لم يكن الرفيق الخالد ” فهد” وفق روايات العديد من معاصريه ومنهم الجلّاد ” بهجت العطيّة” الذي حقق معه بعد إعتقاله في العام 1947 ، يمتلك الثقافة الواسعة كما باقي منّظري الأحزاب الشيوعيّة، ومنها الحزب الشيوعي العراقي الذي خرج من صفوفه مئات المثقفين في فترات ما بعد إستشهاده. الا أنّه ومع ذلك كما يقول حنا بطاطو: “وإذا كانت كتاباته تشكل برهانا، فأنّه يبدو وكأنه أستوعب أفكار ماركس ولينين أكثر من أي شيوعي آخر“. وإستيعابه للأفكار الماركسيّة وإيمانه المطلق بها ليست وحدها التي مكّنته من إعادة ترتيب البيت الحزبي وإحكام قبضته عليه، بل يعود وبشكل كبير الى قدرته كمنظم بارع كما يقول بطاطو، والذي يضيف: ويعترف أعتى خصومه، بأنّ أحدا في الحزب ما كان يبزّه في تجميع الناس وقيادتهم. بإيمانه المطلق بالماركسيّة كان يحاور مناوئيه وأعداءه بحجج قويّة، ما دفع الجلّاد ” بهجت العطيّة” وأثناء التحقيق معه وهو ” فهد” يشرح للعطيّة موقف الحزب الشيوعي العراقي من الأحداث السياسيّة التي يمر بها العراق وقتها، ليقول “العطية” محتجّا ومقاطعا فهدا أثناء التحقيق: من أنّه ليس مهتما بإعتناق الشيوعيّة. والعطيّة نفسه يقول لبطاطو ” كانت لدى فهد حجج إقناع قويّة، وله موهبة تفسير الأمور بطريقة واضحة وبسيطة”.
من خلال تتبع حياة الرفيق الخالد “فهد” وإيقاعها، نستطيع بكل أمانه وحيادية القول: أنّ فهدا كان حزبا لوحده. ففي الوقت الذي رفضت السلطات منحه جواز سفر ليتعرف من خلال سفراته كما أعلن الى ” حياة الناس”، لم يستكين للقرار، بل نراه ” مسافرا سيرا على الأقدام عبر خوزستان والكويت وشرق الأردن وسوريّة وفلسطين“، وحينما كان ينوي السفر الى مصر، وصلته ” أنباء التوصل، في 30 حزيران/ يونيو 1930 الى المعاهدة الأنكلو-عراقية”. هذا الإعلان هو ما دفع فهد في أن يعود بأسرع ما يمكن الى أرض الوطن، ليعمل مع مؤيديه القليلين على تثقيف الناس بخطر المعاهدة على الإستقلال الوطني، في حين كانت النخب السياسية العراقية ميّالة للمعاهدة عدا خطابات الإدانة من قبل الحزب الوطني.
أن رجلا كفهد وهو يعيد تنظيم حزب شيوعي رغم شدّة الضربات الموجهة إليه من قبل السلطات الملكيّة بمباركة وتوجيه بريطانيين، ويقود من داخل سجنه وثبة شعبنا ضد معاهدة “بورتسوث” ويُسقطها، يعتبر من أكبر الأخطار التي تواجهها السلطات المالكية العميلة للبريطانيين.ولكي تنهي السلطات هذا الخطر الذي يهدد حياتها، قامت بإعادة محاكمة الرفيق الخالد ” فهد” ورفاقه، ولتحكم عليهم بالإعدام شنقا. وإن كانت السلطات الملكيّة قد سلمت وقتها، جثتي الشهيدين الخالدين ” حازم وصارم” لذويهما ليدفناهما، فأن نفس السلطات دفنت الرفيق فهد ” في ساعة مجهولة، في مكان مجهول، من الركن العام في مقبرة المعظّم“، ومن يومها ونسير وشعبنا نحو المجهول، ولن يصبح المجهول واضحا، الّا بأن يكون للشهداء أمثالك مزارات من نور نحجّ إليها لنستلهم منها معنى الوطنية والشجاعة والإباء.
قبل لحظات من إستشهاده الأسطوري في ساحة المتحف وكأنّه قيّم على تأريخ العراق منذ أن عرف الأنسان الكتابة، هتف بجرأة أرعبت جلاديه وهو يسير بثبات نحو المشنقة ” لن يموت شعب يقدّم الضحايا .. الشيوعية أقوى من الموت”. في اللحظات التي كانفيها حدّاد السجن يقيّد قدمي الرفيق “فهد” بالحديد قبل إعدامه سأله الرفيق: إن كانت أية مظاهرات قد خرجت الى الشوارع ذلك اليوم أو اليوم الذي سبقه”، ليجيبه الحداد “لا“!!
لا، أيّها الرفيق “فهد”. فشعبنا بغالبيته ونتيجة لقلة وعيه لايتظاهر من أجل رجال قدموا حياتهم من أجل كرامة وطنهم وشعبهم أمثالك، وشعبنا لا يتظاهر من أجل أن يوفّر لأطفاله الحد الأدنى من العيش بكرامة وآدميّة، وشعبنا لا يتظاهر ووطنه محتل من قبل العصابات الأجنبيّة، وشعبنا لا يتظاهر والمخدّرات تفتك بأجساد شابّاته وشبابه، لكنه يتظاهر ويسير خلف الفاسدين بشعار ” علي وياك علي”. شعبنا اليوم لايمتلك قادة مثلك قادرين على تجميع الناس وقيادتهم الى حيث إنعتاقهم من ذل رجال الدين وسطوة العصابات وفساد الأحزاب الحاكمة، قادة قادرين على ترجمة بؤس حياة الناس الى بركان يزيل سلطة الفساد وعصاباتها في المنطقة الخضراء، كم نحن بحاجة إليك اليوم يا “فهد”، وأنت لا تريد أن تلتقي في منتصف الطريق مع أعداء حزبك وشعبك ووطنك، “كونك كنت وطنيا قبل أن تصبح شيوعيا، وعندما أصبحت شيوعيا صرت تشعر بمسؤولية أكبر تجاه وطنك“*.
نعم، أيها الرفيق الخالد، نحن نعيش اليوم عهد الكارثة، التي بدأت بإعدامكم ورفاقكم الميامين، ولم تنتهي بإعدام وتغييب عشرات الآلاف من خيرة شابّات وشبّان العراق من الشيوعيات والشيوعيين والوطنيات والوطنيين وفي مقدمّتهم الرفيق الشهيد ” سلام عادل”، بعد أن تحالفت العمامة مع البعث الفاشي في الثامن من شباط الأسود، والذي جاء متمما للرابع عشر من شباط الأسود هو الآخر.
لكم أيها الرفيق الخالد، وكل شهداء حزبنا على مرّ تأريخه، المجد وأكاليل الغار. والعار كل العار للقتلة في كل زمان ومكان في هذا الوطن الموبوء بالموت والجوع.
ما ورد بين الأقواس جاء في كتاب حنا بطاطو ” العراق – الحزب الشيوعي “.
*مع الإعتذار للرفيق فهد، على التحوير البسيط في مقولته الخالدة.
زكي رضا
الدنمارك