عادة وفي كل ذكرى لثورة الرابع عشر من تموز، يعاد تكرار تقييم الثورة من خلال ما قدّمته للشعب العراقي من أنجازات مهمّة، خلال فترة عمرها القصيرة مقارنة بفترات حكم الأنظمة التي سبقتها أو التي تلتها. كما تتناول الأقلام الأوضاع التي مهدّت للثورة ونجاحها، والصراعات الداخلية التي نجحت بالنهاية في قتلها، علاوة على موقف تلك الأقلام منها، إن كانت ثورة أو أنقلاب عسكري؟ وقبل الخوض في المقالة التي ستتناول أوضاع ثلاثة بلدان أسلامية ونفطية كان للشيوعيين والوطنيين ثقلا سياسيا كبيرا فيها وأوجه الشبه بينها، ومواجهة تلك الأنظمة بدسائس المخابرات الامريكية والبريطانية ونجاحها في أفشال المشروع الوطني في تلك البلدان، نريد أن نجيب على السؤال أعلاه من خلال الكاتب الأكاديمي المحايد حنا بطاطو، الذي يردّ على سؤال إن كان أحداث 14 تموز ” ترقى الى مستوى الثورة أم أنّها مجرد إنقلاب؟” ليردّ على والديمار ج. غالمان، سفير الولايات المتحدة الأمريكية السابق بالعراق، الذي رأى من أنّ أحداث ذلك اليوم لا يمكن تسميتها بالثورة، بل بأنقلاب عسكري سيطرت فيه مجموعة صغيرة على السلطة، مع وجود بعض التظاهرات التي أطلق على المشاركين فيها صفة الغوغاء! ليكتب بطاطو قائلا: ويجب ألّا يقتصر حقل الرؤية عندنا على ما سبق أحداث 14 تموز ( يوليو) بل أن يشمل أيضا ما تلاها. والواقع أنّ ألقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة” ليضيف بعدها قائلا: والواقع أنّ 14 تموز (يوليو) أتى معه بأكثر من مجرد تغيير في الحكم. فهو لم يدمّر الملكية أو يُضعف كلّ الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية وحسب، بل أنّ مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثّر بعمق. ولقد دمّرت الى حدّ كبير السلطة الأجتماعية لأكبر المشايخ ملّاكي الأراضي ولكبار ملّاكي المدن، وتعزّز نوعيا موقع العمّال المدينيين والشرائح الوسطى في المجتمع. وتغيّر كذلك نمظ حياة الفلّاحين نتيجة لأنتقال الملكية من ناحية ولألغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى.*
تجربة إيران
لم يصل مصدّق الى السلطة في إيران عبر ثورة أو أنقلاب عسكري بل عن طريق أنتخابات برلمانية، وهذا يعني إعتماده برنامج إنتخابي نال قبول غالبية الناخبين. وما أن قام بتشكيل حكومته حتّى بدأ بتنفيذ وعوده الأنتخابية. فقام بأدخال عدد من الأصلاحات الأجتماعية، منها انشاء صناديق لتوزيع بَدَلاتْ البطالة للعاطلين عن العمل، وسنّ قوانين تُجبر أرباب العمل على دفع جزء من رواتب العمال أثناء المرض والأصابة، والتفات حكومته الى فقراء الريف عن طريق بدأ برامج الأسكان لفقراء الفلاحين وتحرير الفلاحين من عمل السخرة في مزارع الأقطاعيين، ويبقى قرار تأميم النفط في شهر أيار عام 1951 هو القرار الذي حرّك أجهزة الأستخبارات الأمريكية والغربية لأسقاطه وبالسرعة الممكنة، عن طريق حلف ضمّ الجيش الموالي للشاه والذي تزعمّه الجنرال زاهدي أثناء الأنقلاب، و العشائر والحوزة الدينية بقم ممثّلة بالمرجع الشيعي آيات الله كاشاني الذي أستفاد من الغوغاء والبلطجية والنساء سيئات السمعة الذين ساروا خلف الدبابات التي قصفت بيت مصدق. لتعلن المؤسسة الدينية رسميا عن أنحيازها للشاه والأنقلابيين وجهازي مخابرات بريطانيا و الولايات المتحدة التي أرسلت كيرميت روزفلت وهو حفيد الرئيس الأمريكي روزفلت لأدارة خطة الأنقلاب. وعلى الرغم من حصول حزب توده الشيوعي على معلومات عن المحاولة الأنقلابية التي تأجلت عدّة مرات، نراه لم يتحرك لأستلام السلطة وهو الحزب الأكثر جماهيرية في إيران وقتها وله ركائز قويّة داخل مؤسسة الجيش، ليتحرك الحزب متأخرا بعد حدوث الأنقلاب، فحرّك الشارع للدفاع عن شرعية مصدّق الذي رفض الوقوف الى جانب الحزب الذي ظلّ يدافع عنه حتى اللحظات الأخيرة، وليبقى بعدها تحت الأقامة الجبرية حتى وفاته. لتبدأ بعدها حفلات الدم التي باركتها مرجعية قم بشخص آيت الله كاشاني، ليتم أعتقال وتعذيب وقتل آلاف الديموقراطيين والشيوعيين والوطنيين الإيرانيين، وليتم حرق أمير مختار كريم بور شيرازي وهو كاتب ورئيس تحرير صحيفة شورش (الثورة) كثيرة الأنتقاد للشاه ونظامه، حيّا في مركز أعتقال خاص بالشيوعيين والديموقراطيين والوطنيين.
تجربة العراق
وصل عبد الكريم قاسم لمنصب رئيس الوزراء في 14 تموز 1958 عن طريق حركة عسكرية، تحولت الى ثورة عارمة مثلما ذكرنا في بداية المقال. وسلك قاسم طريق أغضب الغرب عليه كما غضب على مصدّق قبله بخمس سنوات. فسلطة تموز سلكت نهجا وطنيا في بلد منقسم على نفسه قوميا وطائفيا ويعاني من مستوى فقر غالبية أبناء شعبه، شعب فاقد للكثير من الحريات التي خاض نضال لعقود من أجل تحقيقها. فأصدرت حكومة تموز قرارات كانت سببا رئيسيا في تحالف قوى رجعية محلية وأقليمية ودولية ضده. كقانون الأصلاح الزراعي، والغاء الأقطاع، وقانون حكم العشائر الذي كان يخوّل زعماء القبائل في حسم القضايا الجزائية في قبائلهم ومناطقهم، وقانون الأحوال الشخصية الذي أنصف المرأة التي كانت مسحوقة وقتها ومساواتها مع الرجل بالميراث، وأطلاق يدها في مشاركة أخيها الرجل ببناء الوطن، والغائها الأبعاد الطائفية من ممارسات الدولة، وشروعها في الغاء سياسة التمييز الطائفي التي كانت منتهجة في ظل النظام الملكي. وعملت على أخراج العراق من حلف بغداد، وأعتماد سياسة بعيدة عن التكتلات العسكرية، وحرّرت الأقتصاد الوطني عن طريق تحرير العملة العراقية من منطقة الأسترليني، و أصدار قانون رقم 80 لسنة 1961 وهو القانون الذي قضّ مضاجع الغرب ليسارعوا كما سارعوا في طهران، لقتل ثورة تموز.
لقد بدأ تحالف ودسائس قوى الردّة ضد الثورة منذ أيامها الأولى، وتصاعدت وتيرتها حتى نجاح هذه القوى بأنقلابها عن طريق حلف ضمّ البعثيين والقوميين والقيادة الكوردية التي أبرمت سنة 1962 حلفا مع الأنقلابيين، ودفعت منظماتها المهنية لتنسيق نشاطها مع مثيلاتها البعثية والقومية لأضعاف قاسم حتى الأطاحة بنظامه، والمؤسسة الدينية الشيعية بشخص آيت الله محسن الحكيم صاحب الفتوى الشهيرة التي فتحت الأبواب مشرعة لجرائم الحرس القومي من التي يندى لها جبين الأنسانية، وحركة الأخوان المسلمين ممثلة بالحزب الأسلامي والمؤسسة العشائرية وبقايا الأقطاع، ومجموعات من الضباط القوميين والبعثيين، ودور مصري مشبوه بقيادة عبد الناصرعربيا. أما دوليا فأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا عملت منذ نجاح الثورة على التخطيط لتصفيتها، وقد ساعدت الأنقلابيون في التخطيط والتنفيذ لها، وكان ويليام ليكلاند وهو ضابط في جهاز السي آي أيه وملحق بالسفارة الأمريكية ببغداد مسؤولا عن التحضير والتنفيذ، وقد أطلع البريطانيين بموعد الأنقلاب قبل حدوثه بأحد عشر يوما.
وكما حزب توده الشيوعي في أيران، فقد كان الحزب الشيوعي العراقي الأكثر جماهيرية وله ركائز عديدة في الجيش والشرطة وغيرها من المؤسسات الأمنية، على علم بتحركات ضبّاط موالون للبعث للأنقضاض على الثورة وقاسم والحزب. الا أنّه كما حزب تودة في إيران، تحرّك في وقت كان فيه ميزان القوى يميل بشدّة للأنقلابيين. كما رفض قاسم على غرار مصدّق الوقوف الى جانب الشيوعيين ومنحهم السلاح لمقاومة الأنقلاب وأستسلم كما مصدّق للأنقلابيين، الا أنّه وعلى عكس مصدّق تمّ أعدامه في دار الأذاعة.
نستنج ممّا جاء أعلاه وقبل الأنتقال الى النموذج الأندونيسي، أنّ توجّهات مصدّق وقاسم في البلدين كانتا متطابقتين لحدود بعيدة جدا، من حيث القوانين اللواتي أصدراها والتي أنصفت شرائح أجتماعية واسعة من الشعبين، وساهمت خلال فترة قصيرة بتعزيز مواقع البلدين على المستوى الدولي بعيدا عن التكتلات العسكرية. وقد ساهمت القوانين التي سنّتها الى وقوف نفس مكوّنات الحلف ضدهما. فالمؤسستين الدينيتين الشيعيتين في البلدين سيجنيان بعد عقود من مشاركتهما ضد النظامين رضا ومباركة الدوائر الغربية ليصلا بفضلها الى سدّة الحكم عن طريق الأسلام السياسي ، نتيجة فشل المشروع القومي العروبي متمثلا بالبعث في العراق ومحاولات الشاه في وقت متأخر نهج سياسة نفطية مستقلة بعد حرب أكتوبرعام 1973، وما ترتّبت عليها من نتائج وآثار نتج عنها أنعقاد مؤتمر طهران في نفس العام والذي تمخضّ عنه أرتفاع أسعار النفط ( مطلب الشاه)، مادفع الأدارة الأمريكية الى تحميل الشاه أسباب تقلبات أسعار النفط وقتها، وهنا يكون الشاه قد دخل كما مصدق وقاسم نفس النفق الذي سيودي بحكمه لصالح الأسلاميين، خصوصا وأنّ الغرب كان قد مهدّ الطريق أمام نظامي الحكم في بغداد وطهران الحاكمين اليوم بضربه اليسار والحركة الوطنية في كلا البلدين عن طريق الشاه والبعث.
تجربة أندونيسيا
الى الشرق من البلدين وبعد بضع سنوات من أنهيار تجربة تموز بالعراق على يد المخابرات الأمريكية عن طريق البعث وحلفائه من قوى الردّة وقبلها تجربة مصدّق في طهران، عانت الدولة النفطية أندونيسيا هي الأخرى من تدخلات المخابرات المركزية الأمريكية، لتنتهي تجربة سوكارنو الذي حاول تحقيق التوازن بين القومية والدين والشيوعية في بلاده. وكان الحزب الشيوعي في أندونيسيا وقتها من الأحزاب الشيوعية الكبيرة بعدد أعضائه وجماهيره ومناصريه ومؤازريه، وهذا ماكان يشكل خطرا على سياسات الولايات المتحدة والدول التي تدور بفلكها في منطقة جيو سياسية حساسة كشرق وجنوب شرق آسيا ومنطقة المحيط الهندي. فنشأت هناك وبرعاية المخابرات الأمريكية حلف معاد لنظام سوكارنو والحزب الشيوعي، بين المؤسسة العسكرية والدينية أدى الى الأنقلاب على سوكارنو و تغييب ومقتل مئات الالاف من الشيوعيين والديموقراطيين.
النفط والمرأة وحقوقها والأصلاح الزراعي ثالوث زرع الرعب في المؤسسات الدينية الأسلامية وكبار ملاكي الأراضي من الأقطاعيين ورجال القبائل والمؤسسة العسكرية، مادفعها للتعاون بلا حدود مع واشنطن وعواصم الغرب الأخرى، وهؤلاء كانوا ولا يزالوا يتحكمون بمصير بلدان المنطقة. ولو كانت تجربة إيران الديموقراطية عهد مصدق قد نجحت وقتها، لكان شكل المنطقة الجيو السياسي مختلف تماما عمّا عليه اليوم.
لقد كانت للحرب الباردة وقتها بين الأتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وتقسيم مناطق النفوذ بينهما، دورا كبيرا في أنهيار تجربة ثورة تموز وتجربتي إيران وأندونيسيا. فلولا هذه الحرب وتدخل السوفيت ومن أجل توازنات سياسية في كبح جماح الشيوعيين الذين كانوا يمتلكون الشارع بجماهيرتهم الكبيرة، وما يمتلكونه من ركائز هامة في جيوش بلدانهم. لكان الوضع الجيوسياسي في شرق وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط مختلف تماما عمّا نراه اليوم. أنّ نتائج تردد اليسار والقوى الوطنية في أتخاذ القرار الصحيح وقتها، دفعت ثمنه شعوب المنطقة ومنها الشعبين العراقي والإيراني باهظا ولليوم.
بالعودة الى دور الشقاة والنساء سيئات السمعة الذين قادهم آيت الله كاشاني في التظاهرات المناهضة لمصدّق، نرى تكرار التجربة نفسها في العراق من قبل تلاميذه أثناء أنتفاضة أكتوبر، وأعتمادهم على حملة السكاكين والعصي ونساء الليل في تشويه سمعة الأنتفاضة وأنهاء نشاطها مؤقتا من خلال ضرب وخطف وأغتيال الناشطين، كونها أي الأنتفاضة وللظروف الموضوعية والذاتية وفساد السلطة وانعدام الخدمات وغيرها فأنّ تجدد أنطلاقتها بعنفوان أكبر ليست سوى مسألة وقت. وقد كان للشقاة دورهم أيضا في أندونيسيا وهم يقودون طلبة غالبيتهم من الأسلاميين المتعصبّين لأرتكاب مجازر بأسنادهم وعملهم مع الجيش الأندونيسي في كل مكان بالبلاد، كما كانوا والجيش يديرون سجون ومعتقلات تعذيب رهيبة غيّبت مئات الآلاف من الشيوعيين والوطنيين والوطنيين والكثير من المواطنين الأندونيسيين الأبرياء والى الأبد.
أنّنا اليوم في بغداد نرى نفس التلاميذ وعلى خطى طهران في جعل مصدق منسيا في زاوية التاريخ، يعملون على محو ثورة 14 تموز من ذاكرة شعبنا العصيّة على النسيان، عن طريق الغاء يوم قيامها كعطلة وطنية. وهذا يوضح لنا مدى عداء هذه السلطة للثورة التي أنصفت شيعة العراق قبل غيرهم بالغاء الطائفية السياسية كما ذكرنا سابقا، وبنت لفقرائهم المضطهدين الهاربين من ظلم الأقطاع مدينة الثورة، ليقوموا اليوم ومنهم أبناء وأحفاد من أنصفت ثورة تموز آبائهم وأجدادهم بتنفيذ المشروع الأمريكي لنظام محاصصاتي طائفي سيقود العراق الى الخراب والدمار.
أنّ ما نحتاجه اليوم هو عدم التركيز كثيرا على مناكفات قوى السلطة، وهي تهاجم مبنى لأتحاد الأدباء والكتاب مرّة، أو محاولة النيل من شارع ثقافي كالمتنبي مرّة، أو إلغاء تاريخ الرابع عشر من تموز وغيرها على أهميتها مرّة، كونها ليست سوى معارك جانبية تعمل السلطة على خوضها ضد كل ما هو ثقافي ووطني لتؤجل قدر الأمكان المعركة الكبرى ضد نظامها، بل نحن بحاجة الى أعلان رفضنا القاطع لما تسمى بالعملية السياسية القائمة اليوم، بحشد وتنظيم القوى لخوض المعركة الأهم وهي معركتنا لقبر نظام المحاصصة الطائفية القومية الذي أثبت أجرامه وفشله في إدارة الدولة والمجتمع.
* حنّا بطاطو – العراق – الكتاب الثالث – ص 115 – 116
زكي رضا
13 / 7 / 2024