لا قيمة للحياة مع الفوضى , ولا امن ولا امان مع انحلال النظام وغياب القانون , ولا سعادة مع شريعة الغاب , لذا دأب بنو البشر ومنذ فجر التاريخ على نظم امورهم وترتيب اوليات حياتهم وتنظيم شؤون معاشهم , ومما جاء عن الامام علي , قوله : (( لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر )) ويقصد بالإمرة هنا الحكومة والسلطة العامة , فقد بين الامام علي ضرورة وجود أمير تناط به مصالح البلاد والعباد، بغض النظر عن توجهاته العقائدية وسلوكه الشخصي ؛ اذ لم يشترط فيه كونه برا تقيا او مؤمنا نقيا كما مر , والامام علي يقصد هنا الامرة الدنيوية , فالإمرة هذه لابد منها بحكم العقل والسيرة العقلانية ويقتضيها حال الاجتماع الإنساني من حيث هو اجتماع إنساني ؛ اذ ان الانسان مدني بطبعه ، ويعلم من ضرورة العقل انه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وإدارة تقيم هذا الاجتماع ؛ فالإمام علي لا يريد أن يعطي الشرعية الدينية لهذه الإمرة الدنيوية حتى لو كانت غير ملتزمة بالتعاليم الدينية فضلا عن تفضليها على الامرة الدينية ، بل يريد بيان أفضليتها على عدم وجود أي إمرة ؛ فهي أفضل من حالة الهرج والمرج والاضطراب , ولئن كانت إمرة الامام الفاجر – حين لا يوجد العادل – شرا – ، فهي على ما فيها من شر خير من الفوضى التي تمزق أواصر الاجتماع الانساني ؛ لاسيما وان الكثير من بني البشر لا يعير أية أهمية للمقولات الدينية والاخلاقية بقدر اهتمامهم بالنظام ونوع الحكم السياسي وما يترتب عليه من نتائج وتداعيات على ارض الواقع , وكأن الامام علي يشير الى هذه النقطة الحيوية في حياة المجتمعات البشرية عبر التاريخ … ؛ و قد نسب الى المرجع الديني الشهير السيد كاظم اليزدي – صاحب كتاب العروة الوثقى – هذه المقولة : (( النظام العام واستباب الامن وحصول الناس على معائشهم مع الحكومة الظالمة خير من الثورة مع الفوضى والاضطراب وانحلال النظام والهرج والمرج …)) ولعله يقصد المعنى الذي جاء في حديث الامام علي .
ومن الواضح ان الحكومة القوية والمركزية والحكيمة لا تقبل بتعدد مصادر القرار الرسمي , ولا بتضارب الآراء فيما يخص قضايا الامن الوطني ومصالح البلاد العليا , ولا تسمح بتغول القوى والحركات السياسية وغيرها على حساب الحكومة والسلطة الشرعية , بل وتضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الاخلال بالنظام العام ونشر الفوضى .
والكل يعلم ان السبيل الاقصر لإسقاط الدول والحكومات , تعدد القوى والرايات والسلطات المتنافرة , وصراع الجماعات والحركات والتيارات المختلفة الى حد اللعنة , وغياب القيادة المركزية الحازمة , وعدم الرجوع الى مبادئ وطنية متفق عليها بينهم , مما يسهل على الاعداء مهمتهم في اخضاع العباد ونهب البلاد .
والشيء بالشيء يذكر ؛ قرر المنافقون والمستسلمون – وليس المسلمون – أن يبنوا مسجدا يلتقون ويجتمعون فيه في المدينة المنورة تحت ستار العبادة ورغبتهم في الخير , وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة … ؛ وكان مجاورا لمسجد قباء , الا ان القصد الحقيقي من بناء هذا المسجد ؛ هو التشويش على قرارات النبي محمد المنطلقة من مسجده الذي كان مقرا لحكومته وتوجيهاته واجتماع اصحابه وانصاره , ومحاولة بث الفرقة بين المؤمنين , وتفريق شمل المسلمين من خلال بث الدعايات ونشر الشائعات وتثبيط الناس عن نصرة النبي محمد او اتباعه , و عدم تنفيذ اوامره بشتى الحجج والذرائع ؛ فضلا عن التآمر على الاسلام والمسلمين … الخ ؛ وبعد نزول هذه الآيات القرآنية , أمر النبي محمد بهدمه : (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )) .
واستمرت هذه الظاهرة والى هذه اللحظة , فمسجد ضرار ليس حادثة عابرة في المجتمع الإسلامي الأول انتهت وانقضت بل هو مصداق لفكرة قائمة ، ومؤامرة مستمرة، يُخَطط لها، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها، في صور كثيرة ومختلفة، فلا يزال الاعداء – وبعض الحمقى احيانا – يقيمون وينشؤون مشاريع وندوات ومؤتمرات ومؤسسات وحركات واحزاب وجماعات ظاهرها البناء والخير والإصلاح والوطنية والانسانية ، وباطنها الخراب والشر والفساد والخيانة والعمالة والشيطنة , وهدفها الطعن في الاوطان ، وتشكيك الناس في حكوماتهم الشرعية و رموزهم وشخصياتهم الكفوءة المحلية ، وإبعادهم عن مصالحهم الوطنية وشؤونهم الداخلية ؛ من خلال الهائهم بالشعارات الطوباوية والدعوات السوداوية والصراعات الجانبية والافكار الظلامية ؛ فيرفعوا كلمة الحق وقصدهم الباطل , ويدعوا العزة والكرامة وهدفهم اذلال الناس وافقارهم وقتلهم وتشريدهم من ديارهم … الخ .
وبما ان الناس معادن كالذهب والفضة والنحاس والزنك , وطبائعهم متنافرة وأذواقهم مختلفة , صار الاختلاف والخلاف فيما بينهم تحصيل حاصل ؛ الا ان حرية غيرك يجب ان تنتهي عند حريتك وتقف ولا تتجاوزها , فكلنا سواء في الانسانية والمواطنة , فمن المنطقي ان تمنع طيور التعاسة وغربان الشؤم من بناء أعشاشها في بيتك الا انك قد لا تستطيع منعها من التحليق في السماء , كذلك الناس والحكومة قد لا تستطيع القضاء بصورة جذرية على العملاء والمرتزقة والمخربين والقتلة المأجورين الا انها لا تسمح لهم بالظهور العلني وتحدي السلطة الشرعية , وان لم تفعل ولم يؤازرها المواطنون , سقطت وهلكوا , لذا جاء عن النبي محمد ما يؤكد هذا الامر , اذ قال : (( مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ؛ فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا ))
فمثل القائم بالأمر والنهي واحلال النظام والقانون , كمثل الشخص الذي سافر مع مجموعة على ظهر سفينة , والذين اقترعوا على السفينة ذات الطابقين ؛ فأصاب أحدُهم طابقها الأسفل، والثاني طابقها الأعلى ، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا الماء صعدوا فوق ليسحبوا الماء من فوق، فقالوا : لو أننا خرقنا في نصيبنا يعني : الطابق الأسفل ، خرقنا على البحر، وأخذنا من البحر، ولم نُؤذِ مَن فوقنا… ؛ ولو تركوهم وما أرادوا غرقوا جميعًا يعني : يدخل الماء السفينة من الاسفل فتغرق، وإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، يعني: إن منعوهم من خرق السفينة نجوا جميعًا… ؛ فهكذا هم الحمقى والمخربون والفاسدون والمجرمون والعملاء والخونة والجهلة … الخ ؛ فهم كخُرَّاق السفينة، و المسؤولون الحكوميون الشرعيون والمواطنون الواعون هم الذين يمنعون من خرقها.
فالواجب على جميع المسؤولين والساسة الوطنيين والمواطنين الغيارى العراقيين ؛ أن يهتموا بهذا الأمر، وأن يحرصوا على الجماعة والوحدة والاتحاد والعمل بما جاء في الدستور والقانون والسير خلف الحكومات الشرعية المنتخبة والقيادات الوطنية الحكمية ، وألا يدعوا أحدًا يتظاهر بشيءٍ من مصاديق الاخلال بالنظام العام او التجاوز على هيبة الدولة او الاضرار بمصالح الاغلبية والامة العراقية او تفضيل مصالح الاجانب والغرباء على المصالح العليا للعراق بحجة الشعارات الدينية والسياسية والقومية او العمل على تنفيذ الاجندات الخارجية وتطبيق المخططات الاجنبية المشبوهة .
نعم الاختلافات جزء من طبيعة بني البشر , والخلافات طبيعة بشرية , و العقلاء والحكماء يعرفون أن الاختلاف سواءً كان بسيطا أو كبيرا هو جزء من أي علاقة سياسية كانت او عاطفية او دينية او اجتماعية او ثقافية … الخ ، الا انهم لا يعلقون أهمية كبيرة على ماهيّة الاختلاف بل الاهتمام بطريقة احتوائه , فهم يعملون على ايجاد ارضية وطنية مشتركة ينطلق منها الجميع وبلا استثناء , وحلحلة الامور والمشاكل ومعالجة الازمات والتحديات والاختلافات بالحوار والاحتكام الى العقل والوعي والعلم والدستور والقانون ومراعاة المصالح الوطنية والظروف الخارجية والتحديات والمعادلات الدولية .
لأننا لو سمحنا للشخصيات المؤدلجة والمتعصبة والمتخشبة والمريضة وكذلك لو ايدنا الحركات الطوباوية والاحزاب السياسية المرتبطة بالجهات الخارجية والسفارات الدولية ؛ بالتصرف كيفما تشاء وبغض النظر عما ذكرناه انفا , وقبلنا بتحكم الشخص الذي يكره أن يستمع للآخر المخالف، ويعتقد أنّ الصواب محصور لديه فقط , لأفتى هذا بحرمة السمك والموسيقى , وحرم ذاك التعاملات المصرفية , وقام ثالث بتكوين جماعة كل شهر ينتحر احدها عن طريق القرعة , بينما يعمل رابع على الاشادة بالمنتوجات الاجنبية واستيرادها وتدمير الصناعات الوطنية وذم المنتجات المحلية , واخذ خامس ابناءنا و زج بهم في معارك خارجية لا ناقة لنا فيها ولا جمل , و ورطنا سادس بالمناكفات والصراعات والنزاعات مع الدول الكبرى التي لا يقوى عليها احد … ؛ وهكذا تستمر المسرحيات والعنتريات حتى تسقط الحكومات وتنهار الاوطان و تحوم تلك الغربان حينها حول جثث العراقيين وتأكل الضباع من لحوم الاطفال والمواطنين …!!
ولذهبت ثمار الدماء الزكية لضحايا وشهداء الاغلبية الاصيلة والامة العراقية ادراج الرياح , ولضاعت جهود الساسة والشخصيات الوطنية في بناء التجربة الديمقراطية وترسيخ العملية السياسية والتداول السلمي للسلطة سدى , ولتبخرت احلام العراقيين الاصلاء في مأسسة الدولة وتطويرها بما يحقق امال وتطلعات الاغلبية والامة العراقية في العيش الكريم والوطن المستقر السعيد والحكومة الوطنية القوية المقتدرة والنزيهة … .