الكاتب متميز في براعته الاسلوبية في عالم السرد ( قصة ورواية ) في التناول والصياغة مشبعة في الاتجاه الواقعي بكل مساراته المتنوعة من مفردات واشياء الواقع الفعلية , يصوغها بمهارة محترف في صناعة فن السرد بتمكن في جمع مكونات الواقع , والمتخيل الفني في بوتقة واحدة , في عالم السرد الواقعي بكل اشكاله التعبيرية التي تخوض في تداعيات الواقع وتفرزها على الملأ , يسكبها في الصياغة الفنية الحديثة . لذلك يحمل النص او الحدث السردي بالاشباع الحياتي والواقعي وفي السرد الفني , وفي اللغة السردية المشوقة التي تشد القارئ برهافة حميمية . ان عالمه السردي متنوع العطاء والتجلي لمفردات الواقع وتداعياته المختلفة , في الرؤية والرؤى في الاتجاه النقد والانتقاد اللاذع , في اتجاه السخرية الساخرة بالكوميدية التراجيدية . في حالتها التي تفضي الى الانتهاك الاجتماعي في القهر والمعاناة . لذلك ان النص السردي يحمل حالات انسانية مظلومة ومحرومة في معاناتها الاجتماعي . في مشاعرها الملتهبة في الوجع الحياتي في هواجسها الوجدانية الداخلية والخارجية . لذلك نجد ان شخصية الحدث أو ( البطل ) السرد يخوض معاناة قاهرة في الواقع والحياة المتجمدة في العذاب والتعذيب الروحي والاجتماعي , أن يكون مشبعاً بالهواجس والهموم , في الفقر والعوز الحياتي , في الحالات النفسية الجريحة ومؤلمة في الوجع من سكاكين الواقع الجارحة , ليخوض غمارالانكسار والاحباط والانهزام , في كل مفردات الحياة بما فيها الحب , وكذلك يواجه الغطرسة والتعالي والفساد والنفاق المسلط على الشرائح المظلومة في المجتمع . وكذلك امام المواجهة الحدية والصارمة في بشاعة قسوتها من الارهاب السلطوي المرعب . يواجه الطموحات الانسانية التي تنقلب الى وهم وسراب . لتدفعه ان يكون غريقاً بالحزن والالم , في جراحات تحرث في الخيبة والاحباط , في وهم الاحلام التي يتصورها قريبة المنال , ولكنها في حقيقتها بعيدة المنال . ان الحبكة السردية في ثنايا احداثها السردية المتنوعة . تمثل بانوراما الحياتية بكل مرادفاتها المتناقضة التي حملتها المجموعة القصصية ( بستان العاشقين ) للاديب فيصل عبدالحسن . وهو يكون عجينة تشكيلية يخلقها من صلب الواقع ويرسمها بعدة لوحات سردية مشبعة في الدلالات العميقة في التعبير والمغزى الدال في ايقاعاتها المختلفة , في العالم السردي المتمكن من ادواته وتقنياته الحديثة . التي تحرث في الوطن والمنفى والحب والمعاناة الاجتماعية . والمجموعة القصصية ضمت 21 قصة قصيرة , نقتطف بعضها بأيجاز شديد :
1 – قصة الطعام الاسود : الاهداء ( الى ولدي محمد ) وهي اشارة بليغة بتذكير الابناء الى المعاناة القاسية التي تجرعها الاباء وحملوها على ظهورهم كصخرة سيزيف في المشقة والعناء .
وحدث القصة تدور حول أب لعائلة يحاول ان يجد فرصة عمل للعيش هو وعائلته , حتى يتهرب من ذل السؤال من الدائنين , لذلك يتهرب منهم لعوزه المادي والمعيشي في دفع ديونه المرتبة عليه , ويبحث عن فرصة عمل مهما كانت مشقتها وخطورتها , واخيراً بعد بحث مضني ومتعب , وجد فرصة العمل في حديقة الحيوانات لاطعام الاسود والنمور . رغم تحذير مدير الحديقة في اختبار مدى تحمله بالتحذير الموجه له ( ربما سنطلب منك يوماً تنظيف أسنان الاسود بالفرشاة ومعجون الاسنان ) لكي يخيفه ويتنصل عن العمل , لكنه اصر على تحمل كل المخاطر . وبدأ يمارس الصمود البطولي الكاذب امام المدير , لكي يقنعه بالقبول بالعمل في الحديقة الحيوانات , وعرف ان عمله يقتصر على تقديم شرائح اللحوم المستوردة والمجمدة الى الاسود صباحاً ومساءاً اقتنع بعمله , وهويدغدغ هواجسه بأنه سيقتطع قطعة من اللحم الى عائلته المحرومة من اللحم والى جيرانه , الذين قدموا الدعم والمساعدة في فقره وعوزه . لكن في النتيجة العملية تبخرت هذه الرغبات . حين عرف بأن اللحم الذي يصل بالسيارات المبردة للحوم , يتقاسمها المدير والموظفين . وحصة الاسود والنمور , هو تقديم طعام خليط من الفول والرز وفتات الخبز والامعاء وفضلات اللحوم , لذلك ان الاسود والنمور في حالة شحوب وضعف , كأنها على وشك السقوط والاغماء في كل حظة .
2 – قصة ردني الى بلادي : يهزه الشوق والحنين الى بلاده بعد سقوط النظام الدكتاتوري , ويصر الى العودة الى احضان الاهل والاحبة . التي تتحرك ذكرياته بحزن وشوق . رغم مخالفة زوجته التي تشعر بالحزن والقهر والآهات والدموع , خوفاً عليه لان الوضع في بلاده مخيف بالارهاب والتفجيرات اليومية , وخوفاً ان يصيبه مكروه ويتيم اطفاله , رغم انه يعيش مع زوجته في بحبوحة الحياة في حب ولوئام , لذلك تحرص على حياته من هذه السفرة المخيفة عير مطمئنة نتائجها . ولكن الشوق الى الوطن اكبر من حزن زوجته ودموعها , وحالات الحرجة بعدم انتظار عودة اطفاله من المدرسة , خشية ان يضعف امامهم ويبطل عن الرحيل . ومع اعتراض زوجته ودموعها الباكية , يصر على الذهاب الى الوطن مهما كانت العواقب .
3 – قصة قص الشريط : قرر الرئيس ان يفتح داراً جديدة للامتاع والمؤانسة , وهي الدور التي تطلق لدور التعذيب الوحشي لدائرة المخابرات والامن ضد المعارضين السياسيين , يوزعون على اقسام هذه الدور الجهنمية في الرعب والفزع في اساليب التعذيب والبطش بالسجناء السياسيين , فهناك دور مخصصة في وضع السجناء المعارضين في الحوامض التيزاب لذابتهم . وهناك دور لقلع العيون والاعضاء الجنسية وقلع الاظافر , وهناك دور تستخدم الكهرباء في تعذيب الجسد . وهناك دور تمارس البطش الوحشي لابناء السجناء حتى يعترفوا الاباء ويسقطوا . هذه بركات الحكم الدكتاتوري .
4 – قصة يوم الكلب : دخل كلب ضخم على الجدة وهي عارية في غرفتها تتهيء الى الاستحمام في الماء الساخن . وهي تخاف من رؤية الكلاب والقطط . فقد افزعها بالرعب , ومن ارتباكها سقط الماء الساخن , ومن خوفها حملت سيف حديدي , وبدات تتصايح بهلع وخوف , تجمهر حولها عائلتها والجيران وغطوا جسمها العاري بالبطانية , ولكن المصيبة الكلب حشر نفسه في زوية ولم يستسلم لصيحات والتهديدات , فأقترح احدهم في اعطائه شرائح اللحوم . وبالفعل جلبوا شرائح اللحوم فلم يقترب الكلب اليها , ادعوا بأنها مجمدة والكلب يريد لحوم طازجة وبالفعل جلبوا اللحوم الطازجة لكن دون فائدة , فأستعانوا بتاجر المخدرات والحشيشة وكان شاباً مفتول العضلات فأقترب من الكلب واخرجه خارج الغرفة, في استسلام دون ممانعة .
5 – قصة المخطوفة : استدرجت عصابة خطف الاطفال , طفلة صغيرة في خداعها بالحلوى ولعب الاطفال , ولكن من اجل تبديل اعضاء جسمها بجسم الصبي المريض , الراقد على سرير المرض في المستشفى . فسلموا الطفلة الى الطبيب ليقوم بالفحوص والتحليلات اللازمة قبل عملية تغيير الاعضاء . وسلموا المال الى المختطف , واستعدوا الى اجرى العملية الجراحية , شعرت الطفلة الصغيرة بالخوف والمكيدة التي وقعت فيها , واستعدت للهروب , وسنحت لها الفرصة في التغافل . واندست بين الناس المراجعين في ازدحامهم الشديد على المستشفى ووصلت الى الشاع والخوف يأكل قلبها .
6 – قصة وحمدت الله لاني فقير : تشير الى مضامين الجشع الذي لم يتوقف في الاستحواذ غير المشروع . وهي تحكي بأن فقير جائع رث الملابس يعزف على الربابة بصوته الشجي , فرق لحاله صاحب الدكان واجلسه على دكة الدكان وراح يعزف ويغني على الربابة . ولكن غنائه يتجه الى صوب اخر الى التنبوء والحدس الى صعود اسعار البضائع او نزولها في الاسواق . وكل تنبواءته كانت صحيحة ومضبوطة يسير عليها صاحب الدكان , فحين يعلن بصعود اسعار الفصولياء والعدس بأنها سيرتفع ثمنها , تشحن الهمة بصاحب الدكان ويبيع بما يملك , حتى باع اثاث بيته ليشتري الفصولياء والعدس , وحين اختفت من الاسواق , عرضها في السوق وربح بها ربحاً مضافاً عدة مرات . وحين تنبأ بصعود اسعار السكائر , هب بما يملك ليخزن صناديق السكائر , وبالفعل حين ختفت في الاسواق , عرضها للبيع ليربح بها ربحاً كبيراً . وكذلك الحال للسكر وغيره من البضائع , حتى اصبح اغنى الاغنياء , واشترى افخم السيارات والفلل وتزوج مرة ثانية وثالثة حتى اصبح امبراطور المال . ولكن في احدى الليالي داهمه حلم مرعب , بأن صاحب الربابة يحمل مسدس لقتله , اذا لم يسجل كل امواله وعقاراته بأسمه , وقبل بالعرض حتى لا يموت , لكن صاحب الربابة طلق عليه الرصاص الغزير , ليفز من النوم مرعوباً من الكابوس . لكن وجد نفسه ذلك الفقير الحال , فقد كان حلماً مرعباً في كابوسه .
7 – قصة بستان العاشقين : جلست أمرأة شابة في العمر الخامسة والعشرين تغطي ملامح وجهها الحزن والالم , وقد سمعت حكايات عن هذا المقهى المشبوه السيء السمعة , في اختلاط النساء والرجال بموعد فيه , كأنه بستان العشاق يلتقون فيه , ومن ضمنهم زوجها وهي تشك بأنه لديه عشيقة يتواجدون في هذا المقهى , فطلبت الشاي وحاولت استدراج النادل , ان تستفسر هل زوجها من رواد المقهى , بعدما اعطت اوصافه , حاول النادل بتفادي الحرج بحرف الموضوع , لكنها اصرت بالجواب , واخرجت من محفظتها الجلدية , قنينة دواء مليئة بالحبوب السامة , وهي توجه كلامها الى النادل , بأنها لا يمكن ان تتصور وتتخيل بأن أمرأة تخطف زوجها منها , وهي تحبه حباً شديداً , عرف النادل بأنها مقبلة على الانتحار بلا محالة , فأخترع قصة وهمية , فأخذ النادل قنينة السم وقال هذا الدواء بعينه دمر حياتي الى الجحيم ( “نعم.. نعم.. إنه ذات الدواء , الذي ابتلعت منه كمية كبيرة , بعد ان فشلت في امتحان البكالوريا للمرة الثالثة , وقررت أن أضع حدا لحياتي …” ) قالت متسائلة : ( “يبدو أنه لم يقتلك.. تنهد النادل، ونظر بعينين حزينتين إلى المرأة الشابة : – لو مت في ذلك الوقت لكان ذلك أفضل لي مائة مرة !!.. لقد مزقت هذه الحبوب معدتي , وبقيت تحت رحمة الاطباء , ومشارطهم وخيوطهم يعيدون رتق معدتي , في كل مرة أسقط وأنا بين الموت والحياة , وفي النتيجة النهائية توصلوا إلى منعي عن الأكل طيلة حياتي الباقية .. أتصدقين يا سيدتي إني منذ سنوات مراهقتي أعيش على خمسة ألتار من الحليب يوميا !! ” تساءلت المرأة خائفة : “تعيش على الحليب وحده ؟ !!” ) ص104 . فارتجفت بخوف وقلق وخرجت من المقهى ورمت قنينة السم في اقرب مكب للنفايات
جمعة عبدالله