بالمحاصيل المزروعة والتربة بالإضافة الى إمتزاجها بالمياه السطحية وتسرّبها للمياه الجوفية وبالتالي تدخل السلسلة الغذائية فيُشكل عاملا إضافيا للإصابة بالأمراض”.
ويُشير إلى أن القانون العراقي يحظر حرق الغاز على بعد ستة أميال من المناطق السكنية “إلا إن أكثر الحقول والمصافي لاتلتزم بتلك المسافة، وهي لاتعتمد الطرق والأساليب العلمية في التخلص من مخلفاتها، حيث يتم تصريفها الى التربة بما في ذلك المعادن الثقيلة المعروف بأنها مسببة للسرطان كالزئبق والرصاص والزرنيخ والتي تتواجد في المخلفات النفطية بكميات كبيرة”.
ويُشدد الأكاديمي سرحت على خطورة مخالفة المصافي للشروط الأساسية لإنشائها، وأهمها الإبتعاد عن المناطق المأهولة بالسكان وعدم إنشائها على أراضٍ زراعية، فضلا عن التزامها بمواصفات الانتاج العالية.
يقول سرحت ان السنوات الأخيرة شهدت زيادة كبيرة في الجسيمات الصلبة المتناهية الصغر (PM2.5) وهذه الجزيئات عندما ترتفع مستوياتها في الجو تزداد مخاطرها، مبينا أن مصافي النفط هي أحد مصادرها الرئيسية “تظهر هذه الجسيمات في الجو وتخترق الجهاز التنفسي مسببة تهيجهُ، وفي الغالب تدخل في مسار الدم عن طريق الحويصلة الهوائية لتزداد خطورتها وتصل الى التسبب بالإصابة بسرطانات الدم والجهاز التنفسي”.
أرباح بأكثر من مليار دولار
توجد أربعة مصافي رسمية في كردستان، اثنان منها “كه لك، و لاناز” يقعان بالقرب من مدينة أربيل، بينما يقع مصفى “بازيان” في محافظة السليمانية، ومصفى “تاوكي” في محافظة دهوك. وتُدار المصافي الثلاثة الأولى من قبل شركات حزبية كردية، والرابع من قبل شركة نرويجية.
يؤكد الرئيس الأسبق للجنة الطاقة في مجلس محافظة السليمانية (2014-2018) وعضو لجنة النفط والغاز في الدورة الرابعة لمجلس النواب العراقي (2018-2021) الدكتور غالب محمد، أن المصافي الرسمية في الاقليم تنتج مادتي البنزين والكازوائل بمواصفات عالية لكنّ جزءا كبيرا من منتوجها يصدر الى خارج الاقليم.
وبينما يصدر الانتاج ذو النوعية الجيدة فإن الرديء يباع في كردستان ليحقق لأصحاب المصافي “أرباحا طائلة”، بحسب النائب محمد، الذي يقدر الأرباح السنوية للمصافي غير الرسمية، بأكثر من مليار دولار “تذهب لجيوب المُتنفذين وأصحاب القرار”.
ويكرر محمد، ما يردده نواب ومختصون من أن هذه المصافي “تنتج موادًا مُسرطنة ومحظورة، وانها مسؤولة عن إزدياد نسب الإصابات في كردستان”.
ويُشير إلى ما يصفه بـ” الضرر الأخطر” على حياة المواطنين المتمثل بالتخلص من مخلفات المصافي بإلقائها في التربة أو الأنهر، كنهر سيروان أحد روافد نهر دجلة والذي تصب مياهه بسدّ دربنديخان في محافظة السليمانية ويؤمن ما نسبته 75% من الخزين المائي للسد، كما يغذي مساحة أكثر من 200 ألف كم من الأراضي الزراعية.
وتعد مياه سدّي دوكان ودربنديخان اللذين يعانيان من الملوثات، من المصادر الرئيسية لتأمين مياه الشرب للمواطنين في مناطق السليمانية والأقضية والنواحي التابعة لها.
تزداد رغم عدم قانونيتها
حسن كوباني (40 عاما) الذي يعيشُ في منطقة إدارة كرميان ضمن محافظة السليمانية وهو أحد مرضى سرطان الغدة في الاقليم، يُحمل الملوثات التي تخلفها مصافي النفط في منطقته مسؤولية اصابته وبعض أقاربه بالمرض. حيث تشير أرقام المؤسسات الصحية الى تزايد أعداد الاصابات هناك مقارنة بباقي المناطق.
كان كوباني، عنصرًا في قوات البيشمركة الكردية، قبل أن يحال إلى التقاعد اثر إصابته بقذيفة صاروخية خلال مواجهة حصلت مع مقاتلي تنظيم داعش في تشرين الثاني 2014 بمنطقة “كوباني” في شمال سوريا، حيث كان ضمن أول وحدة عسكرية للبيشمركة تدخل المنطقة لمساعدة سكانها على مواجهة التنظيم، ومن هناك حمل لقبه.
تلك الإصابة أقعدت كوباني نتيجة تناثر 12 شظية في أنحاء مختلفة من جسمه، لكن معاناته ازدادت أكثر بعد اصابته بالسرطان في عام 2021، وهو ذات المرض الذي أصيب به أحد أشقائه أيضا.
حسن كوباني في مراحل علاج مختلفة
من بين أكثر من 200 مصفا نفطيا في كردستان تعمل بطرق غير رسمية، يكشف عضو اللجنة المالية في برلمان الإقليم السابق عمر كولبي عن “وجود نحو 100 منها في أربيل، ويوضح ان من بين 30 مصفاً، فإن ثلاثة منها فقط حاصلة على موافقة دائرة البيئة والبقية غير مطابقة للمواصفات والشروط المطلوبة”.
لكنّ عضوا في مجلس محافظة أربيل، رفض ذكر اسمه لأسباب خاصّة، يقول إن عدد المصافي غير الرسمية في أربيل، كان نحو 106 مصفًا في عام 2015، وإزداد إلى نحو 140 خلال السنوات الـ 6 الماضية، تقع أغلبها خارج المدن على الطريق الرابط بين أربيل وقضاء كوير وبين أربيل ودهوك.
تؤمن تلك المصافي حاجات 2200 مولدة كهربائية منتشرة في الأحياء السكنية بمحافظة اربيل، وفقا لإحصائية حصل عليها مُعدّ التحقيق من رئيس مجلس مولدات أربيل قارمان مولود.
ويكشف مصدر عن أن أربيل تحتاجُ يوميا إلى نحو 3 ملايين و500 ألف لتر من مادة الكازوائل لتغطية احتياجاتها في تشغيل المعامل والمصانع والمرافق الأخرى المتعددة، و2 مليون لتر من مادة البنزين لتغطية اتسهلاك سياراتها. وتؤمن المصافي غير الرسمية الجزء الأكبر من المادتين بنوعيات رديئة.
وفي السليمانية يتجاوز عدد المولدات الكهربائية الـ2000 مولدة، تعد المُستهلك الرئيسي لمنتوجات مصافيها. وتحتاج المحافظة يوميا لنحو 3 ملايين و300 ألف لتر من مادة الكازوائل لتغطية احتياجاتها في تشغيل المعامل والمصانع والمرافق الأخرى المتعددة، و 2 مليون و200 ألف من البنزين.
أمّا محافظة دهوك، فيوجد فيها (44) مصفا ومخزنا ومستودعا للنفط والوقود، منها (36) غير مرخصّة، حسب كولبي، وتقع في منطقة “كاشي” وتعمل غالبيتها خارج التعليمات الواجب توفرها لشروط سلامة السكان القريبين والحفاظ على البيئة.
منطقة كاشي التي تنتشر فيها مصافي النفط غير القانونية في دهوك
يؤكد مصدر حكومي في دهوك، أن جزءا من هذه المصافي البدائية، وبعد شكاوى متكررة من السكان، أوقفت عن العمل نهاية عام 2022، مع عدم تسليمها مادة النفط الخام من وزارة الثروات الطبيعية في حكومة كردستان. لكن مصادر محلية ذكرت إن أغلب تلك المصافي عاودت العمل، وهي تفعل ذلك بعد كل فترة توقف.
وتحتاج محافظة دهوك يومياً لنحو 2 مليون و200 ألف لتر من مادة الكازوائل لتغطية إحتياجاتها اليومية في تشغيل المعامل والمصانع والمرافق الأخرى المختلفة، والى مليون و800 ألف لتر من مادة البنزين لتغطية احتياجاتها المتعددة.
وعلى الرغم من الشكاوى التي لا تتوقف عن رداءة الوقود المستخدم في كردستان وعن مخاطره الصحية وفق مختصين، فان انتاج تلك المصافي يأخذ طريقه الى المولدات والسيارات، بعيدا عن أي محاسبة في ظل ما يسميه النائب السابق على حمه صالح “الفساد المنتشر” والذي يعطل إجراءات فحص المادة في المختبرات المعنية لأن الفحوصات ستثبت “عدم مطابقتها لمتطلبات السلامة”.
وبإحتساب كمية مادة الكازوائل المُستخدمة في تشغيل المولدات المُنتشرة داخل الأحياء السكنية فقط والبالغة نحو 6 آلاف و 300 مولدة والتي تعمل لأكثر من 12 ساعة في اليوم الواحد خلال فصلي الشتاء والصيف، ومع استهلاك المولدة الواحدة في كل ساعة تشغيل لأكثر من 150 لتر، يظهر لنا أن انتاج تلك المصافي من الوقود الرديء الذي يلوث الهواء والتربة، يزيد على 11 مليون لتر يوميا لتغطية حاجة المولدات، عدا متطلبات المعامل وبعض المنشآت الأخرى، في وقت يستهلك الاقليم نحو 5 مليون لتر من البنزين، معظمه ينتج من قبل مصافي بدائية لا تخضع منتوجها للمواصفات المطلوبة.
ويحدد الخبير في شؤون النفط والطاقة بهجت أحمد، أسباب رداءة البنزين المنتج والمستخدم في الاقليم، مبينا أن أربعة مصافي فقط في كردستان تمتلك وحدة الأزمرة الخاصة بتحويل مادة النفطة وهي المنتج الأولي بعد تصفية النفط الخام، الى بنزين بنوعيات مختلفة الجودة، من العادي الى المُحسن أو السوبر.
ويقول “لا تمتلك باقي مصافي الاقليم وحدة الأزمرة، لذا يشتري التجار مادة النفطه (النفثة) من المصافي الصغيرة ويقومون بخلطها مع مواد أخرى تستورد من ايران تعرف بالمحسنات، وتعتمد نوعية الوقود المنتج على نسبة المواد المحسنة الداخلة، فخلط 25% من المحسنات مع مادة النفطه ينتج البنزين العادي، وترتفع النوعية مع زيادة النسبة، لكن ذلك يعني رفع تكلفة سعر اللتر الواحد، لذلك نجد ان معظم المنتوج رديء النوعية”.
جدول يوضح أعداد السيارات وكميات احتياجها من البنزين في كردستان وفق احصائية
حصل عليها معد التحقيق لعام 2022
قرارات اغلاق وفشل في التنفيذ
مع الكوارث البيئية التي تسببها، صدرت العديد من القرارات الحكومية لغلق المصافي غير الرسمية في كردستان خلال السنوات الماضية، لكنها فعليا لم تطبق إلا بشكل محدود، حسب مسؤولين حكوميين، لوقوف جهات مُتنفذة وراءها بما تُحققه من واردات شهرية تصل بعضها إلى ملايين الدولارات.
ففي 15/9/2015 أصدر وزير الثروات الطبيعية في حكومة الكابينة الثامنة بكردستان (2014-2019) آشتي هورامي، قرارا بغلق أكثر من 160 مصفا غير مُجاز تعمل بعيدا عن متطلبات وشروط السلامة المطلوبة.
قرار وزير الثروات الطبيعية السابق حول اغلاق أكثر من 160 مصفًا غير رسمي
وفي 16/10/2018 وجه وزير الداخلية السابق في حكومة الإقليم كريم سنجاري إنذاراً إلى أحد مصافي النفط في دهوك بإغلاق المصفى وإزالة مخلفاته خلال مدى أقصاها (60 يوما) وبخلافه يعرّض صاحبه للمحاسبة القانونية.
لكن عضوا في مجلس محافظة دهوك، فضل عدم ذكره أسمه لأسباب خاصّة، أكد أن أغلب المصافي غير الرسمية استمرّت بالعمل حتى بعد صدور هذا الإنذار وغيرها من الانذارات.
وزير الداخلية السابق ينذر احد المصافي النفطية
وفي العام 2018، أصدر مجلس النفط والغاز في حكومة اقليم كردستان قرارا بغلق جميع المصافي غير الرسمية وغير المُجازة، لكن القرار لم يأخذ طريقه للتنفيذ.
في 24 مارس/آذار 2019 أعادت وزارة الداخلية في حكومة الإقليم المحاولة مجددا بكتابها ذي الرقم (5436) لتنفيذ قرار إغلاق المصافي غير الرسمية، على أن تدعم بتشكيل قوة أمنية مشتركة من عدة أطراف، قوامها نحو 50 ضابطا وموظفا في كل محافظة من محافظات الاقليم.
لكن ذلك التوجه أيضا عجز عن إغلاق المصافي، وفقًا لنواب في البرلمان الكردستاني.
إلحاقا بالكتاب السابق، تكشف وثيقة صادرة في 18/6/2019 وبتوقيع وزير الداخلية السابق كريم سنجاري، عن تخصيص (200 مليون دينار عراقي) لمتابعة عملية إزالة جميع المصافي غير القانونية، ومن خلال تشكيل لجنة عليا ولجان فرعية في كل محافظة.
إلا أن مسؤولاً رفيع المستوى في وزارة الداخلية، رفض ذكر اسمه لحساسية وظيفته، قال ان أعمال اللجنة المذكورة “لم تر النور بسبب التدخلات الحزبية، وفشلت في تطبيق قرار وزارة الداخلية بإزالة المصافي غير الرسمية”.
فشل تطبيق قرارات وزارة الداخلية، تؤكده وثائق صادرة من الحكومة نفسها. فبعد إرسال كتاب من لجنة الطاقة في مجلس محافظة السليمانية إلى رئيس المجلس، بتاريخ 18/6/2019، تطالبه بتوجيه كتاب إلى المحافظ لتطبيق قرار وزارة الداخلية الصادر في 21/11/2018 بإزالة المصافي غير الرسمية الواقعة في منطقة “تانجرو” لما تُسببه من آثار سلبية على البيئة. والذي على أساسه وجّه رئيس مجلس السليمانية، طلبا إلى المحافظ لتنفيذ قرار الداخلية، إلا أن المحافظ ردّ في 3/7/2019 بعدم إمكانية تنفيذ القرار لعدم تأمين الميزانية المُخصصة لذلك والبالغة 200 مليون دينار.
طلب موجه الى رئيس مجلس السليمانية لتنفيذ قرار الداخلية بإزالة المصافي غير الرسمية
رئيس مجلس السليمانية يطلب من المحافظ تنفيذ قرار الداخلية
محافظ السليمانية يرد بعدم امكانية تنفيذ قرار الداخلية لعدم توفر الميزانية المخصصة
عجز الحكومة المحلية في محافظة السليمانية عن إزالة المصافي غير الرسمية، دفع لجنة الطاقة في مجلس المحافظة إلى توجيه طلبٍ آخر إلى رئيس المجلس لمخاطبة وزارة داخلية كردستان بشكل مُباشر لتأمين الميزانية المخصصة لإزالة هذه المصافي “لما تُسببه من أضرار على البيئة والأراضي الزراعية”.
طلب من لجنة الطاقة الى رئيس مجلس السليمانية لمخاطبة الداخلية لإزالة المصافي
وعلى إثر ذلك، خاطب رئيس مجلس السليمانية، وزارة داخلية الإقليم بكتاب صدر في 19/2/2020 لإجراء اللازم لتنفيذ قرارها الخاصّ بإزالة المصافي غير القانونية. لكن لم تصدر أي اجراءات فعلية إزاء كل هذه الطلبات، وفقًا لعضو في مجلس السليمانية.
طلب موجه من رئيس مجلس السليمانية إلى وزارة الداخلية
أقوى من الحكومة
على الرغم من توالي القرارات الحكومية بازالة المصافي غير القانونية لما تشكله منتوجاتها من تهديد لحياة الانسان وأضرار بيئية تصعب معالجتها، إلا ان الجهات التي تدير تلك المصافي نجحت في تعطيل كل القرارات الحكومية وأثبتت انها أقوى من قرارات الوزارات والمؤسسات المعنية.
تعليقا على ذلك، يقول العضو السابق في لجنة الطاقة في مجلس محافظة السليمانية كريم علي، بأن شهرا واحدا يكفي لإزالة جميع تلك المصافي “لكن الجهات النافذة تتجاهل الأمر عمداً”، محملا حكومة الإقليم والحكومات المحلية مسؤولية الأضرار التي تلحقها بالبيئة والحياة العامة.
في بداية العام 2021، أصدر برلمان كردستان قانون رقم (3) الخاص بتصدير وخزن وبيع المنتوجات النفطية في الاقليم، ووفقا للقانون، كان من المُفترض أن تقوم وزارة الثروات الطبيعية في حكومة كردستان بإصدار تعليمات خاصّة لتنفيذه وبما ينهي ظاهرة عمل المصافي غير الرسمية. لكن الوزارة لم تتخذ أي إجراءات فعلية حيال ذلك.
يُفسر النائب عمر كولبي ذلك بالقول ان “أغلبها يقف وراءها مسؤولون، وهذا ما يحول دون اغلاقها، فيما وزارة الثروات الطبيعية صامتة إزاء مُخالفاتها القانونية”.
ويبرر أصحاب تلك المصافي، الذين تواصل معد التحقيق مع عدد منهم، استمرار أعمالهم، بكونها تضمن وظائف لآلاف الأشخاص في وقت يعاني الاقليم من أزمة اقتصادية، كما ان منتوجاتها تباع بأسعار متدنية مقارنة بالأسعار العالمية، ما يعوض عن استيرادها وخسارة عشرات ملايين الدولارات في ذلك.
يقرّ عضو لجنة الطاقة والموارد الطبيعية في برلمان الاقليم السابق شيركو جودت، بأن عدم إغلاق هذه المصافي يرجع الى كونها “عائدة لجهات متنفذة، وهذا يدعم استمرار عملها رغم المخالفات المسجلة ضدّها”.
يضيف جودت: “الجهات الرسمية تحصي وجود 214 مصفا غير مجاز، تسلمنا خلال السنوات الماضية الكثير من الشكاوى عن عملها والبحوث التي تؤكد مخاطرها الصحية، وأوصلنا ذلك إلى أعلى الجهات في الإقليم لكن دون جدوى”.
ضغوط تزايد الاصابات
تتزامن مشكلة زيادة التلوث البيئي مع التغيّر المناخي في اقليم كردستان، الذي فاقم المشاكل البيئية نتيجة تراجع معدلات الأمطار خلال الأعوام 2020-2023 الى جانب حالة “العجز المالي” التي يواجهها الاقليم منذ العام 2014 والتي أثرت على تخصيصات قطاع الصحة وأدت الى نقص كبير في العلاجات والأدوية المنقذة لحياة المرضى في المستشفيات الحكومية بما فيها الأدوية السرطانية.
ويُحذر نواب سابقون من لجان برلمانية مختلفة، ومختصون في الصحة كمدير مستشفى هيوا للأمراض السرطانية الدكتور ياد نقشبندي، من أن المصافي بوضعها الحالي تشكل “خطرا جسيما” على حياة مواطني كردستان، وان “الخطر سيزداد في السنوات المقبلة مع تراكم الملوثات البيئية”.
وكان مستشفى “هيوا” للأمراض السرطانية قد سجل أكثر من ثلاثة آلاف اصابة بالسرطان في العام 2022، ورقم أعلى في العام 2023 حيث تسجل أكثر من 10 اصابات جديدة يومياً.
ووفقا لمدير المستشفى الدكتور ياد النقشبندي فإن نسبة أهالي السليمانية وحلبجة وإدراتيّ كرميان ورابرين من الإصابات تصل الى 80%، والنسبة المتبقية هي لمواطنين من باقي مدن إقليم كردستان والعراق عموما. حيث يُراجع يومياً نحو 800 مريض المستشفى.
ويقول أن “بعض الأمراض تصل تكاليف علاجها إلى قرابة 6000 دولار شهريا يتم توفيرها مجاناً، وهذا يشكل عامل ضغط كبير لتأمين المتطلبات المالية المتزايدة في ظل تزايد الاصابات.
وينتقد مدير مستشفى “هيوا” عدم بناء أي مركز للكشف المبكر عن المرض في كردستان “لو إستمرت الأحوال على ما هي عليه الآن ومعدلات الاصابة بالارتفاع فنتوقع بعد 10 سنواتٍ بأن تصل نسب الإصابة إلى مرحلة تعجز كل ميزانيات كردستان المالية السنوية عن سدّ مستلزمات المرضى”.
وانشأ مستشفى “هيوا” في مدينة السليمانية قبل 17 عاما وهو أول مستشفى متخصص لأمراض السرطان في كردستان، ويؤمن جزءا كبيرا من مستلزماته من خلال تبرعات الخيرين، ويتلقى فيه العلاج مرضى من عدة محافظات خارج الاقليم، وهذا ما يجعله تحت ضغط دائم في وقت يواجه أحيانا توقف وصعوبات في التمويل نتيجة الأزمة المالية في اقليم كردستان.
مستشفى هيوا الخاص بأمراض السرطان
الى جانب مستشفى هيوا، انشأ في أربيل مركز “آوات” للعلاج الإشعاعي الخاص بمرض السرطان، لمواجهة الارتفاع السريع للإصابات في المدينة خلال السنوات السبع الأخيرة مقارنةً بنسبة السكان، وبلغ عدد من فتحت لهم سجلات جديدة في المركز نحو 1500 مريضا في عام 2022. وسجل زيارة نحو 170 مريضا بشكل يومي لتلقي العلاج في العام 2023.
يكشف مدير المركز الدكتور بيستون صفي الدين أنه في العام 2015، كان هناك فقط 1300 مصاباً مسجلاً لديهم في عموم محافظة أربيل، لكن الرقم وصل الى 2800 إصابة جديدة في العام 2021.
ويشير الى تسجيل أكثر من 23 ألف إصابة بالسرطان في المدينة بين عام 2010 حتى 2022، مؤكدا أن التلوث البيئي الناتج عن عمل مصافي النفط يعدّ أحد أبرز الأسباب في زيادة نسب الاصابات.
لا تأمين ولا شروط سلامة
زار معدّ التحقيق ثلاثة مصافي في السليمانية، وثلاثة في أربيل وواحدة في دهوك، لمعرفة طبيعة عملها ومدى مطابقتها للمواصفات، إلا أن جميع الاداريين والعاملين فيها رفضوا الحديث.
وبرر عاملون، رفضهم للتصريح بتأكيد تلقيهم تحذيرات بالطرد في حال الإدلاء بمعلومات تخص طبيعة عملها وعائديتها ومواصفات منتجاتها والجهات التي يسوق لها المنتج.
يعلق موظف إداري يعمل في أحد تلك المصافي- شرط عدم ذكر اسمه خوفا من خسارة وظيفته- بأنهم لا يملكون قول شيء، لأنهم يعرفون كما المتخصصون بالصحة والبيئة، ان عملهم يجري خارج القانون ودون الإلتزام بالمواصفات العالمية لاسيما مع غياب الشمس وحلول الليل الذي يعدّ الوقت الأنسب لطرح “سموم” منتجاتهم في الهواء والتربة.
مصدر مسؤول في وزارة الثروات الطبيعية، قال وبعد عدة اتصالات، إن هذه المصافي ومع ما تشكله منتجاتها من مخاطر صحية، هي أيضا تفتقر إلى أبسط شروط السلامة في العمل، ولا يوجد تأمين صحي للعاملين فيها رغم الاحتمالات الكبيرة لإصابتهم عند العمل، حيث تتكرر حوادث اندلاع الحرائق المميتة.
ويُوقِع أصحاب هذه المصافي أحيانا عقود عمل مع العاملين تتضمن تعهدا بعدم مسؤوليتهم في حال أصيبوا بأي أذى أو مرض أثناء عملهم، وهذا ما أدى إلى حرمان عشرات العمال من حقوقهم المشروعة لاسيما بعد أن لقيّ 10 من العاملين في منطقة “كاشي” شمالي دهوك حتفهم خلال السنوات الأخيرة.
مصدر وزارة الثروات الذي وافق على التصريح بشرط عدم الافصاح عن هويته لحساسية موقعه، ذكر ان عدد العاملين في كل مصفى يتراوح بين 6-20 عاملا، ويبلغ إجمالي العاملين في جميع المصافي نحو 2550 شخصا، وتبلغ رواتب العمال المحليين منهم 600-700 دولار أميركي، بينما تترواح رواتب المهندسين المختصين بتكرير وانتاج المشتقات النفطية ومعظمهم أتراك وايرانيون، ما بين 5 آلاف الى 20 ألف دولار أميركي.
يتفق رئيس لجنة الطاقة السابق في مجلس محافظة دهوك عبدالصمد تيلي، مع رأي سابقيه بشأن رداءة الانتاج وغياب شروط السلامة، واصفًا تلك المصافي بـ”البدائية”. ويُشير إلى أنها أنشأت بعيدا عن القانون وان “أضرارها تصل إلى كل بيت في كردستان، مهددة بانتشار الأمراض بما فيها الخطيرة لأن مخلفاتها أبرز مُسببات مرض السرطان”.
ويؤكد تيلي بأن جهات متنفذة وفي مراكز متقدمة في الإدارة وراء استمرار عملها رغم قرارات أغلاقها المتوالية منذ عام 2014 ومن جهات عليا على مستوى الحكومة ووزارتي الثروات الطبيعية والداخلية ومجالس المحافظات.
لم تدم طويلا فرحة “روناك خالد” (27 عاما) التي تسكن بالقرب من منطقة كاشي التي تنتشر فيها مصافي صغيرة، بولادة طفلتها الأولى عام 2019، حيث حول السرطان حياتها إلى جحيم، وأتى على جسدها الهزيل خاصة مع تلقيها العلاج الكيمياوي وبدء تساقط شعرها.
روناك التي أصيبت بـ”سرطان المريء” تقول ان إصابتها قضت على أحلامها وحرمتها حتى من رعاية طفلتها الصغيرة “الموت أهون بكثير مما أعانيه من آلام وضعف وعجز.. ربما هو يقسو على الإنسان مرة واحدة ويخطفه من أحبته، أما هذا فيقتلك في اليوم ألف مرّة”.
وفقا للشابة، فان الأطباء أبلغوها بعدم وجود سبب آخر لإصابتها “غير التلوث البيئي الناجم عن عمل مصافي النفط المنتشرة في منطقتها.
عدم وجود مؤسسات متخصة للعلاج والرعاية في دهوك، واليأس من تجاوز المرض في ظل متطلباته المالية الكبيرة، كلها دفعت روناك الى التفكير بالانتحار لإنهاء آلامها، كما تقول، لكن صوت ابنتها وهي تناديها، وحلمها بأن تكبر بين أحضانها، يجعلها تتشبث بالحياة وبأمل الخلاص ذات يوم.
بينما يأمل المصابون بالنجاة بتلقي العلاجات في مؤسسات تخصصية، ينضم العشرات الى قوائم المصابين الجدد كل اسبوع بعضهم لا يحظى حتى بالحصول على سرير في مستشفى هيوا مع اكتظاظه بالمرضى، أو في الحصول على العلاج المطلوب نتيجة عدم توفره، فيما يعزز أصحاب المصافي القاتلة استثمارتهم ويعززون أرصدتهم.
يقول أحد الكوادر الطبية، مفضلا عدم ذكر اسمه: “حدث سابقا أن اعتذرنا عن إدخال مرضى.. ويقينا في ظل أجوائنا المليئة بالملوثات التي تتلكأ أو تعجز الحكومة عن ايقافها، لن يجد مرضى كثر بعد سنوات مكاناً هنا”.
انجز التحقيق تحت اشرف شبكة “نيريج” ضمن مشروع قريب المدعوم من قبل CFI.
صلاح حسن بابان