تسبب تأخر وانقطاع المرتبات بخروج تظاهرات في بلدات وقرى في السليمانية لأيام متتالية ضد سلطات إقليم كردستان وأحزابه الكبرى، لكن خبراء يقولون إن الأزمة أعمق ذلك بكثير، فهل يشهد إقليم كردستان العراق “ربيعا كرديا”؟
تعد محافظة السليمانية في إقليم كردستان العراق عادة من أكثر المناطق أماناً في العراق. ولكن خلال الأسبوع الماضي، اجتاحت السليمانية احتجاجات عنيفة تخللها حرق مبان حزبية، وفي المقابل فرضت السلطات حظر التجول والسفر وتم قطع خدمة الإنترنت.
ومنذ أوائل شهر كانون الأول/ديسمبر الحالي ينظم السكان المحليون في هذا الجزء من المنطقة الشمالية المتمتعة بالحكم الذاتي في كردستان العراق احتجاجات مناهضة للحكومة المحلية، بدأت لأن السلطات المحلية لم تدفع كامل رواتب موظفي القطاع العام منذ شهر نيسان/أبريل الماضي.
والاحتجاجات مستمرة رغم حظر التظاهرات. وتظاهر الجمعة (11 كانون الأول/ديسمبر 2020) مئات الأشخاص أمام مبنى محافظة السليمانية.
واتسمت تظاهرات الأسبوع الماضي بالعنف. وأضرم المتظاهرون، الذين يتهمون الساسة المحليين بالفساد والاختلاس والمحسوبية، النار في مقار الأحزاب السياسية المختلفة – ولم يبدُ على المتظاهرين بأنهم يهتمون لمن تعود مقرات هذه الأحزاب، إذ أحرقت مقار أحزاب غير مشاركة في الحكومة المحلية.
وحسب مصادر عدة، فقد استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والذخيرة الحية ضد المتظاهرين وقامت باعتقالات عديدة. وبحلول صباح الجمعة، لقي 10 أشخاص مصرعهم، من بينهم صبي يبلغ من العمر 16 عاماً، وأصيب حوالي 65 بجروح. وفُرض حظر تجول وحظر سفر بين مدن محافظة السليمانية وألقى رئيس وزراء كردستان العراق مسرور بارزاني كلمة اتهم فيها “قوى خارجية” بالتسلل إلى وسط المحتجين. وتعرض صحفيون للمضايقة، وتم حجب الإنترنت، وحُجبت مواقع التواصل الاجتماعي.
تبادل الاتهامات بين أربيل وبغداد
وأعرب الرئيس العراقي برهم صالح ، والذي يشغل منصبه في العاصمة بغداد، ولكنه ينحدر من السليمانية، عن قلقه إزاء هذه التطورات، كذلك فعلت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) وممثلا الحكومتين الفرنسية والبريطانية.
وأسباب عدم دفع الرواتب للموظفين معقدة وهي جزء من المشاكل السياسية المتراكمة لسنوات. إذ يكسب العراق تقريبا كل عائداته الوطنية من مبيعات النفط، ومن المفترض أن تعيد سلطات إقليم كردستان ومقرها العاصمة الإقليمية أربيل، الأموال من مبيعات النفط في منطقتها، إلى الخزينة الوطنية في بغداد. وفي المقابل، يترتب على الحكومة الفيدرالية في بغداد أن تمنح الأكراد نصيبهم من الميزانية الوطنية، والتي يمكنهم من خلالها دفع الرواتب.
ومع ذلك، لم تنجح هذه الاتفاقية على الإطلاق، حيث يتهم كل طرف الطرق الآخر بارتكاب مخالفات. وتقول بغداد إن أربيل كانت تستفيد من صفقات النفط لصالحها، ومن الجانب الآخر تقول أربيل إن بغداد تحجب الأموال لأسباب سياسية وتلقي اللوم على الحكومة الفيدرالية في عدم صرف الأموال.
وما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو ما يتعلق بالوضع السياسي في كردستان العراق، لأن كردستان العراق مقسمة بين الحزبين السياسيين الرئيسيين: الحزب الديمقراطي الكردي، أو الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل، والاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية.
الحزبان يختلفان في العديد من القضايا، وسبق أن تقاتلا في حرب أهلية في تسعينات القرن الماضي. ومن ضمن نقاط الاختلاف بينهما هي طريقة التعامل الأفضل مع بغداد.
والتنازلات والاتهامات المتبادلة كانت تؤثر منذ سنوات على أسس العلاقة بين بغداد وكردستان العراق. وليست هذه هي الاحتجاجات الأولى من نوعها في كردستان العراق أيضاً.
تناغم بين تظاهرات بغداد والجنوب وتظاهرات كردستان
ومع ذلك، يتفق السكان المحليون والمراقبون على أن هذه الجولة من الاحتجاجات مختلفة عما سبقها.
هناك جيل جديد من الشباب يريد الدخول سوق العمل، وغالباً لا يجد هؤلاء وظائف لهم. ويشير الصحفي المحلي زانكو أحمد لـ DW إلى إن هؤلاء هم الذين شاركوا في هذه الاحتجاجات.
ويقول إن “معظم الموجودين في الشارع هم من الشباب”. وإن “كثيرين منهم ليسوا حتى موظفين في الدولة. في الانتخابات السابقة، كان الشباب يعبرون عن غضبهم من خلال صناديق الاقتراع. ولكن الآن لا توجد أحزاب معارضة فعالة. لذا فهم يعبرون عن غضبهم بحرق مقار الأحزاب السياسية وحتى منازل المسؤولين”.
يؤكد زانكو أحمد أن هناك بالتأكيد صلة بالاحتجاجات المناهضة للحكومة الفيدرالية والتي جرت في بغداد وفي جنوب العراق. “إنهم عامل مساعد. الأسباب متشابهة تقريبا”.
ويؤيد استطلاع للرأي أجراه معهد “تشاتام هاوس” للسياسات الذي مقره لندن تلك الصلة. ويشير ريناد منصور، مدير مبادرة العراق في المعهد، إلى أنه “حتى في السليمانية كان هناك تعاطف كبير مع المحتجين في جنوب العراق”.
وما هو مختلف الآن بين التظاهرات في كردستان العراق ووسط وجنوب العراق هو الظروف. ويقول منصور: “التركيبة السكانية والاقتصاد يجعلا هذا الأمر أشبه بعاصفة”.
صعوبات اقتصادية
المشاريع الخاصة قليلة نسبياً في العراق، وتعد الحكومة رب العمل الرئيسي للسكان. وتقدر الرواتب ومدفوعات الرعاية الاجتماعية بحوالي 80٪ من إجمالي الإنفاق الحكومي.
يوضح ريناد منصور أن انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014 والتغيرات الديموغرافية التي ستضيف أكثر من مليون باحث جديد عن عمل على مدى السنوات القليلة المقبلة في كردستان العراق، تعني أن ميزانيات الحكومة الإقليمية صغيرة جداً ولا تكفي لمواكبة التغييرات. يضاف إلى ذلك انتشار وباء كورونا الذي أثر بشكل كبير على الاقتصاد المحلي، وهو ما يعني أنه لم يعد من الممكن شراء ولاء المواطنين عبر توظيفهم بوظائف حكومية.
يقول منصور: “لا تستطيع (السلطات) استخدام الأيديولوجيات القديمة – القومية الكردية أو الولاءات الحزبية – لذا قد تعتمد على شكل من أشكال القمع. وهذا ما بدأنا نراه”.
ويوافق زمكان علي سليم، كبير الباحثين في معهد الدراسات الإقليمية والدولية في السليمانية، على أن “المتظاهرين يفقدون الثقة في النظام”. “إنهم يرون آبائهم يكافحون من أجل وضع الخبز على المائدة، فهم يتفهمون الفجوة بينهم وبين النخب، وهم غاضبون جداً جداً”.
ربيع كردي؟
فهل يمكن أن تكون هذه بداية لحركة أكبر شبيهة بالاحتجاجات المستمرة في بغداد، “ربيع كردي” كما وصفها البعض؟
يشير السكان المحليون إلى أنه حتى الآن، اقتصر الصراع على منطقة السليمانية التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني. وكانت هناك دعوات لتوسيع الاحتجاجات إلى المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، وإذا حدث ذلك، فقد يكون لذلك تأثير أكثر خطورة، كما يقولون.
ويوضح زمكان علي سليم: “لكن في الوقت الحالي، هذه الحركة عفوية وبلا قيادة”، و”يمكن أن تتوسع، أو قد تموت”. في الواقع، يشير سليم إلى أن بعض الرواتب المستحقة قد تم دفعها بالفعل للعاملين في المجال الطبي والأمني، والمعلمين بعد ذلك.
لكن سليم يخلص إلى القول: “أعتقد أن الأمر تجاوز الرواتب الآن. الناس هنا عازمون على الاحتجاج”.
كاثرين شير/زمن البدري