نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الاميركية تحقيقا موسعا عن العراق سردت فيها تفاصيل مذهلة عن سلطة الميليشيات والفساد في هذا البلد وقدرتها على التحكم بمصيره.
التحقيق الذي ترجمته وكالة شفق نيوز. حمل عنوان “داخل الكليبتوقراطية العراقية”.
واستهلت الصحيفة الأميركية تحقيقها برواية عن اللبناني حسين لقيس، رجل الأعمال الذي يعمل في العراق منذ العام 2011، ولديه شركة تدعى “بالم جيت” كانت مرتبطة بعقد عمل مع الحكومة العراقية لادارة مدرج مخصص للشخصيات المهمة في مطار بغداد الدولي. وفي بداية شهر تشرين الاول/اكتوبر 2019، جاءه اتصال من رجل مجهول فرض عليه اللقاء به لان لديه عرض عمل معه، وعرف عن نفسه انه يمثل كتائب حزب الله.
وعندما التقاه في شارع السعدون، قال له الرجل “عليك ان تعمل معنا، لا خيار آخر. وبامكانك الاحتفاظ بأشيائك، لكن عليك ان تنفذ ما نقول”، وان العرض يتمثل بان تستحوذ الكتائب على 50 في المئة من ارباحه، وانه اذا لم يتفق مع الكتائب، فانه سوف يسلبه كل ما يملك في بغداد، وامهله الى اليوم التالي للرد.
وفي اليوم التالي، وبينما كان حسين لقيس يرتشف قهوته في مقهى تابع لفندق في المطار، توقفت خمس سيارات شيفروليه امام مدرج ال “VIP ” وخرج منها 12 رجلا مسلحا. كان لقيس قد اجرى اتصالات عديدة بمسؤولين عراقيين بالاضافة الى مسؤولي المطار، في الليلة السابقة يطلعهم على ما جرى معه. لكن أحدا لم يتصل به منهم. وبحسب الصحيفة الاميركية، فهم اما تم تحذيرهم، او شراء صمتهم.
صادر المسلحون هاتف لقيس وطلبوا منه التوقيع على وثيقة يتنازل فيها عن عقده المبرم مع الحكومة. تردد قليلا، لكنه وقع عليها مرغما. كان لقيس يدرك ان العراق يعاني من الجريمة والفساد، لكنه كان يعتقد ان المطار الذي يعج فيه المئات من المسؤولين الأمنيين، كان مكانا مختلفا.
ونقلت “نيويورك تايمز” عن لقيس قوله “انتظرت 20 دقيقة لعل أحد سيأتي. الشرطة، اي كان”. وفي نهاية الأمر وقع على الوثيقة وتوجه الى قاعة السفر واستقل طائرة مسافرة الى دبي. وبعدها بأيام، نصبت الكتائب خليفته المتعاقد مع الحكومة. ولم يعد لقيس الى العراق ابدا.
وكان ذلك قبل أربعة ايام فقط من اندلاع التظاهرات الشعبية في العراق، وبالنسبة الى الذين شاركوا في الاحتجاجات فان جماعات مثل كتائب حزب الله ليس مجرد قوة تابعة لايران، بل انها تمثل الوجوه الجديدة للكليبتوقراطية التي أثرت نفسها على حساب شبان العراق الذين تركوا للبطالة والعوز باعداد متزايدة.
والتحق بعض قادة الميليشيات بصفوف اكبر اغنياء العراق، واشتهروا باستحواذهم على مطاعم وملاه ليلة ومزارع على ضفاف نهر دجلة. وتلقت الميليشيات الدعم والمساعدة من طبقة سياسية جديدة هدفها الوحيد الاثراء الشخصي. وعلى مر السنوات، امتهنت هذه الفئة كل انواع الاحتيال، وحاول رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي الذي وصف بانه اصلاحي محتمل عندما تولى رئاسة الحكومة العام 2018، ان يخضع الميليشيات لسلطة الدولة، لكنها تغلبت عليه.
والولايات المتحدة متورطة في كل ذلك، وليس فقط لانها غزوها للعراق حطم هذا البلد ودمر اقتصاده. الولايات المتحدة تقدم الاموال التي تبقه قائما، فالمجلس الاحتياطي الفدرالي الاميركي في نيويورك يوفر للعراق سنويا ما لا يقل عن عشرة مليارات دولار من مبيعات نفطه، غالبيتها يذهب الى بنوك تجارية لاهداف مخصصة لاستيراد حاجات العراق، وهي عملية استولى عليها كارتيلات تبييض الاموال منذ زمن طويل. وفي الوقت نفسه، فان واشنطن تفرض عقوبات على دولتين هما ايران وسوريا اللتين يتشارك العراق معهما بحدود هشة. انها الوصفة المثالية لارضية تغذي الفساد.
وتدرك الفصائل الموالية لايران انه على الرغم من اغتيال الاميركيين لقائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني، الا ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، لا يرغب بحرب خصوصا في ظل وباء كورونا الذي يسبب عجزا في الميزانية، ولهذا فانها ليست قلقة. وان أولويتها الكبرى تتمثل في الحفاظ على نظام عراقي يجيز حرفيا عرض بيع كل شيء.
ومع وصول العراق الى شفير مرحلة الازمة الوجودية بسبب الوباء آثاره الاقتصادية، فان امام رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي فرصة استثنائية لمواجهة اكثر ازمات العراق صعوبة، اي الفساد، اذ بامكانه ان يصور قضية الفساد على انها مسألة حياة او موت، وان على العراق ان يختار ما بين اطعام شعبه او اثراء الكليبتوقراطية. ومن غير المرجح ان ينجح الكاظمي ما لم تستغل الولايات المتحدة الفرصة ل وتغيير الضرر الذي الحقته بالعراق وايجاد قضية مشتركة مع المتظاهرين العراقيين الذين يأملون باعادة بناء دولتهم.
ولدى الولايات المتحدة تاريخ طويل بدعم الكليبتوقراطيين الذين وقفوا في “الجانب الصحيح” في صراع جيوبوليتيكي ما، وقبلت بتسويات معهم، وهو ما تسبب بالكثير من الدم واثار تداعيات. وقالت سارة شياس التي الفت كتابا تحت عنوان “لصوص الدولة” الذي يوثق الاثار المدمرة للفساد في العديد من الدول في اسيا وافريقيا، ان “الفساد لا يمثل فقط مشكلة سياسية جوهرية، لكن المحرك الاساسي لغالبية المشكلات الامنية التي يفترض ان نحاول مواجهتها”.
وبينما كان الفساد محدودا في عهد صدام حسين خلال الثمانينيات، فان التغيير جاء خلال التسعينات عندما فرضت الامم المتحدة عقوبات على العراق بسبب غزو صدام حسين للكويت، وخلال فترة سبعة اعوام، تراجع دخل الفرد الى 450 دولارا من 3500 دولار. وطالما انهارت قيمة رواتبهم، فان مسؤولي الحكومة بدأوا يتلقون الرشاوى، وتفاقم الامر أكثر بعد الغزو الاميركي العام 2003، عندما بدأ الاميركيون يوزعون كوبونات بقيمة مئة دولار في محاول لكسب اصدقاء وتحريك الاقتصاد. ودخلت مجموعة جديدة من الانتهازيين بمن فيهم العراقيون المنفيون الذين اصطفوا من اجل الفوز بعقود حكومية ضخمة. وتبخرت مليارات الدولارات، وتوسعت السرقة بمستوى كبير بعد الطفرة النفطية في العام 2008، بفضل شبكة الاوليغارشية التي قواها رئيس الوزراء نوري المالكي.
وعندما صعدت داعش في منتصف العام 2014، كانت قوة الجيش العراقي المفترضة 350 الف عسكري، لكنها في الواقع كانت تضم جنودا اشباح لا وجود لهم مسجلين في صفوفها ليتسنى للضباط الاستيلاء على رواتب مئات والاف الجنود، وهو ما حطم معنويات الجيش وعزز النقمة بين اهالي الموصل.
وفي ظل انعدام المصادر الموثوقة للحصول على معلومات على الثروة الوطنية التي سرقت، فان المعلومات المتوفرة تشير الى انها هربت الى الخارج بنسبة اكبر من اي بلد آخر. واشار سياسي عراقي عتيق لمؤسسة “مجلس اتلانتيك” البحثية مؤخرا ان ما بين 125 مليار دولار و150 مليار دولار يمتلكها عراقيون في الخارج، غالبيتها تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة. كما اشار الى وجود تقديرات اخرى بان الرقم يصل الى 300 مليار دولار، وان 10 مليارات دولار من الاموال المنهوبة، تم استثمارها في القطاع العقاري في لندن وحدها.
وهناك اتفاق غير مكتوب للتحاصص، فالصدريون يحصلون على وزارة الصحة، ومنظمة بدر حصلت لفترات طويلة على وزارة الداخلية، والحكمة يحصل على وزارة النفط. والوزراء الجدد يواجهون احيانا صعوبة في التأقلم مع هذا الوضع القائم. وزير سابق من التكنوقراط امضى عقودا طويلة في الخارج، اكتشف عندما تولى حقيبته الوزارية، ان وزارته تشتري ادوية عقار وفق عقد قيمته 92 مليون دولار، لكنه توصل الى طريقة اخرى لشراء الادوية نفسها باقل من 15 مليون دولار. وقال “عندما قمت بذلك، واجهت قدرا هائلا من المقاومة، وحملة شعواء ضدي”.
وبينما كان من المفترض ان منظومة الفساد هذه ان تتلقى صدمة بعدما كادت داعش في 2014 تستولي على البلد، الا انها في المقابل، كانت النتيجة الرئيسية صعود شريحة جديدة من المنتفعين، اي الميليشيات التي ساهمت في الحاق الهزيمة بداعش، والتي تعرف باسم الحشد الشعبي التي من بين ابرز فصائلها كتائب حزب الله التي “اقامت امبراطورية اقتصادية، جزئيا من خلال شق طريقها الى الاعمال الشرعية والعقود الحكومية” بحسب مايكل نايتس، الباحث في معهد واشنطن.
وتمكنت الكتائب بالاضافة الى عصائب اهل الحق من السيطرة تدريجيا على مطار بغداد من خلال ادخال عمال موالين لهما للعمل هناك تدريجيا، واجبرا شركة “جي فور اس” البريطانية التي لديها عقد طويلة الامد مع الحكومة لادارة امن المطار، لتوظيف الموالين لهما هناك. وكنتيجة لذلك، فان للفصيلين قدرة على الوصول الى كل كاميرات المراقبة في المطار والى طريق الكيلو 1 الذي يربط المدرجات بالمطار، ويتخطى الحواجز الامنية. وهناك جرى اغتيال قاسم سليماني ما ان خرج من الكيلو 1.
وفي الواقع، فان الميليشيات تدير دولة موازية، ولديها وجود في كل المناطق الحدودية تقريبا وتسيطر على الموانئ الجنوبية منذ اكثر من عقد، ولديها لجان اقتصادية في بغداد ليتسنى للشركات الاجنبية ابرام صفقات عبرها متخطية مؤسسات الدولة الشرعية.
وقال مسؤول في المطار “لو استوردت سيارات من دبي، من خلال القنوات الشرعية فقد يتطلب الامر شهرين لانهاء المعاملات، واذا دفعت لكتائب حزب الله لنقل 10 الاف الى 15 الف دولار، فقد يستغرق الامر يومين”.
وهناك رجال اعمال اثروا على حساب بلدهم. وخلال الاعوام الماضية حكام المحافظات انتخبوا من خلال صفقات ورشاوى دفعها رجال اعمال باعتبار ان المحافظين لديهم سلطة كبيرة على ابرام العقود في محافظاتهم، فتكون لديهم الافضلية لنيل الصفقات.