تعد دولة أفغانستان من أكثر دول العالم الحديث التي عانت من حروب مستمرة لم تنتهِ فصولها حتى الآن، مع مئات آلاف القتلى واللاجئين حول العالم، وعبث دولي ونشوء تنظيمات عابرة للحدود.
ولم يكن معروفاً متى ستنهي الولايات المتحدة واحدة من أطول حروبها في تاريخها المليء بالتدخلات العسكرية، حتى رعت الدوحة مباحثات سلام بين واشنطن وحركة طالبان التي لا تنفك تهاجم الوجود الأمريكي العسكري بأفغانستان.
وفي عام 2001، قادت الولايات المتحدة حرباً على أفغانستان من أجل إنهاء حكم حركة طالبان، وذلك بعد أقل من شهر على هجمات 11 سبتمبر، وحشدت لهذه الحرب جيوشاً من مختلف دول العالم، وعلى رأسها قوات حلف الناتو.
وبعد مرور أكثر من 18 عاماً على تلك الحرب أدركت الحكومة الأمريكية أهمية التفاوض مع حركة طالبان والخروج بمعاهدة سلام من العاصمة القطرية الدوحة تضمن للطرفين تحقيق مطالبهما بعيداً عن الصراعات المسلحة.
تهدئة يعقبها اتفاق
وفي ظل فشل عدة مباحثات سابقة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان عمد الطرفان إلى تفاهم لـ”خفض العنف” بينهما، بداية يوم السبت (22 فبراير 2020)، يستمر لأسبوع، ويمهد لتوقيع اتفاق نهائي.
وأصدر كل من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بالإضافة لحركة طالبان، بيانين أكّدا فيهما توقيع اتفاق سلام في الدوحة، السبت (29 فبراير 2020)، بعد التوصل لتفاهم “خفض العنف”.
وقال بومبيو: إن “محادثات أفغانية داخلية ستبدأ مباشرة بعد توقيع الاتفاق في الدوحة (29 فبراير الجاري)، وذلك من أجل وقف دائم وشامل لإطلاق النار، ووضع خريطة طريق مستقبلية لأفغانستان”.
ورغم أنّ تفاهم وقف العنف شابه بعض المناوشات العسكرية في بعض المناطق منذ يومه الأول فإن حركة طالبان قالت إن ذلك لا ينهي التفاهم مع واشنطن، مؤكدة أن التفاهم لا يشمل عموم أفغانستان.
ونقلت قناة “الجزيرة” عن ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم طالبان، قوله يوم السبت (22 فبراير 2020): إن “بعض المواقع استثنيت من اتفاق التهدئة؛ وهي مراكز الولايات، والطرق العامة، ومقار الجيش الأفغاني والقوات الأجنبية”.
وأردف مجاهد أن أيّ هجوم من مقاتلي الحركة في هذه المناطق لا يعد خرقاً للتهدئة؛ لأن وقف إطلاق النار لا يشمل عموم أفغانستان.
كما قال عضو المكتب السياسي لطالبان سهيل شاهين، إن هناك أطرافاً تسعى لإفشال اتفاق السلام مع الولايات المتحدة، مؤكداً التزام الحركة باتفاق التهدئة المعلنة بسبب سيطرتها على 70% من البلاد، بحسب المصدر نفسه.
وأضاف: “قد تكون هناك أطراف تسعى لإفشال الاتفاق، لكنها ليست قادرة على الإضرار بعملية السلام”.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يريد أن يوقع الاتفاق مع طالبان في الفترة الحالية، ما سيزيد من حظوظه في تجديد فترة حكمه بانتخابات 2020 في نوفمبر المقبل، خصوصاً أن انسحاب جيش بلاده من أفغانستان هو واحد من أبرز وعوده الانتخابية.
فقد أعلن ترامب بعد يوم من سريان التفاهم أنه “سيوقع اتفاق سلام مع طالبان حال أدت المفاوضات إلى إنهاء الحرب في أفغانستان”.
وقال للصحفيين أمام البيت الأبيض، يوم الأحد (23 فبراير 2020): إن “الشعب الأفغاني ومقاتلي طالبان تعبوا من القتال”.
إلا أن ترامب لم يحدد بالضبط ما هو الاتفاق الذي هو مستعد لتوقيعه، حيث أوضح أن القرارات تعتمد على التقدم الذي يتحقق أثناء فترة خفض العنف، مضيفاً: “فترة الهدوء صامدة ليوم ونصف اليوم وسنرى ما سيحدث”.
ومن المرجح أن يؤدي اتفاق السلام إلى تبادل للأسرى، حيث يوجد أكثر من خمسة آلاف أسير لحركة طالبان، وقرابة ألف للحكومة الأفغانية، وهو أمر لا خلافات عليه.
في حين أن الخلاف السابق يتركز بخصوص الانسحاب الكلي أو الجزئي للقوات الأمريكية من الأراضي الأفغانية، حيث تصر واشنطن على انسحاب جزئي لقواتها مع ضمانات أمنية بعدم استخدام أفغانستان كمنصة لمهاجمة أي من مصالحها، في حين تطالب طالبان بانسحاب كلي، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”.
ولا يعرف ما هي البنود التي خلص إليها الطرفان خلال المحادثات الأخيرة، خصوصاً مع وجود قرابة 13 ألف جندي أمريكي في أفغانستان.
في الوقت ذاته شهدت الأوساط الشعبية الأفغانية ترحيباً واسعاً بالتفاهم المبرم بين واشنطن وطالبان لتهدئة العنف، وانتشرت وسوم تؤيد استمراره على مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية “فرانس برس”.
وقال الشاعر الأفغاني المعروف رامين مظهر للوكالة: “في السنوات الخمس عشرة الماضية لم يتمكن السكان من السفر على الطرق بأمان، كانت حركة طالبان توقفهم أو تقتلهم أو تخطفهم”، مضيفاً أنه “إذا استمر الحد من العنف فسيذهب إلى نورستان، وهي مقاطعة يصعب الوصول إليها في شمال شرقي أفغانستان”.
لماذا تفاوض واشنطن طالبان؟
وقال أسامة أبو أرشيد، المحلل والباحث المختص بالشأن الأمريكي: إن “سبب لجوء الولايات المتحدة إلى المفاوضات يتمثل بعدة أبعاد؛ أولاً لأن ترامب وعد في حملته الانتخابية عام 2015 بأنه سيوقف التورط الأمريكي في الخارج، وركز بالدرجة الأولى على التورط الأمريكي بأفغانستان باعتبارها أطول حرب أمريكية إلى اليوم، فهو إيفاء بوعد رئاسي لحرب مكلفة إنسانياً ومادياً ومعنوياً للشعب الأمريكي”.
وأضاف في حديث مع “الخليج أونلاين” أن البعد الثاني يتمثل بأن المسألة ليست متعلقة بإدارة ترامب فقط، بل إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما حاول أن ينهي التورط الأمريكي بأفغانستان وخفض عدد القوات الأمريكية بشكل كبير، لكنه واجه ممانعة من داخل المؤسسة العسكرية، الأمر الذي أبقى القوات عند 12 ألف جندي، وكانت مهمتهم تدريب القوات الأفغانية والتصدي للقاعدة بدل المواجهة المباشرة مع طالبان، لكن أوباما لم يستطع أن ينهي الحرب، وإدارته هي التي أشارت على قطر بافتتاح مكتب لطالبان بالدوحة، وهي التي تتعامل معه إدارة ترامب اليوم”.
ويعتقد أبو أرشيد أن “البعد الأهم في المسألة هو دخول الولايات المتحدة في حرب دون خطة واضحة للانتقام من القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر؛ فأسقطت حكومة طالبان، لكن كان هناك غياب كامل لفهم المجتمع الأفغاني وتفاعلاته الداخلية، ما عقد من الأزمة الأمريكية في أفغانستان، وهي معركة لا أفق لها ولا يمكن الانتصار عسكرياً فيها”.
ويعتبر الباحث الأكاديمي أن طالبان استطاعت منطقياً أن تفرض على قوى عظمى أن تعترف بوجودها، وأن تجلس إليها في مفاوضات، وأن تعترف بأنها هي من تمتلك خيوط الحل في أفغانستان، وتفاوض واشنطن مع طالبان دون وجود الحكومة الأفغانية المعترف بها دولياً يؤكد أن طالبان عملياً هي من تملك القوة في البلاد.
وأشار إلى أنه “بحسب الاتفاق المقترح ستقوم الحكومة الأفغانية بإجراء حوار بعد تحقق الاتفاق بين طالبان وواشنطن، فطالبان هي المستفيدة، خصوصاً أن الحكومة الأفغانية مشكوك بشرعيتها ونزاهتها، وتواجه اتهامات تزوير الانتخابات”.
من جهته يقول المحلل السياسي مفيد مصطفى، إنه بالرغم من وجود ارتياب كبير في نجاح الاتفاق بين طالبان والولايات المتحدة، فإن حظوظ نجاحة هذه المرة تبدو أكبر؛ لأن كلا الطرفين له مصلحة بذلك، فرئيس الولايات المتحدة يريد تنفيذ التزامه بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان واستثمار هذا الانسحاب بحملته الانتخابية المقبلة، وعلى الجانب الآخر تريد طالبان أن تسجل انتصاراً أمام الشعب الأفغاني على أمريكا، حيث بدأت تسوق للاتفاق على أنه انتصار لها على القوات الأمريكية.
ويضف في حديث لـ”الخليج أونلاين”: “يمكن القول إن الجزء الأصعب من الاتفاق هو المرحلة الثانية التي تتمثل بالمفاوضات الأفغانية-الأفغانية بين طالبان والحكومة الأفغانية، حيث سيتعين على الطرفين معالجة الكثير من الأسئلة الشائكة حول كيفية تقاسم مسؤوليات السلطة والأمن، وكيفية تعديل هياكل الدولة لتلبية كل من مصلحة الحكومة في الحفاظ على النظام الحالي ومصلحة طالبان في نظام يحمل صبغة إسلامية، وهنا لا بد من مبعوث سلام غير أمريكي مقبول من الطرفين للوقوف على التفاوض”.
جهود قطر يسجلها التاريخ
ورغم تعثر التوصل لاتفاق ينهي حالة الحرب المتواصلة في البلاد لأكثر من مرة خلال العام الماضي، فإن قطر بذلت جهوداً واسعة لتحقيق الاتفاق عبر دبلوماسية باتت معروفة في الفترة الأخيرة.
وفي الربع الأخير من عام 2019، بدت المحادثات تسير نحو أفق مسدود؛ بسبب بلوغ المواجهات مستوى قياسياً، وفق تقارير أمريكية رسمية، إلا أن تحركاً في الملف أعاد واشنطن وطالبان إلى طاولة المفاوضات في الدوحة.
ومنذ عام 2012، تجرى مباحثات سرية بين الطرفين في عدد من دول العالم، منها السعودية والإمارات وباكستان وروسيا، لكن النتائج الأخيرة التي تكللت بالنجاح جاءت من العاصمة القطرية الدوحة.
فبعد مرور عام ونيف على المفاوضات المباشرة بين الجانبين توافق الطرفان على تفاهم خفض العنف، الذي يبدو وفق التصريحات ذات السقف المرتفع أنه سيكلل باتفاق تاريخي ينهي أطول حرب أمريكية في تاريخها، مع تدوين ذلك في سجل قطر الدبلوماسي الصاعد بقوة في المنطقة بالإضافة للعالم.
وشكرت الولايات المتحدة أكثر من مرة قطر على دورها في محادثاتها مع طالبان، ودعمها سبل إنهاء الحرب في البلاد التي تعاني منذ 19 عاماً.
وقالت في آخر بيان لسفارتها في الدوحة: “نشكر دولة قطر على دورها الفاعل الذي استمر أشهراً طويلة من المحادثات مع طالبان، وهو ما توج بالاتفاق لإنهاء حالة عدم الاستقرار في أفغانستان”.
في المقابل قدم المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة “طالبان” سهيل شاهين شكره لدولة قطر؛ لمساهمتها في التوصل إلى هذا الاتفاق.
وبيّن الباحث أسامة أبو أرشيد لـ”الخليج أونلاين” أن “دور قطر في المفاوضات هو أنها هي من سهلت الحوار بين طالبان وواشنطن، وعملت على تذليل العقبات وتجسير هوة الخلافات، ولا شك في أن الدوحة أدت دوراً محورياً لكنه ليس مباشراً في المفاوضات؛ إنما تنظيمياً بالدرجة الأولى، والحديث مع طالبان لتخفيف العقبات”.
ويشاطره مفيد مصطفى الرأي بالقول: “قطر أدت دوراً مهماً جداً في الاتفاق، حيث إنها منذ البداية كسرت حاجز الجليد بين طالبان والولايات المتحدة؛ بفتحها مكتباً للحركة في الدوحة، وكان من المستحيل سابقاً تخيل مفاوضات مباشرة بين الطرفين”.
وتابع حديثه لـ”الخليج أونلاين”: “إصرار الدوحة على نجاح الاتفاق يعود لباعها الطويل في اتفاقات السلام والتهدئة؛ حيث قادت على سبيل المثال مفاوضات دارفور لسنوات، وأوقفت حرباً أهلية في لبنان عبر اتفاق الدوحة في العام 2007، وليس مستبعداً أن تكون الدوحة قد عملت من وراء الكواليس مرات عدة للعودة إلى طاولة التفاوض”.
وبيّن قائلاً: “لا شك في أن نجاح الاتفاق سيشكل انتصاراً دبلوماسياً لقطر، وسيعيد اسمها للواجهة كوسيط مهم في حل النزاعات، في الوقت الذي سعت فيه الدول المحاصرة عبر إعلامها لإلصاق تهمة تمويل الإرهاب بها بعد الأزمة الخليجية، بل يمكن القول إن هذا الاتفاق سيكون أبرز إنجاز دبلوماسي لقطر، حيث سيوقف حرباً دموية امتدت 19 عاماً”.
ويعد التوصل لاتفاق سلام من هذا النوع إنجازاً كبيراً للسياسة الخارجية القطرية، في استطاعتها رعاية محادثات كهذه بين قوة عالمية كالولايات المتحدة، وتنظيم محلي يسيطر على أكثر من نصف مساحة أفغانستان.
كما يبرز الدور الإنساني للدوحة في سعيها لإنهاء واحدة من أكثر الحروب ضراوة خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً مع توثيق الأمم المتحدة لتجاوز “عدد الضحايا في صفوف المدنيين الـ100 ألف في السنوات العشر الماضية فقط، منذ بدأت بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة في أفغانستان (يوناما) تسجيل الضحايا المدنيين بشكل منتظم”.
وتؤكد الأمم المتحدة أن عام 2018 –قبل بدء المحادثات في الدوحة- كان الأكثر دموية منذ بدء تسجيل الضحايا، حيث لقي 3804 مدنيين حتفهم من جراء الحرب، بينهم 927 طفلاً.
ويعتبر نجاح هذا الاتفاق خلال الأيام القادمة انتصاراً جديداً للجهود القطرية، التي خفضت من حجم التوتر الأمريكي مع إيران في منطقة الخليج بعد مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، في يناير 2020.
واستكمالاً لأياديها البيضاء في السودان، حيث نجحت في وقف العنف والقتال بدارفور بتوقيع اتفاق “سلام دارفور” بالدوحة، في مايو 2011، إضافة إلى وساطاتها في سوريا ولبنان وليبيا واليمن وجيبوتي وفلسطين المحتلة.