في نهاية شهر يونيو الماضي، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) العثور على خمس عبوات ناسفة خبأها تنظيم داعش قبل سبع سنوات داخل جدار مسجد النوري الأثري، أيقونة التراث العراقي الذي يجري ترميمه حاليا في مدينة الموصل شمال البلاد.
شكل هذا الإعلان المؤشّر الرمزي الأكثر دلالة على تركة التنظيم الإرهابي داخل العراق، التي لا تقتصر على العبوات الناسفة والذخائر، بل تتجاوز ذلك إلى ملفات عالقة كثيرة، بينها ملف إعادة الإعمار وعودة النازحين وإنهاء محاكمة مقاتلي داعش، وحلّ معضلة مخيم “الهول” الذي يضم في غالبيته عائلات وأبناء وزوجات مقاتليه، دون أن ننسى خطر الخلايا النائمة والفلول التي لا تزال تشكّل تهديداً لأمن العراق والأمن العالمي.
في تصريحات خلال الجلسة الختامية لمؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق في العام 2018، قال وزير الخارجية العراقي آنذاك إبراهيم الجعفري إن 18 ألف شخص قتلوا وأصيب 36 ألفاً آخرين في الحرب التي خاضها العراق ضد داعش منذ عام 2014.
ووصف “رحلة العراق في محاربة التنظيم”، بأنها “لم تكن سهلة وكلفتها عالية”.
يحتفل العراق هذه الأيام بالذكرى السنوية السابعة لتحرير الموصل من قبضة التنظيم الإرهابي، وتخلّص الشعب العراقي من الكابوس الذي دام أكثر من ثلاث سنوات، مخلّفاً آلاف القتلى والجرحى، وعشرات آلاف النازحين والمهجّرين خارج العراق، فيما وصلت الأضرار والخسائر المادية إلى ما يقارب 100 مليار دولار، بحسب الجعفري.
أين أصبح ملف إعادة الإعمار؟
منذ أن وضعت الحرب على داعش أوزارها وملف إعادة الإعمار يعتبر الشغل الشاغل للعراق ودول التحالف الدولي والأمم المتحدة، الذين يسعون إلى إنهاء الأزمات الإنسانية الناتجة عن التهجير والنزوح، بإعادة إعمار ما تدمّر وإعادة النازحين إلى منازلهم.
كلفة إعادة الإعمار هائلة، ويشارك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من خلال برنامج خاص بالعراق يشمل محافظات الأنبار وديالى وكركوك ونينوى وصلاح الدين بمبلغ يصل إلى 1.88 مليار دولار، هدفه “إعادة الإستقرار إلى المناطق المحررة”.
في عام 2015، تأسس على المستوى الحكومي العراقي صندوق لإعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات العسكرية ضد التنظيم؛ ليكون بمثابة مؤسسة لتنسيق إدارة الأموال بين المنظمات الدولية والوزارات العراقية في عمليات إعادة الإعمار السريعة والمتوسطة وطويلة الأجل في المحافظات المتضررة.
لكن يبدو أن هذا الصندوق لم يقم بدوره كما يجب، وشابت عمله اتهامات بالفساد، ما دفع برئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني في شهر يونيو 2023، إلى إصدار قرار بإنهاء تكليف محمد هاشم العاني من مهام إدارة الصندوق على خلفية شبهات واتهامات بالفساد.
أكثر من مليون نازح
في العام الماضي بالتزامن مع الذكرى السادسة على تحرير الأراضي العراقية من سيطرة تنظيم داعش، أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها السنوي حول العراق، أرقاماً وإحصاءات تبيّن حجم تداعيات أزمة النزوح التي تعانيها البلاد.
وقدّرت أن حوالي 1.16 مليون عراقي لا يزالون نازحين داخلياً، معظمهم في إقليم كردستان. كما لا يزال حوالي 60% من أهالي نازحين في مخيمات ومنازل منذ سنة 2014، ولم يعودوا إلى مناطقهم حتى بعد انسحاب داعش لأسباب مختلفة.
بحسب المنظمة الحقوقية، أبرز هذه الأسباب “انعدام الأمن في سنجار نتيجة الغارات الجوية التركية والتنافس بين الجماعات المسلحة على السيطرة على المنطقة، وتأخر إعادة إعمار وتأهيل الخدمات الأساسية والبنى التحتية، وعدم تقديم الحكومة العراقية تعويضات عن المنازل والأعمال المتضررة خلال العمليات العسكرية”.
لم تتبدل المعطيات كثيراً اليوم، فقد صرّح رئيس حكومة كردستان مسرور البارازاني أن “قضاء سنجار لم يعد إلى وضعه الطبيعي بعد استعادته من سيطرة داعش بسبب سطوة الميليشيات والجماعات المسلحة غير الشرعية التي تمنع عودة المهجّرين إلى مناطقهم كما تمنع إعادة الإعمار”.
وتصدر وزارة الهجرة والمهجرين العراقية دورياً إحصائية بعدد النازحين الذين يعودون إلى ديارهم، أحدثها في 24 يونيو الماضي، بواقع 397 نازحاً كانوا يسكنون خارج مخيمات دهوك.
يأتي ذلك، بحسب الوزارة، ضمن خطتها “لإنهاء ملف النزوح في البلاد تماشياً مع البرنامج الحكومي”.
آلاف المحكومين بالإعدام
في يناير 2024، أصدرت “هيومن رايتس ووتش” تقريراً أدانت فيه عمليات الإعدام الجماعية التي تنفذها السلطات العراقية في سجن الناصرية “وهو السجن العراقي الوحيد الذي ينفذ عمليات إعدام” ويطلق عليه العراقيون اسم “الحوت”، لأنه كما يقولون “يبتلع الناس ولا يبصقهم أبداً”.
لاحظت المنظمة أن عمليات الإعدام بلغت حداً مرتفعاً في 2017 حيث أعدم 79 شخصاً، ثم انخفض عدد الإعدامات وأحكام الإعدام على حدّ سواء تدريجياً منذ 2020، و”هو مسار يسير في الاتجاه المعاكس الآن”، على حدّ قولها.
من المعتقد، بحسب “هيومن رايتس” وجود “8 آلاف سجين تقريباً، معظمهم متهمون بجرائم متعلقة بالإرهاب، ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام في العراق اليوم”. ونسبة كبيرة منهم ترتبط ملفاتهم بتنظيم داعش.
في كتابها “داعش – شرعنة التوحّش”، ترى الباحثة وفاء صندي أن هناك اعتقاداً لدى البعض بأن محاكمة مقاتلي داعش في أوطانهم تطرح مزيجاً من التحديات القانونية والإصلاحية والاستخبارية، ولا تقدّم في الوقت نفسه رهاناً أكيداً على أن العائدين سيحجمون عن تنفيذ أية أعمال إرهابية على المستوى المحلّي.
هذا ما يفسر عدم وجود أية رغبة إلى حدود الآن من الدول المعنية في استرجاع مواطنيها لما يمثلونه من تهديد، ليس على أمنها الداخلي فحسب، بل على الأمن الإقليمي والدولي أيضاً، خاصة أن هناك تجارب سابقة كشفت ضلوع بعض المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في حروب البوسنة وأفغانستان ثم عادوا إلى بلدانهم مرة أخرى، في أعمال إرهابية.
تستند صندي إلى أبحاث تقول إن “واحداً من كل تسعة منهم يستمرون في الإرهاب عند العودة إلى أوطانهم، بحسب الباحث النرويجي في قضايا الجهادية توماس هيغهامر، الذي رأى أن وقوع هجوم من جانب أحد المقاتلين الأجانب العائدين أمر لا مفرّ منه تقريباً”.
خلايا نائمة
في أبريل الماضي كانت بيانات القيادة المركزية الأميركية تقدّر أعداد مقاتلي تنظيم داعش في سوريا والعراق بنحو 2500 شخص، أي ضعف التقديرات التي كانت صادرة مع نهاية شهر يناير 2024.
ووفق تصريحات للباحث في مؤسسة “الدفاع عن الديمقراطية”، ومقرها واشنطن، بيل روجيو، أدلى بها لـ”فويس أوف أميركا” في أبريل الماضي، فإن “داعش يحافظ دائماً على قدراته، حتى بعد فقدانه للسيطرة على الموصل والرقة ومواقع أخرى في العراق وسوريا”.
وقال روجيو “لم يُهزم التنظيم بالكامل لأننا لم نفعل ما يكفي لهزيمتهم بشكل فعلي”.
وعلى الرغم من أن السلطات العراقية تعلن بشكل متكرر أن لا وجود لداعش في العراق، لتعزيز السردية التي تدافع الدولة من خلالها عن موقفها من التحالف الدولي وعدم حاجتها إليه، إلا أن السلطات الأمنية تعلن من وقت لآخر، إما الكشف عن خلايا تابعة لداعش، أو تنفيذ عمليات اعتقال أو تصفية لكوادره، ما ينفي الادّعاء الأول.
مخيم الهول
يؤوي مخيم الهول أكثر من 43 ألف شخص من السوريين والعراقيين والأجانب الذين ينحدرون من 45 دولة على الأقل، معظمهم أطفال ونساء هنّ أبناء وأرامل مقاتلي تنظيم داعش أو أفراداً آخرين من عائلاتهم.
يشكّل هذا المخيم أزمة مفتوحة للعراق، لأنه يضم نحو سبعة آلاف عائلة عراقية، ويبعد فقط عشرين كيلومتراً عن الحدود العراقية السورية.
يحاول العراق حلّ مشكلة “الهول” لاعتقاد الحكومة وجمعيات حقوقية دولية أن هذا المخيم أشبه بـ”قنبلة موقوتة”، بسبب الاكتظاظ الشديد في ظل أوضاع مزرية للعائلات القاطنة داخله، إذ يُعدّ سجناً كبيراً لهم.
مردّ القلق أيضاً لدى معظم الدول التي لديها مواطنين في “الهول”، أن هؤلاء أبناء بيئة “إرهابية”، والكثير منهم يحمل فكر التنظيم المتطرف.
مع ذلك، يسعى العراق منذ سنوات إلى إنهاء أزمة “الهول”، عبر مطالبة كل دولة بأن تستدعي رعاياها منه، بالإضافة لاستعادة العراق نفسه أكثر من مرة عائلات عراقية من المخيم رغم اعتراضات الشارع العراقي، وتحميل العائدين من قبل كثيرين وزر ما قام به أقاربهم المنتمون لداعش.
بحسب “هيومن رايتس ووتش”، أعاد العراق منذ يناير 2021 أكثر من 5,500 عراقي احتُجزوا تعسفيا كمشتبه بهم من داعش وأفراد أسرهم في شمال شرق سوريا. وجرى إرسال معظم العائدين إلى مخيّم “جدّة” وهو “مخيم إعادة تأهيل” مؤقت قرب الموصل، قبل العودة إلى مناطقهم الأصلية.
في أبريل الفائت أعلن المتحدث باسم وزارة الهجرة والمهجرين العراقية علي عبّاس، عن إعادة ما يقرب من 700 عراقي، معظمهم نساء وأطفال إلى مخيم قرب مدينة الموصل.
وأوضح أنهم سيخضعون لبرنامج إعادة تأهيل بمساعدة وكالات دولية، بغية إبعادهم عن الفكر المتطرف.
على الرغم من حملة الإعادة التي تبادر إليها حكومة بغداد، لا يزال العراقيون يمثلون الجنسية الأكبر بين أكثر من 43 ألف شخص يعيشون في مخيم “الهول”.
ارفع صوتك