هناك أحداث ومواقف ترسم تاريخ الشعوب , وتبقى ملامحها حية وخالدة في سماتها التاريخية والاجتماعية والدينية , لذا فأن هذه الرواية ليس أنها وثيقة تسجيلية وتاريخية في أحلك فترة في تاريخ العراق السياسي الحديث فحسب , ولكن سجلت في عدستها اليومية أحداثها عبر تسجيل واقعي بالواقع الفعلي , كيف انطلقت شرارة الانتفاضة من البصرة وامتدت الى المدن الجنوبية وعموم المدن العراقية , التي شهدت سقوط سلطة النظام الطاغي وانهزام افراده كالفئران المذعورة , تترك مواقعها الحكومية والحزبية والامنية , لتنجو بحياتها من انتقام وبطش الثوار, عقب الاحداث الدراماتيكية , والفصول المتسارعة بعد احتلال الكويت , التي اعتبرها النظام نزهة سهلة , خلال سويعات قليلة تم الاحتلال , وبدأ نهب وسرقة الممتلكات والاموال , من الفرهود الواسع كغنائم حربية , ولكن بعد ذلك انقلب السحر على الساحر , في الهزيمة الشنيعة , جعلت الجنود يهربون من مواقعهم من حمم النيران بالطائرات والمدافع , أصبحوا في حالة رعب وخوف , وفي حالة مأساوية من الجوع والعطش , فكانوا في حالة يرثى لها , ممزقي الثياب يغطيهم الغبار , كأنهم أشباح بشر , ووصلت حالة التردي ,بأن اصبح الجندي العراقي يقبل بسطال الجندي الأمريكي لينجو من الموت , أمام هذه الحالة التعيسة , نزعوا ثيابهم العسكرية وتركوا ثكناتهم العسكرية , ووجهوا بنادقهم الى صور الطاغية بالتمزيق , وتحطيم النصب والتماثيل , مما اجج الغضب الى التمرد والثورة على النظام , الذي جعلهم خرفان جاهزة للذبح , فكانت انطلاق شرارة الانتفاضة وانطلقت بنيرانها في التمدد والاتساع من الغضب الشعبي العارم . نتيجة القهر والإرهاب وجنون العظمة عند رأس الطاغية بشن الحروب المتوالية والهزائم المتوالية , والتي انتهت في حرب الخليج الثانية , , ولكن تبقى مسألة الكويت في النزاع التاريخي المتواصل في العراق , من الملكية , ملك غازي وبعده الحكم الجمهوري عبدالكريم قاسم , يطالبون بالكويت بأنها ارض عراقية , فقط من اعترف بها , هو انقلاب البعث عام 1963 . والمسألة الفكرية الاخرى هي مسألة العنف المفرط بين النظام , ورد الفعل الثوار بالانتقام والبطش , سيكولوجية العنف والعنف المضاد , بين الطرفين النظام والمعارضة . ولكن تبقى الانتفاضة الوجه المشرق لتاريخ العراق السياسي , كادت ان تحقق الحلم الجميل بإسقاط النظام , ولكن إضاعته أمريكا غيرت بوصلتها في الوقت الضائع , عندما ادركت بأن العراق سيقع غنيمة في الفم الايراني , أعطت اكسير الحياة والبقاء للنظام , ليجهض الانتفاضة بالقبضة الدموية , وبدأ النظام يخوض حرب ابادة وحشية ضد الشعب الثائر بالانتفاضة , لكي يحرمه من حق الحياة . احداث المتن الروائي ينقسم الى قسمين . السفر الأول : الانتفاضة , والسفر الثاني : السجن , يسردها أحد ثوار الانتفاضة ( عبدالله عبدالرحيم ) الموظف في دائرة العدل في البصرة , ومن اهالي منطقة التنومة البصراوية .
أحداث عاصفة في يوميات انتفاضة عام 1991 في رواية ( ربيع التنومة ) للأديب قصي الشيخ عسكر : جمعة عبدالله
1- الانتفاضة : حيث تلتبس الحياة بالموت .
تؤرخ الرواية مركز انطلاق شرارة الانتفاضة في البصرة , مباشرة بعد اندحار الجيش وانهزامه وترك الوحدات العسكرية , دلالة احتجاج وتمرد على السلطة الحاكمة, و اغتنمت الجماهير المنتفضة سلاح الجيش , لكي تطارد فلول النظام وحزبه بالانتقام الدموي , سقطت السلطة في عموم المدن , وقعت في قبضة الثوار , ويعلن الثوار عبر الميكروفونات وكذلك اذاعة الثوار ( شط العرب ) لتزف البشرى الكبرى بسقوط النظام والدعوة الى المشاركة الشعبية في دعم وإسناد ثوار الانتفاضة ( الله اكبر / يا اهالي البصرة الله اكبر / الطاغية سقط/ بشرى الطاغية يسقط !! / لقد انهار الجلاد والثورة تشتعل في كل المحافظات ) ص46 , ويسرد الشخصية المحورية ( عبدالله عبدالرحيم ) البطل الايجابي واحد ابطال الانتفاضة المشاركين بشكل فعال في منطقة التنومة / البصرة , ويسجل احداثيات اليومية بكل وقائعها , في المقاومة والتحدي , برفع السلاح بوجه أركان النظام , التي باتت غير موجودة . لم يبق اية اثر لوجود سلطة النظام في المدن . كما هو الحال في عموم المحافظات . وكل المعطيات كانت تدل على النظام يتهالك بالسقوط , حتى رأس النظام كان يستعد للهروب . لكن امريكا غيرت موقفها , عندما ادركت الامور تتجه لصالح ايران , وكانت خيمة صفوان , خيمة استسلام النظام, وقبوله بكل الشروط الامريكية ليبقى حياً , لهذه الهزيمة في خيمة صفوان , ويقف الجنرال شوارسكوف منتشياً بالنصر وهو يصافح جنرالات النظام منكسي الرؤوس بالإحباط والخيبة (ومن حق الرئيس بوش وحده يبتسم , وهو يرى العراق كله مغطى بشعارات وصور , تبعث في نفسه الريبة والخوف , سوف يسقط العراق بيد ايران, امريكا تقدم بلداً كاملاً بملايينه وشعبه وخيراته لقم ) ص62 . وبدأت المعادلة على الارض تتغير كل يوم لصالح النظام, وبدأ العد التنازلي في إجهاض وقمع الانتفاضة بالعنف الدموي يتوسع في ارتكاب مجازر بشرية مروعة في الشوارع والسجون والزنزانات التي اكتظت بالالاف , ينتظرون دورهم للموت , فقد وجدوا الثوار انفسهم امام جدار مسدود , اما الموت أو الفرار مع عوائلهم الى ايران ( أين ذهب بقية الرجال ؟ هل حقاً فرت معظم العوائل الى ايران ؟ ومن نحن حتى نقف بوجه تيار جارف من الموت والجنون , الجميع غادر من شارك في الانتفاضة , وحتى من وقف متفرجاً . مكبرات الصوت صاحت : ايها الناس فروا من الطاعون في الجو طائرات الهليكوبتر , وعند الضفة شرق النهر دبابات باتت تتأهب للانقضاض الحابل اختلط بالنابل ) ص65 . ولكن ( عبدالله عبدالرحيم ) اصر على البقاء مع عائلته , مع التحذير بأنه سيواجه الموت بلا محالة .
2 – السفر الثاني : السجن (حيث يتلبس الموت بالحياة ) .
يزج ( عبدالله عبدالرحيم ) في السجن , في زنازين الموت المكتظة بالكثير , فكانت وسائل التعذيب وحشية لا تتحمل , سقط الكثير ميتاً نتيجة التعذيب بالأسلاك الكهربائية والتعليق والضرب المتواصل حتى يغمى على الضحية وحين يفيق من إغمائه يعاد التعذيب من جديد , من أجل انتزاع اعتراف بكل الوسائل الهجينة وهذا الاعتراف يقر بحكم الاعدام والموت . وكانت حفلات الإعدام في السجون تجري بوتيرة متسارعة . وتوجه تهم خطيرة الى ( عبدالله عبدالرحيم ) كفيلة بأية تهمة تقوده الى الموت المحقق , تهمة المشاركة مع الغوغائين وحمل السلاح . مسؤول اذعة الثوار ( شط العرب ) شارك في التخريب والقتل المتعمد , ويتردد على الجامع . والمحققون بملامحهم العدوانية , يتطاير منها الشر والحقد والعدوانية , وتتهالك عليه الضربات من كل جانب , تمزق ثيابه وجسمه ( هنا أيها الخائن : يا اعرج الشؤم , هنا مكانك مع الخونة ) ص90 . لكنه بدد كل التهم بالإنكار الكلي , كوسيلة للدفاع عن نفسه ويدرك ان أي اعتراف يعني الموت , ووجد خير وسيلة مع عقدة النقص أو العاهة ( العرج ) متذكراً نصيحة أستاذه في المدرسة ( ليس بالضرورة ان يشعر كل ذي عاهة بعقدة . تيمورلنك الأعرج احتل العالم . موشي ديان اغتصب اخوات مائة وخمسين مليون عربي في ستة أيام حسوماً , فما بالك بي وقد جعلت لواء مدرعاً يفر . الآن جمعت الاثنين ! ) ص93 , لذلك يبرر عقدة العاهة بالعرج بعدم قدرته على المشي ولا حمل السلاح , وانه منذ طفولته في المدرسة معفياً من درس الرياضة , وأنه لم يكمل الدراسة الثانوية فمن اين اتت موهبة الخطابة , حتى يكون مشرفاً على اذاعة الغوغائيين ( شط العرب ) أنه يتردد على الجامع من اجل جلب الطعام الى عائلته وأطفاله ليبعد عنهم شبح الجوع . وكان كل تعذيب يغمى عليه , يعاد عليه التحقيق مجدداً , ويتنقل في عدة سجون امنية , وظل متماسكاً يردد نفس اقواله دون تغيير , ويعاند في تحمل اهوال التعذيب , واخيراً ينقل الى سجن أمني يشرف عليه ( ابا درع ) البدوي يجمع العنف تارة والطيبة تارة آخرى , لذلك ركز على وتر الطيبة ويضخمها بالمدح المبالغ به , بأنه رجل كريم يحب العدل ولا يظلم احداً( – سيدي انت رجل حقاني كما هو الشائع والمعروف عنك , الكل يتحدث عن طيبة قلبك وخلقك وكرهك للظلم , كلنا نعرف انك لا تظلم احداً , أرجوك ان تطلق سراحي ) ص151 . يلتفت الى مرافقه ويطلب : ان يسجل اسمه , لكن حذره بأنه سيقرأ ملفه , اما الموت أو البراءة . وتمر الايام احر من الجمر تنتابه هواجس شتئ , ويطلب مقابلة الجنرال البدوي , يتعجب هذا من عدم إطلاق سراحه , يبرر المرافق بعدم وجود سيارة . فيقول بحزم :
– أطلقوا سراحه , ودعوه يذهب في السيارة المغادرة عصراً .
هكذا كتب عليه النجاة والحياة بعد الموت المحقق .
×× الرواية من اصدارات مؤسسة المثقف / سدني
جمعة عبدالله