ملامح المشهد العراقي للفترة القريبة القادمة

.

سيبقى العراق من أكثر البلدان التي تشهد أحداث سياسية وعسكرية وأمنية متسارعة تجعل من عملية تتبعها والتكهن بمستقبلها، صعبة وليست سهلة للكثير من المراقبين، والتعقيد الذي يشهده المشهد ‏العراقي يجعله مفتوحا ‏للعديد من السيناريوهات، سواء منها سياسية أو عسكرية.‏

ففي موضوع اختيار خليفة لعادل عبد المهدي، للخروج من عنق الزجاجة الذي يعيش فيه النظام العراقي، يبدوا إن الفشل سيكون حليف الكتل ‏السياسية الشيعية، في اختيار تلك الشخصية، والتي يفترض من هذه الشخصية، أن تنال رضا المتظاهرين الذين أصبحوا عاملا مهما في اللعبة السياسية الجارية في العراق، وبنفس الوقت تحافظ على مصالح الأحزاب التي تُرشحها. لذلك فإن ‏المرجح ان تتجه الكتل السياسية لإعادة تكليف عادل عبد المهدي برئاسة الحكومة المؤقتة القادمة، ليقود المرحلة التي يتم خلالها إجراء انتخابات مبكرة – كما تدعي تلك الكتل والأحزاب- ‏الأمر الذي سيعمل على إشعال ساحات التظاهر بالرفض لتلك الخطة، وستتصاعد حركة الاحتجاجات الرافضة لمرشحي تلك الكتل ‏الأحزاب السياسية.

“سوف يعاني العراق من عجز كبير في موازنته المالية لعام 2020، والتي لم تقدم لحد الان ‏للبرلمان لإقرارها”

التظاهرات العراقية والمستمرة منذ أكثر من ثلاث أشهر، من المتوقع أن يكون لها تأثيرا مباشرا ومهما على ‏مستقبل العملية السياسية الجارية بالعراق. ومن غير المرجح أن تنفض تلك الاحتجاجات بعد أن قطعت شوطا طويلا ومهما، لكن دون أن تلقى استجابة من النظام في إحداث تغييرات حقيقية في بنية النظام العراقي بشكل عام كما يُطالب في ذلك المتظاهرين. ومن المرجح أن يعطي ‏الدعم الدولي لهذه التظاهرات زخما جديدا لها في الأيام القليلة القادمة، بعد أن تصاعدت عمليات الاستهداف التي طالت الناشطين في التظاهرات والصحفيين الذين يغطون أحداثها. وأخص بالذكر الدعم الأمريكي، حيث عبر ‏الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن هذا بشكل صريح، حينما قال في تغريدة له على حسابه الرسمي في تويتر: “حان وقت التحرك ‏لملايين العراقيين الذين يريدون الحرية ولا يرغبون في الخضوع لسيطرة إيران”. وهو أمر يُفهم منه بأن ‏الإدارة الامريكية عازمة حاليا على احداث تغيير حقيقي في وجهة النظام السياسي العراقي، والعمل على تغير ولائه من إيران صوب ‏الولايات المتحدة في الفترة المقبلة. لكن من المستبعد أن يكون هذا التغيير الذي تنوي فعله أمريكا في العراق، مشابها لعملية إسقاط نظام صدام عام 2003 بطريقة عسكرية. بل ستعمل على تقوية أدواتها السياسية ‏بالاستفادة من قوتها العسكرية الموجودة بالعراق، كعامل ضغط على أدوات إيران في العراق، مما سيجعلها قادرة ‏على تغيير العملية السياسية وتوجيهها إلى الوجهة التي تريدها عبر الوسائل “الديمقراطية” ذاتها التي أرست أسسها الولايات المتحدة عام 2003، وعبر نفس ‏الدستور العراقي الذي أشرفت على إقراره، لكن بعد إحداث تغيير لبنود مهمة فيه.‏

وفي ما يتعلق بموضوع انسحاب القوات الامريكية استجابة لما أقره البرلمان العراقي قبل أيام بأغلبية مشكوك فيها، فمن غير المتوقع أن تعمل الولايات المتحدة على سحب قواتها بالمدى المنظور. وقد جاء ذلك على لسان أكثر من مسؤول سياسي وعسكري أمريكي. أما على صعيد التحرشات العسكرية التي تقوم بها ‏إيران من خلال أدواتها في العراق بالقوات الأمريكية، فإن من المتوقع أنها ستخف كثيرا أو ربما ستتوقف، وذلك بعد قيام الولايات المتحدة باغتيال قاسم سليماني، والرد الصاروخي الإيراني الباهت وغير المؤثر على القواعد الأمريكية في العراق، والتي أظهرت للعالم على إن الشعارات القوية التي رفعتها إيران بقوة ردها على القوات الامريكية، لم تكن حقيقية. فضلا عن الفارق في القدرات العسكرية بين الطرفين والذي لا يسمح لإيران فتح مواجهة عسكرية معها. وهذا هو السبب بالضبط الذي جعل إيران توعز لميليشياتها بعدم الرد أو التحرش بالقوات الامريكية في العراق. بالمقابل من المستبعد ‏أن تشن الولايات المتحدة أيضا هجوما كاسحا على إيران أو على ميليشياتها في العراق، إنما سوف تستمر واشنطن باستهداف ‏بعض قادة المليشيات، وضرب بعض تجمعاتها خارج العراق، في سوريا مثلا، بالإضافة على الاستمرار بإصدار قوائم العقوبات على قادة المليشيات، ضمن خطة وقائية لتحييد تلك القوات ‏من الفعل العسكري ضد قواتها، وكذلك بتحجيم تأثيرها بمجريات العملية السياسية في العراق.‏

في ذات السياق، إذا ما أصرت الكتل السياسية الشيعية على عدم التعاون مع واشنطن، أو الإصرار على خروج قواتها من العراق، فإن من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة باستخدام نفوذها في العالم، لاستحصال قرار بحق العراق، ‏يرتقي للدرجة التي يعاد فيها إلى طائلة الرضوخ تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مستغلة دعاوي قوية بحق النظام العراقي، منها ضعفه بحماية البعثات ‏الدبلوماسية العاملة بالعراق، والتعامل الدموي مع المتظاهرين السلميين، وغيرها من الأخطاء القاتلة التي ارتكبها النظام، أو ‏سيرتكبها لاحقا في ظل التخبط الذي يعيش فيه حاليا. أو ستعمل الولايات المتحدة الامريكية على رفع العراق من الدول المعفية من عقوباتها على إيران، أو القيام بفرض بعض العقوبات على العراق. وإذا ما حدث ذلك، فإننا من الممكن أن نتلمس في الأشهر القليلة ‏القادمة، ملامح النظام السياسي القادم في العراق، والذي سوف تقوم الولايات المتحدة بتأسيسه على انقاض النظام الحالي. ‏

“من المتوقع أن يكون هناك تقارب سياسي كردي – سنَّي في الفترة المقبلة بدفع أمريكي ضد الأحزاب الموالية ‏لإيران”

اقتصاديا، سوف يعاني العراق من عجز كبير في موازنته المالية لعام 2020، والتي لم تقدم لحد الان ‏للبرلمان لإقرارها، لا سيما وأن العراق منشغل في التعامل مع التظاهرات التي لم يجدوا لها حلا لحد ‏الان. بالإضافة إلى ان تهديدات ترامب بفرض عقوبات على العراق، ستساهم في إدخال الاقتصاد العراقي ‏في صعوبات كبيرة من الصعب عليه تحملها. ‏

أما على صعيد التحالفات السياسية الداخلية في العراق، والتي سيكون لواشنطن تأثيرا مباشرا فيها، من المتوقع أن يكون هناك تقارب سياسي كردي – سنَّي في الفترة المقبلة بدفع أمريكي ضد الأحزاب الموالية ‏لإيران، لتمرير الخطوات السياسية التي ستؤدي بالنهاية الى إقصاء أحزاب إيران في العراق، وجعلها من فاعل لسياسي الأكثر تأثيرا وأهمية في العراق، إلى دور أقل فاعلية وأهمية. إلا إذا قامت الأحزاب الموالية لإيران بتقديم تنازلات كبيرة للأحزاب ‏الكردية، وهذا ما نراه من تقارب سياسي حالي بين الكتل الشيعية والأحزاب الكردية في موضوع إعادة تعين عبد المهدي كرئيس للوزراء.

لكن كل هذه السيناريوهات، ربما تضرب عرض الحائط، إذا ما رفعت إيران الراية البيضاء للولايات المتحدة في اللحظة الأخيرة، واستجابت للدعوات الامريكية في الجلوس على طاولة الحوار، لتدخل ضمن الحاضنة الامريكية مرغمة لا مختارة.