يوسف أبو الفوز
ــ انهض، لا تتردد للمطالبة بحقك!
أو حين ينشب شجار بين رعاة بقر في البار، يشجع أحدهمصاحبه بالقول:
ـ العار للجبناء، لا تخف، اضرب وكافح الظلم والظالمين.
وبعد شهور تم طرد ناظم حكمت من عمله، اذ لم تعد الأفلام التي يترجمها أفلام تسلية بقدر ما أصبحت بابا لتسريب عبارات ثورية وتحريضية، وكأنه يترجم أفلاما عن كومونة باريس.
ما الذي ذكرني بذلك؟
اعتدت عادة، لمعالجة الارق حين يداهمني كابوس ويجبرني على ترك النوم، ان اختار فيلما سينمائيا، من أفلام الحركة والمغامرات، اشاهد جزءا منه حتى يعادوني النعاس من الجديد. هكذا قبل أيام، اخترت فيلما، بعنوان (المحترفون) من كلاسيكيات أفلام رعاة البقر (الويسترن) من انتاج عام 1966، عثرت عليه على منصة نتفليكس، دفعني لاختياره وجود جمهرة من الأسماء الذهبية من نجوم الشاشة، الذين اغرمنا بأفلامهم أيام صبانا وأول شبابنا،إذ وجدتهم يشتركون في هذا الفيلم مرة واحدة.
في الأراضي المكسيكية يشهد (المحترفون) هجوما لرازا ورجاله على قطار حكومي ويستولون عليه، فيتبعون القطار الى معسكرالثوار، ويقومون بمراقبته. يتسلل (المحترفون) الى معسكر الثوار ويشهدون ان ماريا على وشك ممارسة الجنس مع رازا برغبتها وبدون أي اكراه، فيفهمون انهم خدعوا بشكل ما، ومع ذلكيخطفونها بعد اشتباك سريع مع سكان المعسكر، وفيه يستعرضون مهاراتهم في الرمي والقفز واللكم وثم الهروب مع غنيمتهم نحو الأراضي الامريكية، الى وديان وجبال يحتمون بها من الثائر رازا ومجموعة من رجاله يطاردونهم لاستعادة ماريا، التي تكشف للمحترفين الاربعة بانه تم تزويجها بصفقة بيع بين ابيها والثري غرانت وانها تعشق رازا منذ طفولتها وانها هربت اليه لكونه حب حياتها وتريد العيش معه بإرادتها، وطلب الفدية كان حيلة للحصول على أموال لتمويل الثورة، فيقع (المحترفون)في حيرة، فهم لا ينقذون زوجة مختطفة، بل عشيقة هاربة من زوجها. في الوديان الوعرة، يشتبك (المحترفون) مع رازا ورجاله وينجحون في جرحه وأسره، والوصول به وماريا الى الحدود، عند نقطة اللقاء مع الزوج الثري الذي بدا مسرورا، وحاول قتل رازا فمنعوه بالقوة، بل وفي تحول دراماتيكي في موقفهم، وضعواالثائر رازا الجريح في عربة مع ماريا وطلبوا منهما العودة الى المكسيك وفرطوا بالمكافأة، ثم تبعوهما عابرين الحدود الى المكسيك.
التغير في موقف (المحترفون) جاءا تدريجيا، بعد حوارات جرت بينهم خلال اعتصامهم بصخور الوادي ومراقبتهم معسكر الثوار واستذكار علاقتهم مع رازا والثورة المكسيكية، وحديثهم عن معنى الثورة. لفت انتباهي عمق الحوارات التي تجري بين رعاة البقر المغامرون، فهي لا تتناسب مع فيلم مقدر له ان يكون فيلم حركة ومغامرات، نرى فيه لي مارفن الذي عودنا ان لا ينحني امام الرصاص المتطاير حوله، ونتحمس لقفزات برت لانكسترالبهلوانية التي يجيدها، اذ كان لاعب سيرك قبل امتهانه التمثيل، ووجدت ان ناظم حكمت يطل ملوحا لي بين الحوارات، بل ويغمز بعينه، فطار النوم من عيني تماما:
ــ ماتوا بشجاعة من اجل ما آمنوا به ...
ــ الثورة؟
ــ عندما يتوقف إطلاق النار ويدفن الموتى ويتولى السياسيون زمام الأمور كل ذلك سيؤدي الى شيء واحد ... قضية خاسرة.
ــ اذن انت تريد الكمال او لا شيء.
وفي مكان آخر:
ــ ان الثورة مثل علاقة حب عظيمة في البداية تكون كالإلهة... قضية مقدسة، لكن كل علاقة حب لها عدو رهيب .
ــ الزمن؟
ــ فنراها كما هي، فتبدو الثورة لنا ليس كالإلهة، بل كالعاهرة، لم تكن ابدا نقية أو مقدسة أو كاملة.
أو :
ـ بدون حب … بدون قضية، نحن لا شيء!
أيضا:
ــ نبقى بسبب ايماننا ونغادر بسبب زوال الوهم. نعود لأننا قد ضللنا ونموت لأننا ملتزمون.
وكان عليّ للخلاص من الحيرة البحث عن اسم كاتب الفيلم ومخرجه لافهم وجود هذه الحوارات.
وتشير سيرته الذاتية الى انه خلال الحملة المكارثية (وصلنا الى مربط الفرس!) أواخر أربعينات ومطلع الخمسينات في القرن الماضي، وبالرغم ان بروكس لم يتم اتهامه رسميا بكونه شيوعي الا انه عاش ايامه منتظرا استهدافه بسبب أفكاره اليسارية التي يفتخر ويجاهر بها واسلوبه المتمرد في العمل، شأنه شأن العديد من أصدقائه وزملائه المقربين من الممثلين والمخرجين الذين ظهرت أسمائهم في القائمة السوداء، ولهذا فكر بترك أمريكا حاله كحال شارلي شابلن، والانتقال للعيش في بريطانيا.
أذن ، لم يكن فيلم (المحترفون) بريئا، ومجرد فيلم مغامرات، لم يكن مجرد استعراض عضلات وامكانيات فردية لممثلين نجوم، بل نجد ان المخرج منح الكاميرا فرصة لعكس انفعالات الممثلين، من خلال لقطات قريبة لاقتناص لحظات إنسانية من الترقب والخوف والتحدي، ايضا منح الفيلم الكاميرا حرية لاستعراض قسوة الطبيعة بلقطات واسعة عريضة، تضعنا امام قسوة الصخور والمنحدرات جنبا الى جنب مع قسوة الانسان، وضعفه وخوفه من تقلبات الطبيعة ( مشهد العاصفة الرملية في الصحراء اثناء المطاردة) وهكذا لم تكن الحوارات التي حواها الفيلم الا فرصة ليقدم مخرج يساري متمرد مثل ريتشارد بروكس، ذو فكر مغاير،توصف طريقته بالعمل بانها تشيخوفيه في الغوص في النفس البشرية، فكرة عن العلاقات الإنسانية ودواخل النفس البشرية، لهذا لم يكن مستغربا ان فيلم ( المحترفون) نال ثلاثة ترشيحاتفي حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1967، لكاتب السيناريووالمخرج ريتشارد بروكس كأفضل مخرج وأفضل كتابة (سيناريومقتبس) والمصور السينمائي (كونراد إل هول ) لأفضل تصويرسينمائي.
*عن المدى البغدادية عدد يوم 27 حزيران 2024