باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
بوزن مصر إقليمياً، وبوزن الولايات المتحدة دولياً، تبدو الدوحة بينهما وازنة بما يكفي، متفوقة في إعلان نفسها وسيطاً فاعلاً للتوصل إلى اتفاق سلام في الصراع الأكثر تعقيداً في العالم، وتبدو دبلوماسية الدولة الأقوى في العالم وقد أصبحت قدرتها على استخدام جبروتها لفرض الضغط على أي من طرفي الصراع لتقديم تنازلات موضع شك، وأصبحت لا تستطيع أن تستبعد من حساباتها دور قطر كوسيط استطاع أن يقدم نفسه في كثير من الصراعات في العالم على أنه طرف محايد، يتبنى سياسة رعاية مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لتحقيق السلام، إلا أن الولايات المتحدة تريد منها أن تمارس الضغط على حركة حماس للقبول بشروط إسرائيل في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين دون التوصل إلى اتفاق شامل يتضمن وقف دائم للحرب العدوانية على الشعب الفلسطيني، استمرارية دور قطر مشروط في قدرتها على جمع أطراف النزاع، دورها سينتهي أو يتراجع حالما تنفذ طلب اسرائيل، بممارسة الضغط على حركة حماس، بالتهديد بطرد قيادات الحركة من الدوحة، أو وقف تمويلها، عندها ستسعى حماس إلى نقل مكاتبها إلى طهران، الملجأ الوحيد المتبقي لها بعد الدوحة، وستُرغم إسرائيل والولايات المتحدة على التعامل مع إيران، من أجل صفقة تبادل أسرى. ومهما كان وجود قادة حماس في الدوحة غير مرغوب فيه لا أمريكياً ولا اسرائيلياً، إلّا أنّ طردهم من قطر قد يُشكّل تراجعاً نحو الأسوأ لكليهما، تدفع الولايات المتحدة وإسرائيل ثمنه، فحساباتهم تقول: بقاء حماس في قطر يوفّر أجواء مناسبة للحوار يُمكن التحكّم بها، ما يحدّ ـــــــ على الأقل ـــــــ من التصعيد في الصراع الأكثر تعقيداً في العالم، بالتالي، تُعتبر المحافظة على دور قطر كمضيف لقادة حماس، ذو أهمية بالغة، لإحراز تقدّم في مفاوضات السلام، لأن مقرّهم المتوقع في طهران سيصعب المفاوضات، والصراع سيصبح أكثر استعصاء، والحرب أشد دموية.
الدبلوماسية القطرية نفسها تعرضت لضغوط من جهات عديدة داخل الولايات المتحدة ومن إسرائيل، على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الدوحة باستمرار، منذ اندلاع الحرب على غزة، وقد دفع ذلك بقطر إلى الإعلان عن إعادة تقييم دورها في الوساطة بين حماس والاحتلال الإسرائيلي. وبحسب ما جاء في تقرير على شبكة سي إن إن، وقّع 63 عضواً في الحزب الديمقراطي و50 في الحزب الجمهوري على رسالة يطالبون فيها الولايات المتحدة بممارسة ضغوطاً أكبر على قطر وتركيا، لطرد قادة حماس الموجودين في الدولتين.
ما مصلحة قطر في الإصرار على دور الوسيط؟. لقطر مصلحة في خفض توترات حرب ممرات التجارة العالمية، تسعى كدولة مصدرة للغاز إلى حل الأزمات الدولية التي تؤثر على الاقتصاد العالمي، وحركة التجارة وتسويق النفط والغاز لتعزيز قدرتها على المنافسة مع دول أخرى مصدرة للغاز، بينما واشنطن تبدو فاقدة لثقة المتنازعين، أو طرف منهما على الأقل، يهم الولايات المتحدة مصالحها أولاً وأخيراً، فهي في نظر الشعوب الحرة، دولة صانعة للأزمات العالمية، وراعية للحروب، وليست راعية للسلام.
يتنقل المبعوثون الأميركيون ووزير خارجيتهم في زيارتهم للمنطقة بين الدوحة والقاهرة، في رحلة البحث عن حل لوقف الحرب، وفي المقارنة بين دور الوسيطين العربيين في المفاوضات، نجد أن الدور الرسمي المصري قد اكتسب تفضيل الإسرائيليين، قالت إميلي معتي العضو السابقة في البرلمان الإسرائيلي: إن «منتدى عائلات الرهائن يعتقد أن الطريقة الوحيدة لإطلاق سراح الرهائن، هي من خلال المفاوضات، وبقدر ما قد يكون الأمر مؤسفاً لكوننا نفضل مصر، إلا أن قطر تعدّ شريكاً»، من جهة أخرى، أشارت إميلي أن أعضاء في منتدى عائلات الرهائن كانوا يمسكون أنوفهم قرفاً عند ذكر التعامل مع قطر، آذان مسؤوليهم أيضاً أغلقت عندما قررت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع إسكات قناة الجزيرة الإخبارية التابعة لقطر، وصادرت معداتها، وأوقفت على الفور بث برامجها لمدة 45 يوما قابلة للتجديد، تحت ذريعة الحفاظ على أمن البلاد، ووصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قناة الجزيرة بـ«الإرهابية».
وإذا ربطنا وصف نتنياهو هذا، بتساؤله عن سبب نفوذ قطر على حركة حماس، بقوله: « .. لهم نفوذ على حماس، لماذا هذا النفوذ؟ لأنهم يمولونهم». مما يعني اتهام قطر بتمويل «الإرهاب».
وذكر يغئال كارمون، المستشار السابق لسلطة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، ومستشار رئيسي الوزراء إسحاق شامير وإسحاق رابين، أن قطر تدرب بانتظام قوات الشرطة التابعة لحماس.
وزراء في حكومة نتنياهو أدلوا بتصريحات تتحدث بشكل سلبي عن الدور القطري وانتقدوا جهود الوساطة القطرية،
ورغم تأكيد قطر أنها ملتزمة بجهود الوساطة في أزمة غزة ولكنها وقفت أمام عرقلة حكومة اليمين الإسرائيلي هذه الجهود، مما حدا بالحكومة القطرية إعادة تقييم المفاوضات، وما آلت إليه الأمور بعد الهجوم الإسرائيلي على رفح.
رغم ذلك تبدو الدوحة لاعباً دولياً مهماً، أو أن قطر هي الوسيط المناسب، فقد أشار يوئيل جوزانسكي وإيلان زلايات من معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، إلى أنّ قطر هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على جمع الجهات الفاعلة الرئيسية في الصراع: الأمريكيون والإسرائيليون وقيادة حماس.
تبقى معايير الوساطة القطرية تحت العناية والمباركة الأمريكية، وقد أكّد المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص لشؤون الرهائن، روجر كارستنز، لمنتدى عائلات الرهائن واللجنة اليهودية الأميركية: إن قطر تفعل كل ما نطلبه. كما أكّد الرئيس جو بايدن: أن «تهديدات الحكومة الإسرائيلية لن تنعكس بشكلٍ كبير على سياسة قطر الخارجية». لكن إلى متى؟. قال عضو الكونغرس ستيني هوير، زعيم الأغلبية السابق في مجلس النواب الأمريكي، في أبريل 2024، «إذا فشلت قطر في ممارسة هذا الضغط، فسيتعيّن على الولايات المتحدة إعادة تقييم علاقتها مع قطر». من جهته، قدّم السناتور تيد باد قراراً ينصّ على النظر في إنهاء وضع قطر كحليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي. إذا اكتسبت هذه الخطوات زخماً، من شأنها أن تغيّر دور قطر الإقليمي إلى حد بعيد. على الرغم من أنّ قطر ستحاول على الأرجح تلبية مطالب أمريكا بالتخلّي عن حماس بشكل كامل، إلّا أنّ هذه التطوّرات قد لا تخدم المصالح الأمريكية على المدى الطويل.
أهمية الدور القطري كجهة أساسية فاعلة لا غنى عنها، تحظى بقبول الأطراف كافة سواء المتحاربين أو الوسطاء، لو تراجع دورها، أو انتهى بالفشل، لن يبقى في ميدان الوساطة غير مصر أما الولايات المتحدة فهي في نظر الفلسطينيين طرف خصم في النزاع، ومصر ايضاً لا غنى عنها، وتمتلك من عوامل لعب الدور هذا، موقعها الجغرافي المجاور لحدود غزة، والمنفذ الوحيد لها إلى العالم ـــــــ غالباً مغلق ـــــــ، فما حال هذا العامل بعد اجتياح الجيش الاسرائيلي رفح ومعبرها، وبعد سيطرته على محور فيلادلفيا؟. سيقدم المسؤولون المصريون خلال فترة قريبة رؤيتهم فيما يتعلق بمحور فيلادلفيا، والوسطاء ينتظرون إجابات من إسرائيل فيما يتعلق بقضيتين أساسيتين: معبر رفح، وضمان استمرار وقف إطلاق النار خلال المفاوضات بين مراحل الصفقة، لكن الوفد الإسرائيلي تذرع بأهداف عسكرية لم تتحقق بعد على معبر رفح، وقال إن عملية التفاوض لا تعني وقف العمل على تحقيقه.
لعل في دور الوسيطين العربيين تكاملاً ما، قطر تمتلك ثروة هائلة من الغاز، أعطى لسياسة دولة قطر بصغر مساحتها وقلة عدد سكانها دفعة قوية للوساطة، عززها نجاح جهودها في مفاوضات، أدت إلى حلول مقبولة بين الأطراف المتنازعة، ليس فقط حلولاً تخص غزة، حيث لعبت قطر دوراً بارزاً على الساحة الدولية، ونجحت بإدارة مفاوضات حاسمة في عدد من الصراعات الدولية، وتمكّنت من تطوير سياسة خارجية للوساطة في الأزمات العالمية.
وقد أثمرت جهود قطر في عقد اتفاق هدنة لأسبوع في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تم خلالها إطلاق سراح 81 اسيراً إسرائيلياً لدى المقاومة في غزة، مقابل تحرير نحو 280 أسيراً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية. لكن فشلت كل الجهود القطرية للتوصل إلى هدنة ثانية.
وكان لقطر دور بارز في التوصل إلى هدنة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل خلال الحروب التي شنتها الأخيرة على قطاع غزة في أعوام 2009 و2012 و2014 و2021. وأكد القيادي في حركة حماس خليل الحية أن الحركة تريد أن تستمر قطر في دور الوسيط.
5 تموز/ يوليو/ 2024 وصل إلى الدوحة وفد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بدعوة من المكتب السياسي لحركة حماس، لإجراء مباحثات تتناول حرب الإبادة ضد شعبنا في القطاع، وإجراءات حكومة نتنياهو في الضفة الغربية، لتسريع عمليات ضم الأراضي الفلسطينية، كما سيتناول الحوار من الجانبين الأوضاع الداخلية بعد إلغاء جولة الحوار الوطني الشامل في بكين، وكيفية الوصول إلى توافقات وطنية لإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الداخلية، هذه الدعوة لا بد أنها حصلت على موافقة وتسهيلات من الجانب القطري، مما يثير التساؤل: هل تستضيف قطر مزيد من فصائل المقاومة الفلسطينية، ولا سيما من اليسار الفلسطيني، وليس فقط من الإسلام السياسي؟. دور قطر قد جاء من استضافتها قيادة حركة حماس، فهل تستضيف مزيداً من فصائل المقاومة الفلسطينية لمزيد من هذا الدور؟. هذا السؤال يطرحه، زيارة وفد الجبهة الديمقراطية للمرة الأولى إلى الدوحة، للقاء والتنسيق بين الفصيلين حول الحرب ومفاوضات السلام، وبغض النظر إن جرى لقاء بالدوحة بين وفد قيادة الجبهة مع مسؤولين في وزارة الخارجية القطرية للبحث في القضية الفلسطينية، فإن هذه الزيارة ستسمح أو ستمهد لعلاقات أوسع مع فصائل فلسطينية من طبيعة إيديولوجية مختلفة عما استضافته قطر في المراحل السابقة، وهذا بدوره يدفع نحو مزيد من أهمية الدور القطري في المفاوضات غير المباشرة، بخصوص وقف إطلاق النار، وبخصوص حل سياسي شامل ودائم للصراع الفلسطيني ـــــــ الإسرائيلي.