ibrahimsemo@hotmail.de
استهلال:
صدرت رواية “تغريبة الايزيدي “للروائي صائب خدر، في مطلع هذا العام 2024، عن “دار سطور للنشر والتوزيع ” ببغداد، في طبعتها الأولى.
تعرج الرواية على “الفتح الداعشي “الأخير، لمناطق ايزيديي العراق، وتفضح الآثار التدميرية الإبادية المتمخضة، على المستويات الإنسانية والقيّمية وحتى الطبيعية، بل تهتك المقاصد الاجتثاثية الشائنة، لأولئك السلفيين المتطرفين حيال الايزيديين، وهويتهم الثقافية وعلاماتهم الحضارية الفارقة، التي تعزز وجودهم التاريخي الأصيل، او تدلل على علاقتهم الروحية المتجذرة في/ بالمكان.
ينفتح خدر في تغريبته، عبر التخييل والاسترجاع والمعاناة، على دواخل شخوصه ومخاوفهم ووساوسهم، حيال ذواتهم والآخر، ويطفو الايزيدي المتخم في حضن وطنه، بالإبادة والقهر والإلغاء والدونية وهواجسها من جهة، والمنصهر الى حد تذويب الخصوصية في مهاجره القسرية من جهة أخرى.
يتنزه صائب خدرـ ان أجاز ألبيرتو ـ سرديا بين واقع استئصالي مرير مزمن بطاش، وماض دامٍ يلطخه كما الحاضر، السبي والقتل المروع والتهجير والإكراه على تغير الدين.
وما هبّة سليمان البعشيقي، وداعش تدنو من الموصل من نومه، مؤرقا كما يرد في التغريبة، بكابوس “الفريق حافظ باشا “، ” المتكالب ك”بعبع “على “الذاكرة الجمعية “الايزيدية، الا علامة مؤكِّدة على قلق وجودي قديم جديد، لامتناهٍ لدى الايزيدي.
تتحرك شخصيات “تغريبة الايزيدي “؛ تتفاعل مع سائر مكونات العملية الروائية، من سرد واحداث وازمنة وامكنة، يؤطرها فضاء روائي ملتهب، أساسه واقع قهري مزمن فتاك، بل اجتثاثي يفوق في ايذائه الخيال، وخيال فاعل يحاول ان يلم ب/ بمعنى يصور، مستعينا بالتاريخ المدمى، الضرر العظيم المتمخض على الايزيديين.
على ضفاف اللغة والسرد:
ـ العنوان بين بعد لغوي صرفي وآخر انساني:
مفردة “تغريبة ” في عنوان الرواية موحية، تلمح الى “هيئة ” “المضاف اليه “؛ أي الايزيدي المكتوى من/ في عراقه ب “الاغتراب الروحي “، ولا يقف ـ هو العنوان ـ في افضاءاته هنا عند فيوض “مصدر الهيئة “، بل يلتهب كذلك بمعان صرفية صارخة من مقذوفات “المرة “، لكن تلك المرة المناوئة لقاعدتها الصرفية، والمتكررة مرة بعد مرة، كشاهد ثقة على ابتلاء “المضاف اليه “، باضطرابات عصابية او ذهانية مستحكمة، عمقها الاضطهاد التعسفي او سواه من مغبونيات مزمنة، جرجرت مكابديها الى تلاش عضال، على الصعيدين النفسي ـ الاجتماعي الإنساني. ومعلوم ان الاغتراب/ التغريبة اذا ما اضيف الى الايزيدي، فإنه يسمم علاقة “المضاف اليه “، هذا المثقل بالرفض والالغاء والاستئصال مع المكان، بل يحوِّل فضاءات المكان لجهة الانتماء المفترض، من “وطن رحيم “الى “مُغترَب رجيم “.
ـ لغة التغريبة بين “بعشيقيّة ـ بحزانيّة “و فصحى:
“العامية” او الكلام المحكي مستثقل في العادة، حتى في الحوار، داخل الاعمال الروائية، لما قد يحمله من لُكونات محلية او عجمة او غرابة، لكن ل “اللغة البعشيقية البحزانية “ان صحت التسمية، وقع خاص قد يغري المتلقي لجدته، فينشغل عن انقباضه النفسي بل يستسلم تبعا لذلك، وعلى مدار اقترافه التذوقي، لسلطنة لسانية ذات وقع سيادي فريد.
وللاستدلال على وقع “اللغة البعشيقية البحزانية “الرشيق فإن جمل:
“لين كنت غيح. ص 128″/ “لكن شنو دورهم صار من 2004 كيحمونا. ص 30 “/ “أ هذا انت ايش جابك لهوني. ص 131 “/ “ها سليمان خيرك. ص 165 “/ “وشنو صار منكم. ص 48 “،المُعالَجة كلها وسواها معمليا، في “تجاويف الهواء “، وما يرتبط وظيفيا بتلك التجاويف، من “مضخات ” و”صمامات ” وانسجة وأعضاء أخرى، في الجهاز النطقي ـ الصوتي لدى “المتحدث “، الممهور لغويا ب “فونيمات “مُبهِرة من الإبدال والإعلال والإقلاب، لا ترسم حدودا فونوتيكية فاصلة بين مواطني بعشيقة وبحزاني، وسواهم من مواطني العراق وحسب، بل تضفي مسحة جمالية على البناء السردي، وتميط اللثام عن ابتكارات معملية مُفعَّلة فونولوجيا، بغية استحداث مفردات وتراكيب؛ ان مزجية او إضافية او اسنادية جديدة، لها دلالة الكلمة او العبارة الفصيحة، الاصيلة ذاتها او اخرى مغايرة، وللتفصيل فإن:
(“لين “) تتركب مزجيا من (“الى ” و “أين “). و(“غيح “) تجمع بين الإعلال والإبدال؛ حيث “غ “اصلها “ر “، وتعكس رقرقات شذ وجذب، شهدتها عضلات الرئة، ثم الحنجرة واللسان وهكذا دواليك، كي تشهر من ثم بلدتي “بعشيقة وبحزاني “، الممتدتين على بعضيهما؛ حضاريا جغرافيا تاريخيا على شكل أيقونيّ، “مملكة لغوية “مستقلة، حدودها ثقافتها ولغتها المغايرتان.
من ههنا وعليه: فالتغريبة قد ترسم وهي تعرج على “البعشيقيّة البحزانيّة “، علامات استفهام كبيرة لدى المتلقي حول: هل هي لهجة ام بقايا لغة منقرضة، وهل لتطابقها مع “المردلية “، التي يتكلمها اقوام من السريان والعرب والكرد، في ماردين التركية، والجزيرة السورية دلالات ما ؟. لكن ومن واقع لغوي مُعكِّر: هل يتساهل المتلقي نفسه او سواه، ممن يساعده حدسه اللغوي على الملاحظة، في ضبط “خروقات مشهودة “او عثرات غير مُغتفرَة، لجهة السرد والنحو والصرف والإملاء، وحتى الطباعة ؟ ثم من المَلوم هل دار النشر ام الروائي نفسه؟.
ـ ضمير الغائب بين السارد والروائي:
يُدشَن الفعل الحكائي في التغريبة بضمير الغائب، و تتعالق “الأنا الساردة “، مع “الأنا الروائية “او تنفصل، لكن “ضمير الغائب “الذي يسود، يطغى في حضوره، و يشرعن بل يزين لذاته سطوه على/ او احتكاره لفضاءات السرد وعوالمها، ويعترض على أي دور ل”ضمير المتكلم” او “المخاطب “في الفعل السردي، والسؤال المشروع ـ هنا ـ لِمَ اقتصر الروائي على تقنية “الغائب “، هل ليتراءى بمظهر “الراوي العليم “، ويلمح من ثم إلى ضلوعه الكلي بالتفاصيل، ام ليعرب عن حياديته حذاء الاحداث المروية، ويثبت تاليا انه راو غير مشارك، ام ليحصن نفسه من الوقوع في فخاخ “أنا المتكلم “، وما يمكن ان تثقل به تلك “الأنا “، من لدن المتلقي من اشتباهات جزافية منافية للحقيقة، لكن السؤال الأكثر إلحاحا: أ لم يسخّر الروائي، وهو يقترف السرد شيئا؛ ان كثيرا ام قليلا من ذاته ،لِمَ عمد اذا الى التواري خلف ضمير الغائب؟!.
الفضاء الروائي أو… تآزر الأمكنة وتواطؤها:
يضيق الفضاء الروائي بالتغريبة ويتسع، وتتلوى بعشيقة مع اختها بحزاني، بشوارعها وازقتها ومعابدها وبيوتها وحاراتها وجبلها، وحاضرها وماضيها وبالطبع مواطنيها؛ أي بشرها، جراء الابتلاء بالفُحْش الداعشي، ويتحول الوطن بالبعشيقيين والبحزانيين، بخاصة الايزيديون والمسيحيون منهم الى صفيح ساخن، ويشرع الاهلون بالنزوح، ويتحول كثير من النازحين الى مهاجرين، ومن هنا تتعدد الأمكنة وتتشابك، او تتلاحق متواطئة، بخاصة بعد غزو كلٍّ من شنكال، فبعشيقة وبحزاني، او مؤازرة، وتُسبَغ بأسماء ان واقعية او متخيلة، من مثل (الشيخان، دهوك، مدرسة كلستان التي تحولت الى مخيم ـ مُلتجَأ، هياكل الأبنية، زاخو، أربيل، مطار أربيل، تركيا، إسطنبول، البحر، القارب، اليونان، المانيا؛ كولن، فرايبورغ، ال “هايم”، ال”كامب”… إلخ )، كي تنطلي” اللعبة الروائية “على المتلقي، ويُستدرَج ـ من ثم ـ بالقص، مضللا ب”مصداقية “ابتدعها؛ أي احتبكها من وحي مأساوي، عن واقع تداعى اكثر ايلاما، خيالٌ خلّاق.
واللافت ـ في هذا المضمار ـ ان الرواية تفتتح، وكذلك تختتم ببعشيقة، ثم يتمفصل ما بين المفتتح والمختتم، أمكنة التغريبة، وتتنوع تموضعاتها وخصائصها الطبوغرافية او تختلف، لكنها تتداخل متماهية، عبر ابعادها الهندسية، والجغرافية، والفيزيائية، والفلسفية، والتاريخية، كي تؤسس لنفسها” كينونة حيِّزويّة “؛ بمعنى “مكانية “، او ان شئت “فضائية “، تؤهلها كي تدخل في علاقات تفاعلية ـ ترابطية ـ تكاملية وثيقة، مع الاحداث والشخصيات والازمنة، وسوى ذلك من العناصر الحكائية، التي تشكل “تغريبة خدر”.
تصدير واقع محليّ و…تداخلات:
تبحر “تغريبة الايزيدي “بالمتلقي، الى الاغترابين الروحي والنفسي لشخوصها الايزيدين، الذين تشوه لديهم، بفعل القهر والاستلاب والابادة المتكررة، كل عائدية، وتبينُ ـ من ثم ـ كيف اضحت هوية هؤلاء الشخوص، بمعنى خصوصيتهم الثقافية والانسانية، قاب قوسين او ادنى من التحول، ان لم نقل الانقراض، فهي؛ أي التغريبة تعرِّف اذا بعوالم ومعالم وخصوصيات المكان والانسان الايزيديين، وتسهم ـ تاليا ـ بتصدير ما تراكم لها على الأصعدة الفردية والمجتمعية والتاريخية والثقافية، من مضامين ومطامح وآفاق، يغلف اغلبها مآس وويلات و”فرمانات “، الى خارج المجتمع الايزيدي، بل إلى ما وراء حدود البلاد.
وحيث التغريبة، تعرف بالملاحقة الوجودية للعنصر البشري الايزيدي، في بعشيقة وبحزاني و شنكال، او سواها من البلدات و”المجمعات ” والقرى الايزيدية، تتظافر الظروف كي يتسلل المتلقي الضليع، ان أراد إلى بلدة “ماكوندو “، متلصصا بقصد التملّي، ان لم نقل الموازنة على معاناة عائلة “بوينديا “، التي نقشها غبرييل غارسيا ماركيز، في “مائة عام من العزلة”.
غير ان المتلقي عينه، وهو يستمرئ الدورين؛ “التعريفي” و “التصديري “، لتقاطعات صائب خدر مع ماركيز، لن يفوت ذائقته، أن يتحسس بهذه المناسبة، ما جاد به نجيب محفوظ في أكثر من عمل روائي، او عبد الرحمن منيف في مدن الملح، او غيرهما من مُعولميّ الواقع المحلي روائيا، ويتساءل من ثم:
هل استطاع خدر، ان يعرّف او يصدّر حقا، بعضا من محليته؟.
التغريبة… قد تشهد التغريبة هنا، ان الرجل عبر بلغته “البعشيقيّة “الى ما وراء الحدود؛ اقلها حدود بلدته.
“ضيعة “وطن و…وطن مغترب:
ـ بعشيقة وبحزاني منتمى فاضل:
تقحمنا تغريبة الايزيدي في أجواء بعشيقية ـ بحزانية صرفة، كي تعرفننا الى سمات المكان المحلية ،وخصاله الثقافية ـ الحضارية بل الانسانية المتنوعة، حيث نطل في بعشيقة، على خمارة يرتادها الايزيدي والمسلم والمسيحي ،ونسترق السمع الى احاديث “جايخانة الرشيداني “،ونكحل عيوننا بمنظر “مروحة المستر”، تلك المروحة الحديدية العالية، التي افاد “الأستاذ ابلحد “، أستاذ اللغة الإنكليزية في بعشيقة، انها تعود لاحد مبشري البروتستانتية، الذي سكن المنطقة القديمة، ثم نكاد نفاضل، عبر ندامى ما يزالون يرفعون الأنخاب في الخمارة او في منازلهم، بين “عرق بيت الياس” و”عرق بيت عتو “البعشيقيين، ونتعرف الى “راحيل” المسيحية “، التي لم تكن تأكل الخس تضامنا مع صديقتها الخالة حسنة. ص 76 ” الايزيدية، وحسنة تلك الثمانينية، التي “تنهض في الفجر تؤدي شهادتها في الدعاء الصباحي تحاول السير اغلب الأيام الى مزار “ملك ميران” القريب منها. ص34 “، ونربت على كتفي “يونان ابن راحيل (الذي) تربى وسط الايزيديين. ص 76 “، كفرد منهم، ويبهرنا العم بلال الصابونجي،
البعشيقي المسلم الذي يجيب الدواعش في عز قوتهم، يتحداهم ويقدم خلسة الطعام والشراب ل كمال المجنون، ومتروكين أخرين ايزيديين ومسيحيين، كرمى لحقوق الجيرة.
بعشيقة تطل في تغريبة الايزيدي، “ضيغة فاضلة ” في التعايش فيما بين مكوناتها علينا؛ إذ لا يكدر المسلم والمسيحي في بعشيقة، ان ينتفض “ايزيدي ميرزا” مكرما في تمثال ـ مجسم وسط المدينة،
وان تتسامق القباب والمعابد الايزيدية بالتوازي مع الجوامع والكنائس، و…تتسع شمائل بعشيقة، تستعصي على الحصر، تكاد تبدو بهذه السمات أو تلك على الأقل لمن يعيش خارجها افلاطونية، وقد يغلب هنا الفضول صاحبه حيال تلك الفضائل ويتساءل: هل كان حقا للبعشيقيّ ـ وكل حسب معتقده ـ ان يتعبد في جامع الفاروق مثلا، او يبتهل الى الله “وطاووسي ملك ” في مزارات شيخ بكر و”ملك ميران ” و”ناصر الدين” الايزيدية، او يتبتل باسم الاب والابن وروح القدس في كتدرائية او بمعية أسقف ؟…ما الذي تغيّر اذا !.
ـ العراق كبوة سيادة وطنية:
يكبو العراق كوطن في التغريبة، مثل حاله في الواقع، وتتخلى سلطاته الرسمية عن واجبها الأساسي، في ممارسة “اعمال السيادة الوطنية “على أراضي دولتها، وتنسحب تاليا المنظومة الأمنية العراقية العرمرم، بما فيها الكردستانية بكامل عتادها وعديدها من سوح الدفاع، مخلفة السكان (المواطنين )الآمنين، في سنجار؛(شنكال)، وبعشيقة وبحزاني وسواها من قرى وبلدات ذات اغلبية ايزيدية، وقبلها الموصل نهبا لنهم داعش وتطرفه، دون ان تكلف تلك المنظومة نفسها، بعناء بذل ولو الحد الأدنى من واجب الحماية والدفاع.
ـ العراق مرة أخرى …وطن مُغترَب و كمب وطن:
تعرّي التغريبة خراب حال مشردي الإبادة الداعشية من الايزيديين ،وتتيح ـ من ههناك ـ للقارئ ان يستهجن مع امل؛ ابنة سليمان البعشيقي، فظاظة تسكعها والجموع الطريدة إثر الاجتياح الداعشي، بخاصة “في الليل( حيث)كانت امل تشاهد العوائل التي افترشت الأرض والشوارع لتنام ليلتها هربا من بطش داعش. ص 67 “، وان يستوعب تفكر تلك الصبية، في التحري عن مأوى اضطراري إثر سماعها ” من إحدى النساء …بأن بعض الأهالي انتقلوا الى المدارس وان السكن في هذه المدارس بمساحاتها الرحبة من دون تكلفة مادية. ص 69″، وان يتأفف من تحول المدارس، من مركز تعليمي الى مقر إقامة عاجلة ،ويهوِّن ـ من ثم ـ على الآويين القسريين الى “مدرسة كلستان “، التي افردت احدى قاعاتها للتخييم الجبري، ورخصت ان ” تسكن في تلك القاعة عشر عوائل قطعت القاعة بحواجز من قماش تفصل بين عائلة وأخرى. ص 82 “، وان يدرك ان الحياة لم تعد ” سهلة بالنسبة لعائلة سليمان داخل القاعة فغسل الحمامات والمرافق وتنظيف القاعة كان بحسب برنامج اعده الأهالي ووافق عليه السيد اوديشو الذي كان يهددهم كعادته بان وجودهم مؤقت مع بداية العام الدراسي. ص 84″، وان يغتم ـ من ثم ـ مع المتذمرين، من عدم السعي على المستوى الرسمي العراقي او الكردستاني ،الى برامج وخطط واستراتيجيات جادة، تعنى بخلق ظروف إنسانية لائقة، وتكفل حياة كريمة للنازحين، او ترسم آفاق مستقبلية لعودة مشرفة، او تتطلع الى إعمار مناطقهم، و يتعاطف ـ سندا على ما تقدم ـ مع مشروعية قلق سليمان البعشيقي على وجوده فردا وعائلة وجنسا بشريا في العراق: “لماذا إذاً نحن هنا نعيش هذا العذاب ؟ تذكر قطعة القماش التي تحولت إلى غرفة معيشة بائسة والمستقبل المجهول مع كل هذا الاضطهاد الديني وانعدام فرص العمل و… … لماذا لا اتحرك واهاجر ؟. ص 115ـ 116 “.
الهوية بمعنى الخصوصية الايزيدية منغصات و تحولات:
تتعرض تغريبة الايزيدي لبعض من منغصات الهوية الايزيدية، وهي لا تقف بذلك عند سؤال المنتمى التقليدي “عرب ام اكراد. ص 155″وحسب، بل يتمرد شخوص في الرواية، على “الثوابت غير التبشيرية “، في الجانب الديني من تلك الهوية، وللقارئ ان يتأمل هنا في “الحب لا يعرف دينا ولا طبقة ولا طائفة. ص 199″، كي يتلقف ـ من ثم ـ مدى التقهقر عن ” تابوهات “وخطوط حمراء، لم يكن للايزيدي قبلا خوضها او قبولها او حتى قربانها.
لا يكتفي شخوص تغريبة صائب خدر، المبتلون باعتلالات “الهوية والانتماء”، ب “المُغترَب والذات”، لتفسير “المعادلة المعقدة”، بل يضيفون مثقلين بتراكمات “خيبة ظن “مزمنة، اصّلها ” الآخر” عبر اجيال، “الصدمة الداعشية “؛ كمعطى واقعي الى كشكول العوامل، إذ ينتفضون جرّاء تداعيات تلك الصدمة المزلزلة، ف فراس الشيخ ذا يحدد عائديته ” لا لا ..ايزيديون فقط. ص 155 “، ولا يقف فراس عند هذا الحد بل يتمرد على لا تبشيرية ايزيديته: ” لا يجوز هناك في العراق ولكن هنا لا يوجد ما يمنع ارتباطنا وزواجنا. ص181″ في معرض اعتراضه على مقولة سليمان: “انت ايزيدي وهي مسلمة الا تعلم ان هذا لا يجوز “.
ثم ان سليمان المنعتق من استبداد مواطنيه العراقيين، ينفِّس بلا رقيب في مغتربة المانيا عن مكنوناته: “كل شيء هنا متوفر كل شيء هنا اجمل من بلادنا … . ص 156 “، ورغم ان لمقولته هذه تتمة استدراكية، لكن وكأن لسان حاله ينشطر عن “الهوية العراقية “مادام العراق مفتقدا الى قيم حقوقية ودستورية وإنسانية جادة وشفافة وحازمة لدى الممارسة الواقعية في إرساء الامن والسكينة.
مقارنات او… مفارقات :
ـ عمر وهبي والبغدادي “فِريقْ* “وخليفة:
يتساوى في التغريبة الخليفة الداعشي ابو بكر البغدادي، في الفعل الابادي، وملاحقة الآمنين، وسبي الحرائر، والتهجير القهري، وإسلام الإكراه وتجنيد القاصرين، مع الفريق عمر وهبي باشا، قائد الحملة العثمانية على الايزيديين او يجاوزه في الهمجية.
الايزيدي؛ بخاصة الشنكالي مايزال، كلما سخط على احدهم او نفر منه او تطير او تهكم، نعته ب: “فِريقْ !.”، وان احتد الموقف تخشن ـ هو الشنكالي ـ في دعوته: ” فِريقْ يدنس(ك)”. جبروت الفريق عمر وهبي، ما يزال ماثلا في الذاكرة الشعبية الايزيدية إذا، ويرى المقتفي، ان باشوية هذا السفاح، وسائر ألقابه ومسمياته وصفاته الشخصية والمهنية والاجتماعية، تنحت لصالح “رتبته”، بوصفها نبعا دفاقا للشر. معلوم ـ هنا ـ ان الايزيدي لم يكن لديه حينذاك إلمام بالمعنين الاصطلاحي واللغوي ،وجلي كذلك ان جهله بالعربية كان مطبقا، لكنه تقصى رغم اللتي واللتيا، فاشترع لنفسه معنى عرفيا ذهنيا خاصا به، مستوحى من تجبر الفريق وهبي وطغيانه، وهكذا استحالت ” فَريق” من صفة حميدة، الى كناية عن شؤم او سبة او أهكومة في الذاكرة الجمعية للايزيديين.
والسؤال الذي له ان يشتعل على ذهن من يلم بما لكلمة “فِريقْ” من مضامين عند الايزيدي: كيف تصور” الذهنية الايزيدية “في قادم الأزمان الخليفة أبو بكر البغدادي، او تنقبض منه ؟!.
ـ سليمان البعشيقي وغريغور سامسا :
سليمان البعشيقي؛ ذاك الايزيدي الذي أفاق على وقوقة مفزعة عن هويتفه، متطيرا من يومه الثلاثاء، مُكهرَبا بصداع مُشقلِب، “لاحتسائه كمية كبيرة من العرق المحلي في جلسة الاثنين الليلية. ص 13″، فقلب بثمالة الرسائل المُجعجِعة، حتى استقرت عينه من الوارد عن صديقه زياد على: “أخذوا الموصل. ص 13 “، واستسلم هو سليمان من جديد، وهو يكتنز في لا وعيه الحدث الجلل، لنعاس غلّاب اقعاه، فتلقفته كوابيس مفزعة، إذ “وجد نفسه مقيدا راكعا امام الفريق عمر وهبي باشا ذلك الباشا العثماني المتجبر. ص 14 “، يحيلنا بلا مواربة على رواية” المسخ ” لفرانز كافكا، وبكلام اكثر دقة، على “جريجور سامسا “الذي” استيقظ ذات صباح فوجد نفسه قد تحول في فراشه الى حشرة هائلة الحجم “.
لكن ورغم ان سامسا يومئ الى واقع مأساوي، قد يضحكنا للوهلة الأولى من سوداويته، الا ان مصيبته تبدو فردية وتنحصر في شخصه، في حين ان هوة البعشيقي الابادية تتجاوز حياته الشخصية وتلمح الى حكاية قهر وإبادة جنس إنساني قديمة متجددة.
والفضول؛ فضول أي منا يمكن ان يباغت هنا صاحبه ب:
أي المصائب أهون، هل الانمساخ الى حشرة، ام الوقوع في براثن متطرفين من أمثال الدواعش؟.
ـ خالة حسنة ام ماري انطوانيت :
صورة ال” “خالة حسنة” تلك العجوز الطيبة المؤمنة والتي عزفت عن الزواج . ص 34 “، وزبانية داعش يغرقون في تعذيبها، تمهيدا لإعدامها وتفجير المكان/ المرقد بها، تضاهي في بساطتها وعفوية موقفها صورة ماري انطوانيت؛ زوجة ملك فرنسا لويس السادس عشر، وهي تعتذر لجلاد يقودها الى المقصلة. قصة انطوانيت معروفة، اما الخالة الثمانينية فقد حاولت النهوض، فركلها داعشي بقدمه، و”صاح بصوت عال: عجوز كافرة. نظرت اليه وقالت له: الله يسامحك يا ابني. ص 86 “.
بيد ان الفارق كما يذكر بعض المصادر، ان انطوانيت لم تجادل قضاتها او تدفع بنفي التهمة او انكارها، في حين ان الخالة حسنة التي بكّتها الداعشي المتزعم معنفا: “الخرف واضح عليك يا امرأة يا كافرة انت خرفة لا يوجد في شرعنا أي مسلم يعتقد بعلامات الشرك هذه .ص 87 “، عارضت شططته: “هنالك مسلمون ليسوا في مثل افكارك ونحن متعايشون معهم منذ مئات السنين ونعيش بسلام. ص 87 “.
صائب خدر وغسان كنفاني… تقاطعات وجع انساني أو مأساة:
يحيلنا مشهد استسلام نازحي الغزوة الداعشية من الايزيديين لمناورات” شبكات التهريب “، إلى رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، فما اشبه راهن الايزيديين بحاضر وأمس الفلسطينيين، بل ما اشبه روح خدر المثقلة بوجع إبادة إنسانية، بروح غسان كنفاني، وما اقرب كل منهما في تراجيدية سرديته الى الأخر، فها هم اولاء سليمان البعشيقي، فراس الشيخ ،ايمان، الشيخ بركات وزوجه هوري وسواهم، يتطابقون في انجرارهم وراء “وليد أبو الجوب القجغجي”، مع انكباب اسعد، و”أبو قيس” ،ومروان على شباك العلّاس ” أبو الخيزران”، وها قارب “جان السوري” ذا، يضاهي صهريج ابي الخيزران في الوظيفة والأداء، كما لا تختلف بهلوانيات “العلّاسين”، في الخساسة والجشع وخيبة الظن وسواها من القيم السوقية؛ فملمح جان ـ وهو يخطر ـ كقائد للرحلة، لكن بعد فوات الأوان: “انثقب القارب سيغرق القارب. ص 140″، ويكر في فره مثل فقمة على البحر: “ارموا أنفسكم، ارموا أنفسكم. ص 140″، يماثل كثيرا مظهر ابي الخيزران في ” رجال في الشمس”، حين عاتب ضحاياه المُفطَّسين؛ جثثهم : “لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ “.
تباشير … امل و مراد:
ينهض مراد وأمل كـ”طائر الفينيق “، من تحت أنقاض ما خلفته داعش، من إبادة وقهر وتهجير ودمار وحرائق مُسعَّرة. والسؤال ههنا هل تم ابتداع هاتين” الشخصيتين” بقصد توظيف ما يرتبط باسميهما من خصائص دلالية ـ لغوية متماثلة متداخلة، ام جرّاء صدفة صرفة ام على خلفية استنساخ شفيف عن واقع معاش؟. أيا كان الموقف، ف” العَلَمان” امل و مراد، قد يتقاطعان على نحو ما عبر مدلولات متنوعة، او تتماهى امارات مشتركة كثيرة لديهما لجهة التلميح من ثم الى مبتغى مُترقَب او قل مستقبل منشود.
قد يؤخذ على مراد وقوعه بعد الصدمة الحضارية تلك، التي تلقاها جراء احتلال شنكال وبعشيقة وبحزاني، ضحية اضطراب نفسي ـ سلوكي، يقوده احيانا الى التعميم والخلط حيث” يرى ويعتقد ان كل المسلمين هم دواعش!!. ص 211″، بيد إن القارئ اذا ما تمعن في عموم الحال، لن يسهو عن ان لمراد حضورا دلاليا مؤثرا، يتجاوز حدود “عُقد نفسية” طارئة ،بل قد تجتذب شخصية مراد قارئها مما يزينها من مآثر، تمثلت في تمسكه بحماس شبابي حيوي بترابه الوطني، وإصراره أيا كان الثمن على تحرير بلدته؛ فها هو ذا يشرح في فيديو متداول، خططا محتملة لاقتحام المدينة، و “يقول: “يجب ان نحرر المنطقة نحن شباب كثيرون نضغط على القوات المهاجمة نقول لهم نحن نذهب لتحريرها إذا ما تقاعستم “.ص 212 “، ويرسل صورا التقطها عن بعد لضيعته المحتلة، “تظهر فيها البيوت منهكة والأشجار صفراء موحشة والشوارع مهجورة والطرقات الفرعية خاوية. ص 213” “، يذيلها ـ الها تعود على الصور ـ بالعبارات التالية: “سأعود اليك يا حبيبتي ..فالشوق اليك وطن والفراق عنك موت. ص 213 “، او يعلق على مشهد مصور لبعشيقة، مثقل بالفوضى والخراب والحواجز الترابية، وقطع متناثرة من مقتنيات البيوت المسروقة: “سنعيد الحياة لهذه المدينة وستكون اجمل من ذي قبل. ص 224″، وينجذبُ وأملَ حين يدرك مدى فاعلية دور وسائل التواصل الاجتماعي، في تحشيد ايزيدييه في الداخل والخارج لقضيته، فضلا عن استقطاب المناصرين من شرفاء المكونات الأخرى في العراق، إلى استحداث صفحة فيسبوكية، ك”تقنية “بارعة في استمالة القدرات الشبابية من جهة، وبذر آمال العودة لدى النازحين والمهاجرين من جهة أخرى، فيلاحظ ما ان ينشر صورة معبرة، الاقبال الكبير من متحمسي قريته في الداخل والخارج.
أما امل، فتبهر؛ إذ تسجل رغم حداثة سنها، مواقف حازمة حاسمة يعجز عنها كثير من قادة وسياسيّ العراق، فتصمم، وبينما المنطقة لمّا تنته بعد من التمشيط النهائي، وسط ذهول قروييها: “بأن يدفن الأبوان في الضيعة في الأرض التي تبزغ عليها شمس التحرير. ص 224″، وتنتفض متمردة، على إرادة كبار المنطقة من الوجهاء ورجال الدين واقاربها:” لن يدفن والداي الا في بعشيقة اما بخصوص جثمان امي فسيبقى في المستشفى حاليا اما جثمان ابي فسيأتي بعد ثلاثة أيام ولا اقبل ان يتدخل أي مخلوق في قراري هذا. ص 225 “، ثم تشرس كلبوة جريحة في وجه حفار القبور: “قلت لك اريد ان احفر قبرا واسعا لهما. ليس قبرين منفصلين. اردم الهوة بينهما. ص 232″.
هذه امل ،تبدو وحزن فقد ابويها وتشردها يملؤها، متناغمة مع ذاتها وقدراتها ومحيطها، قوية ولعلها حين” أحضرت شتلة زيتونة طرية غرستها واهالت التراب من حولها عند رأسيهما. 233″،كان مرادها، ان تبرهن على اهليتها ومراد وشباب ايزيديين كثيرين، على مواجهة الحياة بحكمة وأمل.
وختامها خدر الروائي وتفاصيل:
فضلا عن ان صائب خدر، مثل الايزيديين لدورة تشريعية في البرلمان العراقي، فالروائي محام، لكن يبدو ان محاماته ولوائحه ودفوعه القانونية والحقوقية، وكذلك نيابيته البرلمانية لم تفده كفاية، فقرر ان يرافع بطريقة أخرى، مادامت القنوات الرسمية العراقية والإقليمية والدولية، باتت لا تتعاطى مع القضايا الوطنية والإنسانية، الا بمعايير فئوية او شللية او نفعية او اعتباطية.
مال خدر الى الادب، واتيح له ان ينفتح على مساحات أوسع من حرية، فغرد في تغريبته هذه، او رافع بطريقته الخاصة، يمزج الواقع والخيال ،ويفرج عن مكنونات مكبوتة، مؤرِخا بذلك لمظلومية ايزيدييه، جاهدا ان يحول تلك المظلومية الى “قضية رأي عام “.
وسؤال المختتم هنا: الى أي مدى استطاع صائب خدر، ان يرافع عن تلك المظلومية ؟.
الرواية في كل الاحول، ورغم عثرات صارخة في اللغة والسرد، يؤمل تداركها في طبعات جديدة، جديرة باكتشاف عوالمها وقراءتها.
*هكذا يلفظها الايزيدي بكسر الفاء في شنكال.
ملاحظة : الموضوع منشور على حلقات في صحيفة النهار اللبنانية .