الأحد, سبتمبر 8, 2024
Homeمقالاتفصل من روايتي القادمة الزمن الصعب (عمار في ورطة) : كفاح الزهاوي

فصل من روايتي القادمة الزمن الصعب (عمار في ورطة) : كفاح الزهاوي

كانت األزقة الضيقة، والمتعرجة في ضواحي العاصمة الصاخبة، تفتقر إلى مجاري الصرف الصحي،
ومنظمة لتصريف المياه. ما إن هطلت األمطار الغزيرة، والمتواصلة في منطقتنا، حتى أصبحت
الشوارع الفرعية المزدحمة مستنقعات موحلة؛ جعلت من السير على األقدام أمًرا مستحياًل، وتعذر
ا تماًما مع أستاذ فاضل مدرس الجغرافيا، عندما كنت أدرس في

المرور فيها، ولكن األمر كان مختلًف
المرحلة الثالثة المتوسطة.
كان أستاذ فاضل رجاًل نحياًل كعصا الخيزران، يمشي بخطوات ثقيلة. شعره األسود الكثيف كان دائًما
مصفف بعناية، ويبرق في الضوء. مالمح وجهه القاسية، برز في وسطه أنف طويل، وعينان
سوداوان تنظران بحدة إلى ما حوله. كان يتحدث بصوت خافت، وواثق، وال يحب الجدال، والنقاش مع
طالبه.
كان هذا المشهد من أغرب ما رأيت في حياتي، عندما دخل الدرس بأناقة تامة دون أن تتسخ
ا بالماء والطين. انتابنا َدهُش من هول

ا للغاية، مع أن شارعهم كان غارّق

مالبسه، حتى حذاؤه كان نظيًف

ا. فهو لم يملك أجنحة، ومنزله يقع في نهاية

ما رأينا، ورحنا نتساءل: فيَما لو جاء إلى المدرسة محلًق
الزقاق.

ا طويًال،
وبطبيعة الحال، لم تكن هذه العملية سهلة؛ ألن البحيرة كانت ساكنة، واستغرق اختراقها وقًت
ا نوًعا ما، ورقبته بارزة مثل الديك الرومي، ووجهه مملوًءا بالتجاعيد،

وهو لم يكن رياضًيا، بل نحيًف

ا بكثير من جيله.

واألخاديد، حتى بدا للناظر أكبر سًن
كان أستاذ فاضل في منتصف الثالثينيات من عمره، َعزُب. وصفه الطالب ب»التلميذ الُمَواِظب«؛
ألنه كان يعتمد فقط على ما يجده في الكتاب المدرسي، ويحفظ المادة كاملة، وال يبتكر، أو يختصر
شيًئا؛ فمفرداته كانت محدودة؛ بسبب افتقاره إلى ثقافة عامة، وذوق قراءة الكتب األدبية. لم يكن
بميسور أستاذ فاضل تبسيط المادة بأسلوب جذاب، وعبارات متناغمة تحفز الطالب، وتدخلهم في
أجواء الدرس. كان يغفل عن التطوير الذاتي واإلبداع، في جعل درس الجغرافيا درًسا مفيًدا وممتًعا،

ا، ورتيًبا ينفر الطالب منه.
ًف
وليس موضوًعا جا
ونظًرا لعدم وجود مدارس كافية الستيعاب تدفق الطالب، قررت الوزارة تنظيم نظام يساعد في حل
األزمة: تضمن هذا النظام، تقسيم ساعات العمل الدراسي إلى مرحلتين. مرحلة صباحية: تبدأ من
الثامنة إلى الثانية عشرة، ومرحلة بعد الظهر: تبدأ من الثانية عشرة إلى السادسة عشرة.
تبادلت المجموعتان الَّدوام الصباحي، وبعد الظهر خالل األسبوع. كان الَّدوام بعد الظهر مماًل
للجميع، بما في ذلك المدرسين، وال سيما في الساعات المتأخرة.
كان عمار طالًبا مشاكًسا في شعبتنا، ويميل إلى استفزاز اآلخرين بطرائق خبيثة. في أحد األيام،
وبالتحديد يوم الخميس بعد الظهر، صادف فصل الجغرافيا أن يكون الدرس األخير في ذلك اليوم، وبدا
على مالمح استاذ فاضل التعب واإلرهاق بعد عمل طويل في الصفوف األخرى.
بعد القيام والقعود، التقط استاذ فاضل التباشير، وكتب بخط عريض على الَّسُّبوَرة “المناخ
وتأثيرات غابات األمازون”. خالل شروعه في تقديم المادة، نشأ عمار يتصرف بطريقة مقرفة، ومثيرة

لالشمئزاز. أخذ يفتح كتاب الجغرافيا، ويبحث فيه، ويدقق في كل كلمة وحرف، ويقارن كلمات الكتاب
بالكلمات التي تخرج من فم األستاذ فاضل.
بمجرد أن انتهى من شرحه، ضحك عمار، وقال له بكل وقاحة:


واحًدا في درس اليوم، حتى في حروف الجر، قلت عّلك تخطأ في كلمة “في

ـ أستاذ، لم أجد خطًأ

“، لكنك لم تفعل.

وتقرأها على أنها “على
فأجاب أستاذ فاضل والغضب على محياه:
ـ كيف تريدني أن أشرح الدرس؟ هل أختلق الكلمات من نفسي مثاًل؟ هل تريد مني أن أغير من
جغرافية العالم؟
قال عمار بخبث:
ـ قلت: بداًل من تحضير المادة في البيت، نستطيع قراءته في الصف من الكتاب.
قال أستاذ فاضل:
ـ دعنا نرى في الدرس التالي، إلى أي مدى يمكنك شرح الموضوع بطريقتك الخاصة يا عبقري؟
بعد أن حصلت على فرصة لتقديم مادة الدرس، وجدت نفسي أمام جميع الطالب. شرحت المادة
بنفس طريقة األستاذ فاضل؛ ألنني كنت مقتدًرا أن ألقى المحاضرة عن ظهر قلب. أثنى األستاذ فاضل
علَّي بسخاء أمام الصّف كّله، ربما نكاية بعمار.
قال عمار ساخًرا:
ـ خوش استنساخ.

على مالمحه، في حين عمار

بعد انتهاء الدرس خرج استاذ فاضل، وعالمات التشنج كانت واضحًة
تملكه شعور الزهو، ولم تغادر تلك االبتسامة المتهكمة من على شفتيه العريضتين.
قلت له:
ـ عمار، كيف تتكلم مع مدرسك بهذه الطريقة؟
قال وهو يرفع يده، ويمدها نحوي:
ـ دروح أنت َهْم دراخ مثله.
وفي الدرس القادم، دخل استاذ فاضل إلى الفصل، وكان مزاجه متعكًرا، ووجهه جامًدا، وخالًيا من
ا كالعادة ببدلته الرصاصية، وقميصه األزرق، وحذائه األسود، وربطة

أي تعبير لطيف، مع أّنه كان أنيًق
عنقه المخططة بخطوط بيضاء. بعد أن كتب عنوان الدرِس على الَّسُّبوَرِة، طلب استاذ فاضل من عمار
أن ينهض من مكانه ويتقدم إلى السبورة، ويشرح درس اليوم، ولكن عمار لم يكن مستعًدا للدرس، أو
ربما لم يكن يتوقع ذلك أن يكون فريسًة شهية لألستاذ فاضل.
قال:
ـ أستاذ، أنا لم أستعد لدرس اليوم.

غضب األستاذ فاضل وقد تغضن وجهه وقال:
ـ هل إمكاناتك الهابطة تقتصر فقط على االستهانة بمدرسك يا فاشل؟
وبعد ان نطق استاذ فاضل كلمة فاشل بنبرة مملوءة بالحقد، دفع بكلتا اليدين عمار معبًرا عن
غضبه، إلى زاوية الغرفة القريبة من الباب الذي كان موصًدا، وصرخ به صرخة طويلة مزلزلة، بَّث
في نفسه الرعب، أخذ يوجه إليه اللكمات، والركالت، والشرر يقدح من عينيه، وشرارة الَحَنق تتطاير
كانشطار شظايا الصاروخ، تصب على عمار كصعقات الرعد.

ا حناجر
بينما كان عمار يخفي رأسه بين ذراعيه، صرخ بأعلى ما في جوفه من صوت، مخترًق
الحاضرين؛ بسبب األلم الذي أحاط بجسده. لم يتوقف أستاذ فاضل عن ضربه؛ فاختل توازن عمار
عندما ارتطم رأسه بالحائط، وخَّر على األرض. كنت أنظر إلى استاذ فاضل، وكأنه في مبارزة فعلية،
ولم يندم على فعلته قيد شعرة، بل قال مؤشًرا بسبابته:
ـ روح وين َمتريد تشتكي، روح اشتكي. هاي گدامك وزارة التربية، انعل ابو اللي يفزعلك.
ثم صرخ به:
ـ روح انجطل في مكانك يا حيوان.

ا حتى انتهى الدرس. الغريب في األمر

نهض عمار، وقصد مقعده الذي كان خلف مقعدي. ظل صامًت
أن أستاذ فاضل لم يترك على وجه وجسد عمار أي أثر لكدمات أو جروح، على الرغم من كل هذا
الضرب المبرح؛ فالشيء الوحيد الذي كان بارًزا هو: إن وجهه فقط كان شاحًبا ومتوتًرا، وهذا ليس
من قوة اللكمات؛ وإنما من الفزع، والذعر.
قلت له بعد انتهاء الدرس ساخًرا:
ـ أعتقد أن أستاذ فاضل كان يتمرن بشكل جيد خالل أيام األسبوع، في اختيار اللكمات بعبقرية؛ ألنه
كان بارًعا جًدا في توجيه الضربات إليك بطريقة محترفة، بحيث لم يترك وراءه أي دليل، إلدانته، ال
زرقة، وال تورم.
إذا قارنا هذا الضرب القاسي، على الرْغم من إفراطه، وهو أمر غير مقبول من مربي فاضل؛ ألنه
في
أسلوب وحشي وغير إنساني، إال أن درجة عنفه ال تضاهي قساوة األجهزة األمنية البعثية، وخاصًة
دهاليز قصر النهاية التي ُهِّدَمت بعد قيام الجبهة الوطنية في بدايات السبعينيات، وُسميت البناية باسم
قصر النهاية؛ بسبب بشاعة التعذيب الجسدي فيه حتى الموت. كان القصر تحت إشراف مجرم العصر
ناظم كزار الذي قتله صدام شخصًيا – يقال – “إن صدام القى به في حوض مملوًءا بالتيزاب، حتى ذاب
عن بكرة أبيه، بعد محاولة انقالبية فاشلة قادها ناظم كزار”. اقتيد الشيوعيين من قبل أزالم النظام،
إلى غياهب هذه األقبية المظلمة.
انتاب عمار شعور النفور، واالحتقار من األستاذ فاضل، بعد أن ضربه بطريقة قاسية أمام زمالئه،
وفي نفس الوقت، كان أستاذ فاضل يتجاهله، ويتجنب النظر إليه، وكأنما لم يحدث شيء.
ساور عمار الشكوك حول سلوك أستاذ فاضل تجاهه الذي اعتقد أنه كمين نصبه له، لذلك احتاط
عمار الحذر كي ال يفاجئه في غفلة منه ويسأله عن الدرس. كان عمار في أتّم االستعداد ـ اقدر اقول ـ
إلى أقصى درجة، بحيث كان يبذل جهًدا إضافًيا في تحضير المادة، ويحفظ كل شيء بالحرف.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular