1- الدور الروسي:
في الواقع وكما ورد في مقالة تحت عنوان (ماذا يريد روسيا فعلا من سوريا) بتاريخ 1/2/2019م على موقع (السياسة الخارجية-فورين بولسي) الأمريكية، روسيا لم تكن غايتها التدخل في الشأن السوري، لتحقيق السلام، بل لاسترداد مواقعها في الشرق الأوسط. وما نلاحظه ليس هذا فقط، بل كان للثأر من المنظمات التكفيرية الإسلامية التي عانت منها موسكو على مدى سنوات الحرب مع الشيشان، ولتحقيق الهدف والحلم سارعت في إثبات وجودها على الأراضي السورية قبل التدخل الأمريكي، وخلقت قضايا عسكرية وسياسية مع القوى الفاعلة على الجغرافية السورية كالقوة الكردية، خاصة بعد عملية عفرين، رغم ما كانت عليه من مصالحة معهم قبل الاقتراب التركي، كما وغيرت من علاقاتها مع القوى الإقليمية المتضاربة، وفي مقدمتهم تركيا رغم أنها كانت ولاتزال في حالة عداوة مذهبية وسياسية مع إيران وسلطة بشار الأسد حليفي روسيا، بالنتيجة فإن روسيا تكاد أن تبلغ غايتها، بل وغاية العديد من القوى الوطنية، وهي على وشك القضاء على أخر فلول هذه المنظمات، لكنها من جهة أخرى رسخت في المنطقة أركان نظام غارق في الإجرام .
استخدمت موسكو كل الأساليب، والاهم فيها أنها استندت على الاتفاقيات الرسمية الدولية أو ما تسمى في أروقة الأمم المتحدة بالشرعية، والمطعونة فيها بحكم تعاملها مع سلطة غارقة في الإجرام، واستخدامها المنظمات الشيعية المتعددة، وتماديها في علاقاتها مع منظمات إرهابية بشكل غير مباشر، إلى درجة التعامل مع منظمة داعش، وحوادث تدمر شاهدة عليها، عند تسليمها لهم مرتين وطردهم منها بعد شهور قليلة، والمعارك الوهمية على أطراف تدمر، ونهب السلطة وداعش معا للأثار تفضح هذه الحقائق، وهذه العلاقات لا تختلف عن الاتفاقيات السرية بين تركيا وداعش، والتي بدأت من عملية اختطاف الدبلوماسيين الأتراك من قنصليتهم في الموصل، وعملية إطلاق سراحهم عن طريق الباب، المدينة التي تنازلت لهم عنها داعش فيما بعد بدون أن يسقط قتيل واحد.
أن حقيقة الوجود الروسي تتجاوز جغرافية سوريا، ولذلك فإن إستراتيجيتها لن تتغير كثيرا فيما لو سحبت أمريكا قواتها من سوريا. مثله مثل حقيقة التمدد الإيراني في المنطقة، وغاياتها معروفة لجميع المحللين السياسيين والمؤرخين، فروسيا سابقا وفي فترة الإتحاد السوفيتي طموحاتها كانت ولا تزال على مستوى الشرق الأوسط، وفي هذه المرحلة يحتمل أن تؤثر الانسحاب الأمريكي في حال حصولها على تكتيكها سلبا، بل وفي الواقع قد تخلق مشاكل بينها وبين تركيا، والمأمولة أن تحصل من خلال تحالفاتهما رجحان في كفتها على أجزاء من العالم الإسلامي ضد الهيمنة الأمريكية، وعليه لا نستبعد أن تقدم روسيا تنازلات لأمريكا أو تقوم بمناورات عسكرية سياسية لتبقي أمريكا حتى ولو شكليا في شرق الفرات، وتستمر في تحالفها مع الكرد وحمايتهم.
فمن خلال مراقبة مجريات الأحداث، وعدم طرح الدول المعنية لحل منطقي لقضية سوريا، وعلى خلفية حجم التدخلات الدولية، تتبين أن الإشكالية المعترضة على إنهاء الصراع في المنطقة، تتعلق بطموحات المتربصين المتجاوزة الجغرافية السورية الضيقة وشرق الفرات، فالدول الكبرى وخاصة أمريكا وروسيا تتحركان كإمبراطوريتين، وبيدهما أدوات متنوعة الصفات، مستخدمين كل واحدة منها لمهمة معينة. والقوى الأقل منها هيمنة كتركيا وإيران، يعبثان على خلفية أحلامهما الماضية بمصير المنطقة، ولذلك يحاولون ديمومة المشاكل لا حلها في الدول المتأذية كسوريا وتعميق الخلافات على القضية الكردية، على أمل الحصول على المكاسب المأمولة.
2- مجريات اجتماع القمة في سوتشي:
ففي الاجتماع الأخير بين روسيا وإيران وتركيا في سوتشي، بتاريخ 14/2/2019م حول سوريا، نوقش فيها مصير إدلب وشرق الفرات والمنطقة الأمنة في جنوب غربي كردستان، والأهم إشكاليات الفراغ التي ستخلفه الانسحاب الأمريكي، والخلاف على ما يمكن فعله بالنسبة لشرق الفرات، وهنا ظهرت نقلة نوعية سلبية ما بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، ففي كل تنازل تركي عن المعارضة كانت تحصل على مكسب مقابلها، وأغلبها كانت على حساب المنطقة الكردية، وأكبر الصفقات بعد الباب وجرابلس، وقطع الطريق على الفيدرالية الكردستانية المخططة بلوغها إلى البحر عن طريق إدلب وجبل الكرد كانت عفرين، حيث عمليات التغيير الديمغرافي والاعتداءات المتكررة على سكانها الأصليين دون اعتراض يذكر من قبل موسكو، كما وأن حسن روحاني شدد على أن الكرد جزء لا يتجزأ من سوريا، رغم ضبابية الكلمة إلا أنها تبين اعتراض ما على المطلب التركي في إقامة المنطقة الأمنة.
3- المقايضات بين تركيا وروسيا على المنطقة الكردية، والحضور الأمريكي:
كما وتبين في هذا الاجتماع أن تركيا أقدمت بالتنازل عن المعارضة مقابل البقاء لفترة أطول في عفرين، وذلك حسب معلومات تسربت إلى الإعلام تقول إن روسيا بينت عن نفاذ صبرها حول معالجة تركيا لقضية التكفيريين والإرهابين في إدلب وخاصة شمالها، كما ويقال أنها أبدت غضبها من سلبية النتائج وعلى خلفية توسع هيمنة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) والمنسقة عند الروس على رأس قائمة الإرهاب، على أغلبية مناطق إدلب وبصمت تركي، ولا يستبعد أن تبدأ قريبا عمليات عسكرية ضد أغلب الفصائل المعارضة المسلحة هناك، إما بقصف روسي مباشر، أو بتصعيد التآكل الداخلي كما فعلته تركيا قبل شهر.
ويذكر أن أردوغان حاول في قمة سوتشي عقد مقايضة مع بوتين وروحاني، ما بين المنطقة الأمنة في المنطقة الكردية مقابل إدلب، لكنه فشل في هذه أيضا، خاصة وأن شرقي الفرات هي منطقة المصالح الأمريكية، وأن تمت أية اتفاقية فستكون بين روسيا وأمريكا وليست مع الدول الإقليمية.
وبينما كانت تطمح تركيا، وبمعزل عن المقايضة المذكورة، في تكرارها الطلب من روسيا للموافقة على إقامة المنطقة الأمنة في جنوب غربي كردستان كامتداد لمنطقة عفرين فيما إذا انسحبت أمريكا، لاقت الرفض منها وللمرة الثانية، سابقا على لسان المتحدثة باسم وزير خارجيتها، القائلة أن مثل هذا المشروع يحتاج إلى موافقة سلطة دمشق، والأن كررتها تحت مقولة دبلوماسية وهي أن مثل هذه القضية يجب أن تدرس باجتماع مباشر بين سلطة بشار الأسد وتركيا وروسيا، وهذا يعني إرغام تركيا للاعتراف بسلطة بشار الأسد، وتخليها عن المعارضة السياسية مثلما فعلتها وتفعلها الأن مع المسلحة، ومن جهة أخرى كان الرفض الأمريكي مباشراً وبطرق متنوعة، وهي ما أدت بتركيا إلى البحث عن البدائل، وإطلاقها لتصريحات عديدة متضاربة، وأخرها كانت عن منبج رغم أن الأحداث الجارية تجاوزتها، وتصريح وزير دفاعها الأخير.
وهنا لا نستبعد أن تويترات الرئيس ترمب حول انسحاب قواته من سوريا خلقت إشكالية بين تركيا وروسيا، وجلبت سلبيات لأردوغان لا تقل عن سلبيات بقاءها وتحالفها مع قوات الـ ي ب ج الكردية، وقسد التابعة للإدارة الذاتية، وخاصة بعد توصية الجنرال الأمريكي فوتيل اليوم، والقائل إنه يطلب أن تقوم أمريكا بدعم وتسليح قوات سوريا الديمقراطية بعد الانسحاب، ولربما وعلى خلفية ما ورغبة أمريكا هذه ضمنها، لا تريد روسيا أيضا الانسحاب الأمريكي بدون اتفاقية، كأملها أن تكون عاملا مساعدا في إخراج إيران من سوريا، ولا شك فمن مصلحة روسيا الإستراتيجية انسحاب أمريكا من المنطقة وباتفاقيات، ولكنها تعلم أن الانسحاب سيمخض عن استفحال الخلافات بين الأطراف الثلاثة روسيا وتركيا وإيران، وبشكل واضح وفاضح.
4- الدور الإيراني:
عرضوا هذه القضايا في الاجتماع الأخير، كل بطريقته، فإيران بينت على أنها لا تفكر في الخروج من سوريا أو حتى التخفيف من وجودها، رغم أن الحصار الاقتصادي عليها تكاد أن تدمر بنيتها الداخلية، ولا يبشر خيرا في قادمها وقد تؤثر وبشكل مباشر على دعمها للمنظمات العديدة التي تغذيها بالمال والسلاح، فقد تراجعت كمية تصدير النفط من 2 ونصف مليون برميل يوميا إلى أقل من مليون برميل، والتضخم في أسواقها تجاوزت الألف بالمائة في كل فصل، كما أن دخلها الوطني تراجع من 400 مليار دولار عام 2016م ، تقرير مساعد وزير الاقتصاد والمالية الإيراني حسين قضاوي، إلى 103 مليار دولار عام 2018م حسب ما أعلنه الروحاني، علما أن التدهور الاقتصادي لا يؤثر كثيرا في المسيرة السياسية للأنظمة الشمولية والتي لا تعير الشعب ومعيشتهم اليومية أية أهمية. وبما أنها الأكثر معنية هنا بالوجود الأمريكي في شرق الفرات، بعد التخلص من داعش، ويظن أن عملية الانسحاب ستكون في صالحها، لكن في الواقع لن تغير من المعادلة الإستراتيجية الأمريكية ضد تمددها ومصالحها في المنطقة، لأن التركيز سيستمر على قواتها في الأراضي العراقية والإقليم الفيدرالي الكردستاني، وعلى الأغلب زيارة مايكل بومبيو للإقليم رسخت هذه المعادلة. ومن جهة أخرى فإن تصريح حسن روحاني المبطن حول الكرد في سوريا، كمحاولة للدخول على الخط مع القوات الكردية في شرق الفرات، ستكون ضعيفة تأثيرها، فيما إذا ظلت أمريكا متمسكة بالمنطقة في حالتي الانسحاب أو البقاء، علما يقال إنه هناك إملاءات لإيران على القوة الكردية في المنطقة إما بشكل مباشر أو عن طريق السلطة السورية.
5- الدور التركي:
وفي الطرف الأخر كررت تركيا مطلب المنطقة الأمنة والقضية الكردية السورية، وعلى الأغلب لم تبحث في اتفاقية أضنه بل ويقال إنه تراجع عنها، وقد صرح وزير دفاعها اليوم، أن للجيش التركي وحده الحق في حماية المنطقة الأمنة، وذلك بعد الرد السلبي من قبل روسيا في اجتماع القمة في سوتشي على إقامة المنطقة، وهذا الرد التركي غير السياسي تبين على فشل أردوغان مع روحاني وبوتين سياسيا، مثلما فشل مع أمريكا سابقا.
وضمن هذا الإطار، ففي اجتماع قمة سوتشي، لم يتم التوصل إلى نتيجة مرضية حول قضية الانسحاب الأمريكي، لأنهم يدركون أنها أصبحت مسألة أمريكية داخلية وأعلى من أن تتأثر بضغوطات القوى الإقليمية.
ويلاحظ أن مصير الاستراتيجية التركية حول سوريا مثل إشكالياتها الداخلية تتجه نحو الأسوء، وهي ليس بأفضل من قادم إيران، لعدة اعتبارات، منها ظهور بدايات خلاف بينها وبين موسكو، حتى ولو كانت سطحية بالنسبة لعلاقاتها الخارجية، ولكنها مهمة للداخل التركي، فهي قادمة على الانتخابات، وأغلبية المراقبين السياسيين يتوقعون أن تتلاعب حزب العدالة والتنمية بنتائج الانتخابات لتحافظ على مكانتها في الداخل، علما أن مسيرة الدولة الاقتصادية لا تبشر بخير، وتطورها في تباطئ، كما ومن المتوقع أن تنهار عملتها ثانية وبقوة هذه المرة، ولن تتعافى، فعلى مدى السنتين الماضيتين، وعلى خلفية تراجع دعم الرأسمالية العالمية لها، تقلص سوية إجمالي دخلها الوطني، وليس القومي المتراجع بقوة، إلى حدود 700 مليار دولار بعدما كان قد بلغ في السنوات الماضية وعلى لسان وزير اقتصادها نهاد زيبكجي، مع بعض التضخيم في الأرقام، من 230 مليار دولار عام 2002م إلى 860 مليار دولار عام 2017م، وذلك لخلفية ضخ الشركات الرأسمالية العالمية الكميات الهائلة من السيولة إليها، والمؤدية إلى أن بلغت ديون مجموعة من شركاتها قرابة 214 مليار دولار، علما أن ديون تركيا بشكل علم تتجاوز هذه الأرقام بكثير، وكانت هدف الشركات الرأسمالية العالمية أوسع من استثمار رأسمالها عن طريق بنوكها ورأسمالييها في العالمين العربي والإسلامي، فقد كانت هناك خلفية سياسية -دينية ورائها. ولظهور الخلافات السياسية والدينية بينها وبين تركيا وانحراف الأخيرة إلى الحيز الإسلامي الراديكالي، بدأ يتراجع الدعم وبالتالي النمو الاقتصادي، وأزداد التضخم في أسواقها بشكل كبير، ويتوقع صندوق النقد الدولي تراجعا كبيرا لمعدلات النمو في اقتصادها خلال عام 2019م ليصل إلى 4و0% أي أقل من نصف بالمائة بعدما كانت قد بلغت في 2017م قرابة 7%، ولهذا فأردوغان في بحث متواصل عن مصادر لجلب السيولة النقدية البديلة، كالاستدانة من قطر، وجلب ذهب فنزويلا مؤخرا على خلفية دعمه للرئيس نيكولاس مادورو بعد عملية الانقلاب، ومن دول أخرى، ويتوقع البعض من المراقبين الاقتصاديين والسياسيين أن تحصل إشكاليات ما في الداخل التركي، ويتراجع دورها عالميا في السنوات القادمة، وتوسيع العلاقات مع روسيا، والتي هي بدورها تعيش واقع الحصار الأمريكي الأوروبي، حتى ولو كانت جزئية، لا يتوقع أن تنقذها من السقوط في الهوة.
6- الكرد في الاجتماعات الدولية المتعلقة بالشرق الأوسط:
وبمراقبة الاجتماعات الجارية والقادمة، والتي تعكس حالة الصراع الاستراتيجي بين أمريكا وروسيا، كاجتماع سوتشي، واجتماع وزراء خارجية دول التحالف ضد داعش في واشنطن، وغداً اجتماع وزراء الدفاع لدول التحالف ضد داعش في ميونيخ بألمانيا، ووزراء الخارجية في وارسو حول الأمن والسلام في الشرق الأوسط، وغيرها، والبيانات الصادرة أو المتوقعة أن تصدر عنهم، وعن رؤساء الدول والقوى المعنية بقضية سوريا، تبين أن قضية شرق الفرات والكردية بشكل خاص، لم تعد محصورة في عمليات القضاء على داعش، بل تجاوزتها، وأصبحت تحتل مركز مهما بين غيرها من القضايا المتداولة على ساحة الشرق الأوسط، رغم التعتيم الإعلامي، والإهمال الدبلوماسي والسياسي المتعمد، وهي حاضرة في الأروقة الدبلوماسية، وتدرس بشكل ما قد لا تكون في صالحنا كما نريدها، ولهذه أسبابها، وهي غيابنا كإصحاب القضية عن جميع هذه الاجتماعات، وأننا نضحي دون مقابل، وحيث العامل الذاتي، نتصارع في مرحلة نحتاج إلى توافق، ونبين عن جهالة أو عدم مواكبة العصر في العلاقات الدولية من خلال الطعن بالبعض، وبالتالي لا نتمكن من حضوره، بل وحتى إيصال صوتنا إلى المجتمعين لا سلبا أو إيجابا. وتبقى احتمالات حصولنا على مكاسب واردة، ولكن يبقى السؤال هل ستكون على قدر دماء الشهداء التي هدرت دفاعا عن العالم؟ وهل ستلبي احتياجات الملايين الكرد المهاجرين والمهجرين والذين لا يزال يعانون الويلات في الوطن؟ وهل سنتمكن من تحقيق الفيدرالية المأمولة أن تحافظ على حقوقنا كقومية ضمن سوريا القادمة؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية