قبل ستينيات القرن الماضي، احتاج صغار السن لأعجوبة للنجاة من أحد أمراض الطفولة المتفشية بالعالم، خاصة في الدول النامية. ويصاب سنوياً نحو 250 ألف طفل بمرض النكاف الفيروسي الذي يسبب انتفاخاً وأوجاعاً بالغدد اللعابية. لكن بفضل تقدم العلم وظهور التطعيم، تراجع عدد الأطفال المصابين بهذا المرض سنوياً لأقل من 5 آلاف. كما عرف العام 1964 ظهور موجة مرض الحميراء التي أصابت حوالي 12.5 مليون شخص حول العالم فتسببت بوفاة آلاف الأطفال وتركت آخرين مشوهين.
إلى ذلك، لم ترحل مثل هذه الأمراض بمفردها بل احتاجت لمجهود جبار من عالم الميكروبيولوجيا الأميركي، موريس هيلمان، الذي عمل على إنهاء وجود مثل هذه الأمراض التي تسببت بوفاة أعداد هائلة من الأرواح البشرية على مر التاريخ. ولحين وفاته عام 2005 عن عمر يناهز 85 سنة، قدم هيلمان خدمة عظيمة للإنسانية عن طريق إسهامه في تطوير أكثر من 40 لقاحاً ضد أمراض عديدة كالحصبة والنكاف والحميراء وجدري الماء.
ومنذ طفولته المبكرة، عاصر هيلمان وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي تسبب بوفاة ما يقارب 5% من سكان العالم، حيث شاهد تأثير هذا المرض بولاية مونتانا التي انحدر منها. وأثناء فترة تواجده بالمدرسة، وقع هذا العالم بمشاكل عديدة مع عائلته المتدينة ومحيطه بسبب توجهه لقراءة الكتب العلمية، خاصة كتاب “أصل الأنواع” لتشارلز داروين.
عام 1941، التحق هيلمان بجامعة شيكاغو واتجه لدراسة علم الفيروسات وحقق اكتشافاً علمياً مذهلاً منذ بدايته عقب حديثه عن البكتيريا المسببة للكلاميديا وإمكانية الشفاء من هذا المرض.
وبدل التدريس بالجامعة، فضّل الالتحاق بالصناعة الصيدلية فعمل لصالح مؤسسة E. R. Squibb & Sons عام 1944 وابتكر خلال نفس الفترة تطعيماً ضد مرض التهاب الدماغ الياباني أنقذ بفضله حياة الجنود الأميركيين الذين عانوا من هذا المرض أثناء قتالهم على ساحة المحيط الهادئ في خضم الحرب العالمية الثانية.
مع انتشار الإنفلونزا الآسيوية ومشاهدته لصور أطفال هونغ كونغ المرضى بإحدى المجلات، تمكن هيلمان، مع العديد من زملائه، من ابتكار تطعيم أنقذ حياة الكثيرين من هذا المرض. وعلى الرغم من وفاة 70 ألف أميركي حينها، يقول بعض الأخصائيين إن التطعيم قد أنقذ ما يزيد عن مليون أميركي أثناء موجة إنفلونزا هونغ كونغ عام 1968.
أثناء عمله لصالح مؤسسة Merck، أصيبت ابنة هيلمان عام 1967 بمرض النكاف، فعمد لجمع جانب من لعابها ومخاطها الذي احتوى على الفيروس ليباشر بإجراء تحاليل وتجارب بمختبره انتهت بحصوله على التلقيح الملائم المضاد لهذا المرض. وفي الفترة التالية، لم يتردد العالم الأميركي في تجربة اللقاح على ابنته الصغرى الأخرى كريستن، حيث كانت حينها من ضمن أول الأشخاص الذين حصلوا على هذا التطعيم.
وبجدول التلقيح المعاصر للإنسان والذي يضم عادة 14 لقاحاً، ساهم هيلمان في تطوير 8 منها، وهي تلك المضادة لكل من الحصبة والنكاف والحميراء وجدري الماء والتهاب السحايا والالتهاب الكبدي أ والالتهاب الكبدي ب والمستديمة النزلية.
من جهة ثانية، انتقدت العديد من الشخصيات الأميركية البارزة تجاهل الإعلام لهذا الرجل الذي لقّب بالبطل، حيث أعرب العديد منهم عن استيائهم لتحقيق مغنين وممثلين لشهرة لا حدود لها مقابل ضياع اسم موريس هيلمان، الذي أنقذ البشرية من أمراض مميتة، في طيات التاريخ.