تقع منطقة الشرق الأوسط على مختلف الطرق بين الشرق الأقصى والعالم الغربي وأفريقيا، وهي منطقة واسعة تضم العديد من البلدان وخليطاً عجيباً من الشعوب والأقوام، تجثم على أراضٍ ثرية بالمواد الخام والنفط والغاز , وهي بلاد ذات سهولٍ واسعة مناسبة للزراعة وجبالٍ شاهقة ووديانٍ عميقة وصحارى يمكن استخدامها في مجال الطاقة الشمسية، وفي هذه المنطقة التي هي مهد الحضارات الإنسانية العريقة في القدم ومصدر العقائد والديانات العديدة، طاقات بشرية هائلة وموانىء على بحارٍ هامة في العالم، وتشكل مطارات بعض بلدانها محطات استراحة للمسافرين من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب أو بالعكس، ولها شواطىء دافئة تجذب السياح وآثارٌ كثيرة تثير رغبة الرحالة والباحثين والمؤرخين، إضافة إلى تاريخ طويل يتميز بتعدد الثقافات المبدعة واللغات الساحرة. ويمكن أن يشكَل هذا كله رصيداً متيناً لبناء حضارةٍ عظيمة فيما إذا توفرت الرغبة لدى شعوب المنطقة في العيش معاً، وفيما إذا خرجت شعوبها عن شرانقها الضيقة العقيدية والقومية والعنصرية وتراجعت عن نزعاتها في السيطرة على الآخرين وحبها في التملك كأسياد على من سواهم من مواطني بلدانها.
إن الأديان السماوية الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، وما كان قبلها أو خرج عنها من عقائد لأبناء وبنات المنطقة يمكن أن تساعد مثل الطموح الكبير للتخلّص من الفقر والتخلف في بناء حضارةٍ جديدة، تتميّز بالرغبة في الاعتراف بالآخر المختلف وفي حق جميع سكان هذه البلاد في العيش بكرامة وفي حرية وأمن واستقرار.
معظم غير الآبهين بقوة المنطقة والمشككين بقدرتها على التغيير الذاتي والتقدم والاستمرار في الوجود يعيدون جميع مصائب الأقوام والأمم التي تعيش في هذه المنطقة الغنية حقاً إلى الاستعمار الخارجي، رغم أن الاستعمار التقليدي قد انحسر وغاب، بل خرج من المنطقة، وثمة آخرين يعتبرون الاستعمار الجديد بصوره وأشكاله المختلفة، من استغلال الثروات في المنطقة وإرهاق حكوماتها بالديون المتراكمة وبإشعال نار الحروب بين بلاد الشرق الأوسط، سبباً أساسياً في بقاء هذه الشعوب العديدة أسيرةً في أيدي جلاديها من الرأسماليين الأجانب الذين لهم أجراء في هذه البلاد يأتمرون بأوامر الامبرياليين وينفذون مخططاتهم الإجرامية. في حين يحوّل أغبياء الفكر كل ما يجري أمامهم من أحداث عظيمة أو ذات شأنٍ غير ذي أهمية إلى انعكاساتٍ لما في عقولهم من آيديولوجيات معشعشة أو متعفنة.
وفي الحقيقة، إن معظم أسباب الانهيارات التي تعاني منها اقتصاديات الشرق الأوسط وأزماتها الحانقة مردها إلى ضعف الهياكل السياسية الحاكمة، وانتشار الفساد الإداري والمالي، وتملّق المثقفين للسياسيين الفاشلين والعائلات الحاكمة دون دساتير وقوانين مطبقة على جميع المواطنين، إضافةً إلى وجود قوى وفئات تسعى لتحويل الملكيات العامة إلى ملكيات عائلية، وتعمل على إيجاد جيوش خادمة للعائلة الحاكمة، بل وجيوش موازية بعقائد سخيفة إلى جانب الجيوش الوطنية، وتشرف على قطعان من دبابير وذئاب وأفاعي الدول السرية التي تلدغ تنهش وتسمم المجتمعات ليل نهار بممارساتها الشيطانية الحبيثة كل حين.
الشرق الأوسط يعاني من التدمير الذاتي أكثر مما يعاني من التدخل الخارجي، فالتدخل الأجنبي لا ينجح دون وجود قوى هامة في المجتمع تنفّذ أوامر الأجنبي وتخضع لسياساته وتضع مصالحه فوق مصالح شعوب المنطقة. ولا بد من أن يتخلّص المجتمع العامل على تحرير ذاته من الظلم والجور والفساد ويقضي على المعوقات الوطنية قبل التصدي للمحتل الأجنبي. ولنا في المنطقة أمثلة عديدة على تشابك المصلحة بين العامل الخارجي والعامل الداخلي في الإبقاء على حالة التخلّف والتشظي والفساد ونزيف الحروب المذهبية والطائفية والقومية.
الشرق الأوسط الجديد لا يمكن صنعه أو ابتكاره بجملٍ منمقة لفيلسوفٍ يعيش في آخر الدنيا أو عاش بعيداً عن الشرق الأوسط، ولربما لم تطأ قدماه أرضأً شرق أوسطية في حياته، كما لا يقرر الشروع في بنائه مؤتمرٌ لمالكي البنوك العالمية أو زعماء العالم، ولن تبنيه أي آيديولوجية مهما كانت ترسم من جنان الخلد الجميلة كمستقبل لأطفال الشرق الأوسط، وإنما بناته ومشيدوه هم شعوب الشرق الأوسط ورواد فكرة العيش في الحرية والأمن والاستقرار من أبنائه وبناته الذين يترفعون عن العصبيات القبلية والصراعات الطائفية والحروب المذهبية والنظرات العنصرية الخطيرة، ويسخرون من الذين يسعون لبيع الشعوب ومستقبلها أو شراءها بما في أيديهم من كنوز وجيوش.
كلنا بحاجة إلى أفق وصيرورة شرق أوسط جديد، قائم على الاعتراف المتبادل بين سائر شعوب المنطقة، صغيرةً كانت أو كبيرة، ضعيفةً أو قوية، فقيرةً أو غنية، متخلفةً أو متقدمة… فها هي ألمانيا الثرية المتقدمة الكبيرة تعداداً والعالية مقاماً تحني رأسها احتراماً لشعوبٍ من حولها أضعف منها بكثير، وتعاملها على مستوى النظر كالند للند، في حين أن بعض حكومات بلداننا العنصرية تسعى للقضاء على وجود شعوبٍ جارةٍ لها والقيام بالتغيير السكاني على أراضيها لمجرّد أنها تملك القوة، ومثالنا على ذلك ما يجري الآن في وضح النهار من مساعيَ يومية لإنهاء الوجود القومي الكوردي عن طريق ممارسة سياسات الغزو والنهب والسلب والتعذيب وفرض الضرائب والاغتيالات وكل ما من شأنه إرهاب المواطنين، في منطقة عفرين الكوردية، في شمال غرب سوريا، في ظل “سلطة الاحتلال” التركية.