الإثنين, يناير 6, 2025
Homeمقالاتمضى عام : رياض سعد

مضى عام : رياض سعد

رياض سعد

 

كانت الايام في العقد الاول من عمري  تتحرك ببطء كالسلحفاة على الرغم من انني وقتها اجري كالفهد , وكنت اتحسس فيها الاشياء واكتشف الموجودات واتأمل في المخلوقات بدهشة وانبهار , ولولا السذاجة وبراءة الطفولة والمخيال الجميل لصدمت بالواقع المرير وجرائم واحقاد وامراض وعقد بني البشر ؛ ولامتلأت رعبا من الظلام الدامس الذي يحيط بالكون والمجهول الذي ينتظرني ؛ كانت السذاجة حائطا و البراءة سدا منيعا يحميني من كوارث الطبيعة واهوال الحياة وجرائم البشر وبلايا القدر ؛ الا ان هذه الدفاعات الشخصية لم تمنع غوائل البشر ومصائب الدهر ؛ فقد اصبت بشظاياها التي لا زالت مستقرة في سويداء القلب , والتي اضحت تكبر يوما بعد اخر ؛ كلما كبر قلبي و زادت سنوات عمري واشتد عودي ؛ والتي التحقت فيما بعد بمخلفات رصاص المراهقة والشباب , وسموم قنابل الكهولة ؛ لتشكل كتلة سرطانية التهمت ولا زالت صحتي وعافيتي رويدا رويدا .

 وجاءت ايام العقد الثاني المليئة بالطموحات والاماني واحلام اليقظة , والممزوجة بالشبق الجنسي والهيجان العاطفي والقوة العضلية والاندفاع نحو الحياة والاغتراف من فراتها وكدرها ؛ وكنت امشي في الارض مرحا فخورا مزهوا ؛ الا ان الصدمات والازمات والمشاكل والمصيبات المتواصلة هدأت من هيجاني , وخففت من حدة مشاعري , وقلصت سقف تطلعاتي  وطموحاتي  , وكسرت خاطري , وبددت احلامي , وابدلت طمأنينتي النفسية وسعادتي الشخصية الى قلق جمعي وهم مجتمعي ؛ وكان اشدها علي وقعا وفاة عمي العزيز الوحيد والذي بوفاته علمت معنى الفقد والوجد ؛ فعندما مات جدي العزيز في عقدي الاول لم اكن اعرف معنى الموت والرحيل  ؛ ثم تلاقفتني التيارات الدينية والثقافية والسياسية تلاقف الكرة , وتنقلت بين الجماعات والتجمعات والتنظيمات  ؛ فتارة أشعر اني ادور بالدنيا واحمل الارض على ظهري , واخرى اشعر بأن الدنيا تدور بي  مسرعة واحيانا تخفف من سرعتها ؛ ولم اكن اعرف وقتها قوانين النسبية والترابط الزمكاني ؛ فمع السعادة تركض الايام بي ومع الشقاء تتحرك الساعات ببطء قاتل , وانقضى العقد الثاني وقد ترك في اثرا بالغا ؛ فمن شب على شيء شاب عليه , ثم هرولت الى ايام العقد الثالث واستقبلت العام الاول منه بمشروع الزواج  وتكوين الاسرة , وتوالت علي المسؤوليات والالتزامات وفي مختلف الاصعدة والمجالات ؛ فمن العمل الى الدراسة الاكاديمية ومنها الى الدراسة الدينية ( الحوزوية ) ومنها الى الاهتمام بالشؤون العائلية ومنها الى تفقد الاصدقاء وعقد الاجتماعات ومناقشة الاوضاع العامة ؛ فضلا عن التواصل الاسري والعشائري في المناسبات وغيرها ؛ وهكذا دواليك مضت ايام العقد الثالث بصعوبة شاقة ؛ لاسيما وانها تزامنت مع الاحداث المأساوية العامة والجرائم البعثية والاجراءات الصدامية القاسية  , ففي هذه الايام فقدت الكثير من الاصدقاء والاقرباء و(المعارف) والاصحاب , وتعرفت على الكثير من الموتى والهلكى حتى استأنست بالموت ؛ وكلما تأملت تلك الاحداث وراجعت شريط الذكريات بدأ باستشهاد استاذي سماحة الشيخ علي الربيعي ومشاركتي في الانتفاضة العراقية الخالدة عام 1991 في مدينة بغداد ؛ مرورا بحملة الاعتقالات والاعدامات التي طالت الاصدقاء المقربين والاقرباء الطيبين , وصولا الى اعتقالي واستشهاد ابناء عمومتي المجاهدين الذين قصفوا مبنى وزارة الداخلية سيئة السمعة والصيت , وانتهاء بأحداث جامع المحسن وتداعيات استشهاد السيد محمد الصدر … ؛ استغرب من خروجي منها حيا سالما …!!

جاءت ايام العقد الرابع وهي تجر اذيال الكهولة المتعبة وتسير بأقدامها البطيئة , فالسنوات الثلاث الاولى من هذا العقد لحقت اخواتها الفقيدات ؛ اذ كان العراقيون يرزحون تحت نير حكم الفئة الهجينة والطغمة الصدامية المشوهة ؛ فقد كان صدام كابوسا يجثم على صدور المواطنين ؛ والحياة في عهده اشبه بالحياة وهي اقرب الى العدم والبؤس والشقاء والموت والفناء والهلاك ؛ اذ كان الناس فيها عبارة عن اشباح واحياء بلا مشاعر واحاسيس وطموحات وامال واحلام  ؛ فأقصى ما كان يطمح اليه المرء اشباع عائلته بما تسير من الطعام الخالي من البروتينات والمعادن والفيتامينات ؛ وطالما راودني الشك حول انسانية أولئك الغرباء واللؤماء والهجناء الذين كانوا يستمتعون بحياتهم الخاصة والقائمة على تعذيب الابرياء ومص دماء الاصلاء من ابناء الاغلبية والامة العراقية ؛ فالهمجية والوحشية والحيوانية والشهوانية البدائية كانت صفات وراثية وملازمة لهؤلاء الاوغاد والاوباش والانذال من ازلام النظام وزبانية صدام , وكان العراقي الاصيل فيها كالقابض على الجمر بل كالماكث في سقر ؛ وكلما اشتد بطش هؤلاء الوحوش كلما صارت الساعة كاليوم واليوم كالأسبوع والاسبوع كالشهر والشهر كالعام والعام كالعقد والعقد كألف سنة مما يعدون … .

وفي صباح يوم مختلف عن بقية الايام الخوالي اختلافا جذريا , وكأننا في زمن اخر غير الزمن الاغبر والسنوات العجاف والايام الطويلة  ؛ سمعت زقزقة العصافير التي تحمل انباء هلاك الطاغية وهروب الضباع في الفيافي والبراري ؛ ورأيت الشمس ساطعة بتباشير الحرية والامل والحياة وكأنها غير الشمس التي كنت اراها سابقا , وأزهرت الورود بدماء الشهداء , وخصبت الارض الجدباء , وجادت علينا بالغيث السماء , واينعت الثمار وفاح اريج الاشجار والازهار , و هرب اللونان ( الاغبر والزيتوني) من حياتنا و غادرا بلا رجعة .

( يا فرحة ما تمت ) لم يكن الزمن عادلا ولا التوقيت منصفا ؛ فقد اختلفت الساعات والايام بين العهدين اختلافا شاسعا ؛ فبينما كانت الايام طويلة والساعات بطيئة  والسنوات اثقل على نفوسنا من الجبال الرواسي ؛  اضحت الايام والاشهر والاعوام بين ليلة وضحاها تمر كمر السحاب  وتسير بسرعة جنونية فائقة ؛ وكأن احدهم تلاعب بإعدادات الزمن والمنظومة الشمسية ؛ وتوالت علينا الاحداث الجسام , واختلط الدولار بالدينار , والحابل بالنابل  ,والاصيل بالدخيل , والنبيل بالذليل , والكريم باللئيم ,  والضياء بالظلام , والمعروف بالمنكر , والحق بالباطل , والحرية بالعبودية , والدكتاتورية بالديمقراطية , والسلم بالحرب , والامن بالإرهاب , والطائفية بالوطنية … ؛ واصيب اغلبنا بالعشى الليلي والغشاوة , وصرنا لا نميز بين الهر والبر , وعز اليقين واندثرت البصيرة وفقد العلم وضاعت المعرفة وسط امواج الاوهام العاتية وظلمات الدعايات والشائعات والادعاءات , وصخب الشعارات وضوضاء الفضائيات والاذاعات ؛ واعادت الضباع  البعثية والطائفية والتكفيرية ترتيب صفوفها وتجميع فلولها وهجمت على المراعي الخضراء , واحرقت الاخضر واليابس , وفتكت بالناس وشربت دماء العراقيين الاصلاء وقطعت رؤوس الابرياء ومثلت بجثث الكرماء  ولم ترحم صغيرنا او تراعي حرمة كبيرنا , وجاءت المصائب وهي تسير نحونا بسرعة البرق كتائب تتلوها كتائب ؛ حيث التفجيرات والاحزمة الناسفة والانتحاريين والمفخخات , وتوالت فضائح الفساد والتخبط والفشل والنكبات والانتكاسات والجرائم والمجازر وسقوط المدن والقرى والمحافظات … ؛ حتى من الله على العراقيين بالنصر المؤزر ودحرت فلول الارهاب و ولت شراذم الاجرام واختبئت الضباع والافاعي في جحورها مرة اخرى ؛ تنتظر فرصة ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة  لتعاود كراتها الاجرامية وصولاتها العدوانية , وفي هذا العقد ابتلي المؤمنون والمجاهدون والمناضلون والاحرار العراقيون و زلزلوا زلزالا شديدا ؛ فقد عصفت بهم رياح الشبهات والشائعات والادعاءات والخصومات والمشاجرات وتعدد الاحزاب والحركات والولاءات ؛ واقتلعت اعاصير الشكوك الفلسفية والحداثة وما بعدها ؛ ما تبقى من رواسخ الايمان واسس المعرفة الواهية وجذور اليقين الهشة ؛ وصار الجميع في حيص بيص , وعم الهرج والمرج ؛ الا من عصم الله عقله بالسذاجة وذهنه بالبلادة واحساسه بالغلظة :

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله** واخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وتغير القناعات والشعارات وتبدلت التوجهات والشخصيات والاهتمامات ؛ واصبح حلال الامس حرام اليوم ؛ وحرام اليوم حلال الامس , وسقطت الاقنعة وشاهت الوجوه , وهدم الطوفان السياسي والثقافي والاعلامي ما تبقى من سدود وطنية ودفاعات عراقية وقيم اخلاقية ؛ وسبح الناس مع التيار , وغرق خلق كثير في بحور الانحرافات والاغراءات والعمالة والخيانة والتبعية والشهوات , وارتمى البعض في احضان اصحاب الغرف المظلمة ودوائر الجهات المعادية واقبية المخابرات ؛ وفي هذا العقد فقدت الكثير الكثير من ابناء وطني وجلدتي ؛ وتناثرت من روحي اجزاء لا يمكن تعويضها الا بالموت الزؤام .

ثم جاء العقد الخامس مسرعا , وايامه كأنها تجري بسرعة الضوء ؛ فلم اميز عامه الاول من الخامس ولم افرق بين ايامه وشهوره ؛ وكأني اسبح في بحر لجي متلاطم الامواج ومتعدد التيارات المائية والاعاصير المناخية ؛ ولم يختلف عن العقد الرابع الا في بعض الامور الطفيفة والتغييرات القشرية البسيطة والتحولات الايجابية المحدودة ؛ فقد جنت يداي ثمار البذر في السنوات الخوالي , و قطفت ثمار النجاح في بعض المجالات , وتغلبت على الكثير من المصاعب والتحديات ؛ ولا غرو في ذلك فقد تخرجت من جامعة البلاء العراقي العريقة  بشهادة بكلوريس في تجاوز المحن والشدائد ؛ ثم حصلت على اطروحة الماجستير في معايشة الاحوال البائسة والاوضاع المتقلبة والضغوط الحكومية والتهديدات الخارجية ؛ ثم اكملت اطروحة الدكتوراه في سخرية الاقدار والفلك الدوار و العيش تحت نير الحديد والجمر والنار … ؛ وكالعادة سرعان ما تبدد ضربات العسر سويعات اليسر , اذ فقدت فلذة كبدي ونور عيني , واصبت بالإعياء والاغماء , ولذيذ النوم عن جفوني توارى , وطعم الزاد امسى علقما وحنظلا في فمي ؛ وثلمت في روحي ثلمة لا يسدها شيء سوى سكرات الموت ودنو الاجل ؛ فعندها عرفت ان الكثير من العلل علاجها الفناء وليس البقاء ؛ وكذلك تيقنت بان الموت عبارة عن اجزاء , ففي كل عام يذهب منك جزء ؛ حتى يبقى الجزء الاخير المتعب ؛ فعند توقف نبضاته وتعطل دقاته ؛ يلحق القلب اجزاءك الميتة السابقة وتنطوي صفحة عمرك الوهمية وكأنك لم تكن شيئا مذكورا  … ؛ ولم يكتف الدهر بكل ما سبق حتى ذقت مرارة المرض الخبيث والداء العضال , فقد سرى السرطان في جسدي مسرى الدم في الشرايين ؛ وهذه من بركات الحقول النفطية والغازية والشركات الاستعمارية والاستكبارية الرأسمالية الاجنبية ؛ فلها المهنأ ولنا السقم , ولا زالت تجني المليارات بينما نحن لا نجني سوى التلوث البيئي والامراض والفيروسات ؛ ولولا رحمة ربي وما تبقى من اموال في جيبي لكنت في عداد الاموات منذ الوهلة الاولى لإصابتي بذلك المرض الوبيل .

وها أنا احث الخطى نحو عقدي السادس , بنفس السرعة السابقة الا ان الامر هذه المرة  يختلف ؛ فكأن الدهر يمشي ولست انا , والزمن يسير بي وانا مكتوف اليدين ومقيد القدمين لا حول ولا قوة , انظر الى القدر من عل , ولا استطيع تغييره او تبديله :

وما هذه الأيامُ إلا مــــــراحــلُ *** يحُثُّ بها حادٍ إلى الموت قاصدُ

وأعجبُ شيءٍ لو تأملتَ أنها *** منازلُ تُطـوى والمُســـافِرُ قــــاعِدُ

ما أسرع تصرم الأيام، وانقضاء الشهور والأعوام، كيف مضى عام بهذه السرعة ؟  وكيف توالت العقود بهذه الكيفية ؟ كنا بالأمس في أول العام بل في مرابع الصبا ، ونحن اليوم في منتهاه بل في خريف العمر ،  نعم قد انقضت مرحلة زمنية وحقبة كونية ودخلنا في غيرها ؛ بحيث صرنا لا نشعر بالأشياء والاوقات ؛ حتى صارت السنوات كالساعات والايام مثل اللحظات ؛ وأصبح شغلنا الشاغل الان ؛ مراجعة التصرفات والسلوكيات وترتيب الاوراق وتصفية الملفات وتصفير الحسابات ؛ والاهتمام بالجوهر والمعنى وعدم المبالاة بالأعراض والقشريات والشخصيات , والعمل على تطويل الساعات وتمديد اللحظات و محاولة ادخال البركة في الاعوام والسنوات ؛ علها تطول … .

و في هذا العقد تضحك على نفسك عندما كنت صبيا يافعا او مراهقا شابا , فكم  كنا نتمنى  تمامَ الشهور وانصرام الاعوام  ؛ وطالما فرحنا بانقضاء الساعات والايام وذهاب السنين والاعوام ؛ نستعجل الرجولة والكهولة ؛ ولا نعلم وقتها  انها تؤدي بنا الى الهرم والشيخوخة ؛ و ان يومنا كان يهدم شهرنا وشهرنا كان يهدم سنتنا وسنتنا كانت تهدم عمرنا ؛ وان عمرنا كان يقودنا نحو حتفنا ؛ وحياتنا تجري بنا الى موتنا ؛ ولم نعلم باننا عبارة عن ايام معدودة وسنوات محدودة ؛ كلما مضى منا يوم مضى معه بعضنا , وكلما مات لنا عزيز او اصبنا بنكبة كلما مات جزء فينا وانثلم شيء من روحنا :

إنـا لنفـرح بالأيـامِ نقـطَعُها *** وكـلُّ يومٍ مضى يُدْني من الأجلِ

و الشيء بالشيء يذكر , وبينما انا اكتب هذه الخاطرة , واذا بجهاز الموبايل يرن , ليخبرني صديقي الدكتور السيد عماد الموسوي بوفاة صديقي الدكتور الشيخ وسام , فقطعت الخاطرة وذهبت لتشييع صديقي الى وادي السلام , وعدت ادراجي , استذكر ايامي الخوالي معه وتوالت علي ذكريات الراحلين  , وشعرت برغبة عارمة بالانطواء والفناء , واللحاق بركب الاقارب والاحباب والاصدقاء .

 

 

 

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular