في 31/10/ 2024م، توفي عن عمر ناهز الخامسة والتسعين عاماً غبطة مفريان الهند للسريان الأرثوذكس، مار باسيليوس توما الأول، الذي رَسمهُ بطريرك السريان الأرثوذكس زكا عيواص سنة 2002م، والمفريان رتبة أعلى من مطران وأقل من بطريرك (أي مطران عام)، فهو يرأس الكنيسة في إقليم جغرافي كبير، وكلمة مفريان سريانية معناها المثمر، وتقابل كاثوليكوس اليونانية وتُنطق بالعربية، جاثليق، ومعناها (العام)، فالمفريان أو الجاثليق هو نائب البطريرك والرئيس المحلي في إقليمه الجغرافي، ويخضع لرئيس أعلى منه هو البطريرك (أي مثل رئيس إقليم ورئيس دولة)، مع ملاحظة أنَّ البطريرك عند الأرثوذكس كالأقباط والأرمن والسريان، يُعادل بابا الكاثوليك، وتُستعمل معهما كلمة، قداسة، أمَّا بطاركة الكاثوليك الحاليين مثل، الكلدان والموارنة والروم، وغيرهم، فهم بالحقيقة جثالقة أو مفارنة خاضعين للبابا، وتُستعمل معهم كلمة، غبطة وليس قداسة، لكنَّ روما أعطتهم لقب بطريرك عندما انضموا إليها حديثاً لإيهام الناس أن البابا أعلى من بطاركة الأرثوذكس، لهذا الأقباط يستعلمون لقبي البابا والبطريرك معاً.
مفريانية الهند سليلة تكريت: كان كل الشرق والعراق الحالي خاضعاً لبطريرك السريان الأرثوذكس في أنطاكية التي كانت جزءاً من سوريا، ونتيجة الحروب بين الفرس والروم وصعوبة التواصل مع بطريرك أنطاكية، تأسست سنة 310م في عاصمة الفرس ساليق، قطسيفون (المدائن-سلمان باك)، كنيسة محلية سريانية شرقية (شرق الفرات) يرأسها جاثليق خاضع لبطريرك أنطاكية السرياني (غرب الفرات)، الذي أعطى الجاثليق صلاحيات واسعة (كرئيس إقليم)، وبعد سنة 428م وتحت ضغط الفرس، اعتنق جاثليق المدائن وحوالي ثلثي الأساقفة والشعب، العقيدة النسطورية، ثم انفصلوا إدارياً عن أنطاكية سنة 497م، ولذلك لُقِّبوا بكنيسة الفرس والنساطرة، وهؤلاء السريان الشرقيون النساطرة انقسموا ثانية حين تكثلك أغلبهم سنة 1553م، فسَمَّت روما الطرف المتكثلك، كلداناً، وثبت اسمهم في 5 تموز 1830م، ثم سَمَّى الإنكليز الطرف الذي بقي نسطورياً، آشوريين، سنة 1876م.
عندما انفصلت كنيسة المدائن سنة 497م اضطر بطريرك أنطاكية سنة 559م تعيين أسقف تكريت أحوادمة جاثليقاً له على رعيتهُ التي بقيت أرثوذكسية، خَلفهُ شمؤئيل، فقاميشوع، ثم ماروثا التكريتي سنة 628م، الذي نتيجة مضايقات الفرس والنساطرة، نَقَلَ وثبَّت كرسي المفريانية رسمياً في تكريت بدل المدائن، وبذلك ستصبح تكريت قلعة السريان الأرثوذكس في الشرق وذات مكانة خاصة عند السريان، ولكي يُمييز السريان الأرثوذكس جاثليقهم الجالس في تكريت عن جاثليق السريان النساطرة المنفصلين عنهم الجالس في المدائن، منذ ماروثا التكريتي استبدلَ مؤرخو السريان لقب جاثليق بمفريان، وقد خَلَفَ ماروثا أكثر من 35 مفرياناً، استمرت بهم تكريت حاضرة وشعلة مضيئة للسريان الأرثوذكس ليس في العراق، بل في كل الشرق من سنة 559- 1284م، فقد امتدت سلطة تكريت الكنسية وتأثيرها إلى الهند وسجستان والقوقاز والجزيرة العربية وتركيا وملطية ومصر التي فيها إلى اليوم دير السريان الشهير الذي بناه التكارته، وحتى بعد انتقال مفريان تكريت سنة 1156م إلى الموصل وأطرافها كدير مار متى، لكن مع ذلك بقي المفارنة يترددون على تكريت إلى سنة 1284م، وبقي قسم منهم يحملون لقب مفريان تكريت والموصل، إلى أن ألغيت المفريانية سنة 1859م بسبب المشاكل، وسنة 1912م استؤنفت المفريانية في الهند وإلى اليوم.
مختصر تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهند
دخلت المسيحية الهند عام 52م على يد توما رسول السيد المسيح، وخضعت من البداية لكرسي أنطاكية السرياني، وتعززت برحيل جالية سريانية من اثنين وسبعين عائلة (حوالي400 شخصاً) من الرها إلى مدينة كودنكلَّور في الهند سنة 345م بينهم القس يوسف الرهَّاوي والتاجر توما الكنعاني، في عهد جيرامان بيرومال ملك كودنكلَّور (341-378م)، وذكر المؤرخ نيلوس دوكسا سنة 1043م، قائلاً: إنَّ البطريرك الأنطاكي له الرئاسة على الهند، وبين سنة (1594-1665م)، حاول الاحتلال البرتغالي نشر الكثلكة في الهند وقطع العلاقة مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية منذ مجمع اوديمبرو (ديامبور) سنة 1599م، لكن العلاقات بقيت قوية مع كنيسة أنطاكية السريانية خاصةً بعد سنة 1663م عندما جاء الهولنديون وأخذوا الحكم من البرتغاليين، وقبل مجيء البرتغاليين لم يكن السريان الأرثوذكس الهنود يعرفون شيئاً عن الكثلكة وروما، وذكر الدكتور كلوديوس بوكنان الذي زار الهند أوائل القرن التاسع عشر، عندما جاء البرتغاليون لنشر الكثلكة قالوا للهنود السريان الأرثوذكس: إن كنائسكم هي ملك للبابا، فسألهم السريان الهنود، من هو البابا؟، نحن لم نسمع به قط (البطريرك يعقوب الثالث، تاريخ الكنيسة السريانية الهندية، بيروت 1951م، ص27، مستنداً على الأبحاث المسيحية في آسيا، إنكليزي، 1912م، ص147، وPaoli, India Orient Carist ص25، 94. وانظر السمعاني، المكتبة الشرقية، ج4 ص616).
عندما أُلغيت مفريانية المشرق من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية سنة 1859م، ظهَرَ في الهند من يطالب بالمفريانية، وسنة 1905م عُزلَ بطريرك السريان الأرثوذكس عبد المسيح القلعتمراوي لإصابته بمرض عقلي، فانزوى في أحد أديرة مذيات، وخَلَفهُ البطريرك عبدالله الثاني الصددي (1906-1915م)، وفي 27 أيار سنة 1911م حَرَمَ البطريرك عبدالله مطران الهند السرياني ديونيسيوس كوركيس لأنه تَمردَ عليه، فقام المطران المحروم كوركيس بعد عدة أشهر بخدعة حيث استغل البطريرك المعزول عبد المسيح واستدعاه إلى الهند سنة 1912م وطلب منه أن يحلَّهُ من حرمه، ويرسم للهند مفرياناً ومطارنة آخرين، فقام البطريرك عبد المسيح المريض المعزول بطريقة غير شرعية وبدون وعي برسم المطران الهندي المتقاعد إيوانيس بولس مفرياناً للهند باسم باسيليوس، وبقي المفريان الجديد وخلفاؤه غير الشرعيين غير معترف بهم إلى أن اعترف البطريرك يعقوب الثالث البرطلي (+1980م) بشرعية المفريان غريغوريوس كوركيس سنة 1958م، لكن بعض المشاكل بقيت وزادت خاصةً عندما صرح البطريرك يعقوب البرطلي سنة 1975م أنَّ مار توما رسول السيد المسيح وشفيع كنيسة الهند، لم يكن يملك درجة الأسقفية والكهنوتية، مما حدا بانقسام الكثيرين، من الأساقفة والرعية الخاضعين للبطريرك ورسموا لهم مفرياناً آخر، واسم الطرف الخاضع للبطريرك: السريان الأرثوذكس، والطرف الآخر المنشق: الأرثوذكس السريان، وهناك جهود لتوحيد الطرفين، علماً إن مؤسسات وكنائس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأصلية الخاضعة للبطريرك مُسجَّلة في الدولة باسم الكنيسة السريانية الأرثوذكسية اليعقوبية منذ عقود، لذلك هذا الطرف مُجبر بالاحتفاظ بالاسم اليعقوبي إلى جانب السرياني الأرثوذكسي إلى اليوم بسبب وجود محاكم بين الطرفين للاستحواذ على الكنائس والأملاك، مع ملاحظة أنَّ الطرف الخاضع للبطريرك له عدة مطارنة أبرشيات أهمها، الكنعانة، يعتبرون أنفسهم سرياناً أقحاح سليلي السريان الذين هاجروا من الرها وغيرها في القرن الرابع الميلادي، لذلك هم يرتبطون بالمفريان إدارياً، لكنهم يشترطون أن تكون رسامتهم من البطريرك مباشرةً.
أمَّا زيارات بطاركة ومفارنة وأساقفة السريان من سوريا والعراق للهند في التاريخ فهي كثيرة، وللهنود مراسيم مهيبة لاستقبالهم، ولهم عربة للبطريرك اسمها، عربة بطرس الرسول، وسنة 1684م تنازل المفريان باسليوس يلدا البغديدي (من قرقوش أو الحمدانية-العراق) عن مفريانته، وحباً بالهند سافر إليها وتوفي هناك، واعتزازاً به قررت كنيسة الهند أن يسبق اسمه كل أسماء مفارنة الهند كما نرى اليوم في وفاة المفريان (باسيليوس) توما، ثم سنة 1987م قررت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وبطريركها زكا عيواص تتويج باسيليوس البغديدي قديساً لكنيسة الهند، وأن يُذكر اسمه في الصلاة الخاصة بآباء الكنيسة أثناء القداس، أمَّا البطريرك بطرس الرابع الموصلي +1894م، فعندما زار الهند ونتيجة الاستقبال الحافل له من رعيته الذين سدوا الطرقات، تساءل الهنود الآخرون (الهندوس) ألعلَ القادم هو إله المسيحيين؟، وسنة 1932م زار البطريرك السرياني الياس المارديني رعيته في الهند، وتوفي هناك في 13 شباط، وتم تتويجه أيضاً قديساً لكنيسة الهند، ويُعدُّ ضريحه مزاراً، ولبعض الهنود تقليد بقطع مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام لزيارته ضريحه في ذكرى وفاته، ووقصد وتوفي في الهند كثير من رجال دين سريان آخرين منهم: مطران القدس عبد الجليل الموصلي+1681م، إيوانيس هداية الله البغديدي +1694م، مطران حلب باسيليوس شكر الله +1764م، قورلوس الحبابي الطور عبديني +1874م، وغيرهم.
إلى جانب الكنيستين السريانيتين الرئيسيتين الأرثوذكسيين، أي الخاضعة لبطريرك أنطاكية، والمنفصلة عنها، ونتيجة انقسامات كنسية الهند تاريخياً فقد تكونت كنائس مستقلة أخرى مثل، كنائس: سريان ملبار، سريان مالانكار، الهندية السريانية الأرثوذكسية، السريانية المستقلة في أنجور، وغيرها، أو المرتبطة مع الكنائس المنفصلة كالسريانية الشرقية (النسطورية الآشورية، الكلدانية) أو السريانية الكاثوليكية، ويبلغ عدد الطرفين الرئيسين حوالي خمسة ملايين، كل منهم حوالي 30 أسقفاً وآلاف الكهنة والكنائس، وهناك حوالي ثلاثة ملايين متفرقين، يحملون الاسم السرياني أيضاً، أي إنَّ عدد السريان في الهند يفوق عدد كل سريان العالم معاً، لذلك هناك مقولة للسريان (رأسنا “أي البطريرك” في سوريا، وجسدنا في الهند)، ولأن الكلدان هم سريان أيضاً، فكنيسة الكلدان في الهند اسمها، السريانية أيضاً، لكن لم يعد لها وجود تقريباً بسبب خضوع الرعية لروما مباشرةً منذ عهد البطريرك يوسف أودو +1878م، أمَّا كنيسة المشرق النسطورية (الآشورية حديثاً)، فلها رعية قليلة بحدود عشرين ألفاً، والطريف ونتيجة التخبط بين اسمي كلدان وآشوريين الحديثين، فاسم كنيسة النساطرة هو (السريانية الكلدانية Syro-Chaldeans)، وليس الآشورية، وإلى جانب لغاتها المحلية، تستعمل كنائس الهند السريانية في طقوسها اللغة السريانية أيضاً، وأشهرها لغاتها المحلية هي الملياليم التي قام الربَّان فيلبس الملباري السرياني والخوري متي كوناط السرياني الملباري في القرن التاسع عشر والعشرين بترجمة العهد الجديد من السريانية إليها، ومقر مفريانية الهند هي مدينة أنكمالي، كوطايم- كوجين، ولاية كيرالا (البطريرك يعقوب الثالث، تاريخ الكنيسة السريانية الهندية، بيروت 1951م، خاصةً، ص9-38، 391-394، والعصارة النقية في تاريخ الكنيسة الهندية، العطشانة 1973م، خاصة، ص5-24، 92-113. وفي الكتابين مصادر كثيرة، المطران اسحق ساكا، كنيستي السريانية، ص280-297. وللمزيد عن تاريخ كنيسة الهند السريانية، انظر: كتاب (سرياني) للراهب أوكين أونفال، آٍيزجَادو دشَينو، سفير السلام، دمشق 2008م. مذكرات القاصد الرسولي في الهند إلياس قورو +1962م، بيروت 2002م. وأهم كتابين لسريان هنود: مسيحيو توما وكنوزهم السريانية 1974م، والتسلسل الهرمي لكنيسة ملبار السريانية 1976م).
Placid, The Thomas Christians and their Syriac Treasures, Allepy 1974م
Fr. Placid, The Hierarchy of the Syro Malabar Church, Alleppey 1976م
(فرقة كورال الكنيسة الهندية السريانية، الصلاة الربانية بالسريانية)
مستقبل كنيسة الهند السريانية الأرثوذكسية بعد المفريان باسيليوس توما: إنَّ كنيسة الهند فيها مشاكل ونزاعات كثيرة في المحاكم، بين الطرف الخاضع للبطريرك والطرف المنفصل، عدا الخلافات مع الأطراف الأخرى، بل خلافات حتى بين الطرف الواحد نفسه، وبعد رحيل المفريان فكنيسة الهند في وضع لا تُحسد عليه، فقد كان المفريان متواضعاً ومحبوباً وبسيطاً جداً وقد التقيت به شخصياً مرتين، ورغم بساطته، فقد كان صمام آمانٍ على الأقل لوحدة الطرف الخاضع للبطريرك في دمشق-سوريا، وبعد رحليه فالطرف المنفصل، سينتهز الفرصة للاستحواذ على الكنائس والرعية لسببين: الأول: إنَّ المؤسسات الهندية والمحاكم والقضاة منحازون لهم، لأنهم يُصوِّرن أنفسهم كنيسة وطنية مستقلة، والثاني: كما نوَّه لي أحد مطارنة الهند في الصرح البطريركي السرياني في صيدنايا-دمشق، هو أنَّ سوريا نفسها كدولة ومؤسسات لا تعتز ولا تولي أهمية لتراثها الأنطاكي السرياني، السوري، ولغتها السريانية أي السورية، فلماذا نتمسك نحن بهذا التراث؟، والمهم نتمنى لكنيسة الهند السريانية التوفيق، ورحم الله غبطة المفريان الطيب الذكر مار باسيليوس توما الأول وأسكنه فسيح جناته مع الأبرار والصالحين، حيث دُفن اليوم حسب طقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية جالساً على كرسيه، بحضور حوالي 15000 ألفاً، و 1000 رجل دين. وشكراً/ موفق نيسكو