الثلاثاء, ديسمبر 24, 2024
Homeمقالاتعن ملحمة قرية سيريا وتصدي الشيوعيين لجرائم الأنفال : نجم خطاوي

عن ملحمة قرية سيريا وتصدي الشيوعيين لجرائم الأنفال : نجم خطاوي

في مثل هذه الأيام وبالتحديد في 28 آب، يكون قد مر 33 عاماً على تلك الملحمة البطولية التي خطها أنصار الحزب الشيوعي العراقي في 28 آب 1988 فوق سفوح قرية سيريا المطلة على نهر الشين في منطقة بهدينان في كوردستان العراق، وهم يتصدون وببسالة لجحافل قوات سلطة نظام العصابة المقبور أثناء هجومها الإجرامي ضد قرى وقصبات كوردستان العراق، والذي أطلقوا عليه اسم عمليات الأنفال، وهو الهجوم المشئوم الذي نفذت فصوله بعد توقف العمليات العسكرية بين ايران والعراق في 20 أب 1988.
في منتصف آب 1988 تقريباً، تحركنا كمفرزة أنصارية من منطقة قرية (بركه) المهجرة والقريبة من مناطق حرير وشقلاوة، والتي اتخذ منها رفاقنا مقراً لهم، والتي مع تطور أحداث هجوم الأنفال، صارت مكاناً لتجمع قوات أنصار قاطع أربيل- الحزب الشيوعي العراقي، وكانت وجهتنا عبور نهر الزاب الأكبر عند سد بيخمه والتوجه إلى مقرنا في منطقة كافية.
بدأنا في الحركة مع بدايات غروب الشمس ومع حلول المساء والظلام، وسط الطرق الضيقة والمعروفة والتي يحيطها الشجر والعشب الأخضر الذي تكاثف راسماً لوحة من سحر الطبيعة وجمالها.
مع التقدم السريع لجحافل قوات السلطة ومرتزقتها من الجحوش ضد القرى والقصبات في مناطق كوردستان جميعها، شرع الرفاق في قوات قاطع أنصار الحزب الشيوعي العراقي في أربيل بأخذ الإحتياطات والتدابير المختلفة والمتكيفة مع الظروف الجديدة وعبر تقليص المقرات وإعادة تشكيل القوات والمفارز وخزن بعض الغذاء والأسلحة والبحث عن حلول لأوضاع العائلات ومحاولة تخفيف الأعداد الكبيرة من المقاتلين وتجنب التجمعات الكبيرة التي ربما ستتعرض لهجوم قوات النظام.
تكونت مفرزتنا من حوالي 25 رفيقا من سرايا مختلفة من قاطع أربيل، ومن الرفاق القادمين من قاطع السليمانية وكركوك بعد الاجراءات التي اتخذت هناك أيضا بالتزامن مع التكيف لظروف عمليات الأنفال، وأغلب أنصار المفرزة من الرفاق الذين تقرر سفرهم لغرض الدراسة الأكاديمية والحزبية، وعدد من الرفاق لغرض العلاج والراحة، وكنت قد تكلفت بقيادة هذه المفرزة، وبمساعدة الرفيق النصير هندرين بيرس كدليل للمفرزة ومعاوناً لي، والذي ينحدر من عائلة بارزانية وهو النصير الشجاع والعارف بطرق وتشعبات وطبيعة المنطقة.
مضت ساعات الليل بالمسير المتواصل والمحفوف بمخاطر كمائن العدو المحتملة ومنغصات الثعابين التي تكثر في هذه المنطقة، والتي كلفتنا حياة أحد أنصارنا سيامند الذي لدغه ثعبان أثناء مرور مفرزتهم بعد أيام من مسير مفرزتنا، وكما علمنا لاحقا. ومع لحظات الفجر لاحت أضواء ماء الزاب وكنا متعبين ومنهكين.
هناك ليس بعيداً عن جرف النهر، اعتدنا المرور وبحذر بالقرية التي تمكنت السلطة من تجنيد فلاحيها وزودتهم بالسلاح، وكانوا يغضون الطرف عن التعرض لمفارزنا وأنصارنا، والإكتفاء بأخذ اجور استخدامنا لكلكاتهم في عبور نهر الزاب، وكانت الوسيلة الوحيدة للعبور، وتتكون من إطارات التراكتورات الكبيرة المطاطية ومن جذوع الأشجار المشدودة بها بالحبال، ويتم سحبها بالحبال أيضاً .
أكملنا عبور النهر وواصلنا المسير في جانب نهر الزاب الأخر حيث تمتد نهايات جبل بيرس الكثيفة بأشجار البلوط والأعشاب المختلفة والصخور، مشرعين في الصعود مع بعض استراحات قليلة لشرب الشاي وتناول كسرات الخبز التي احتفظنا بها في حقائب الظهر ( العليجة).
أمضينا ما تبقى من النهار بشمسه الحارقة وحره الذي لا يرحم، في صعود الجبل، وحل الليل ونحن وسط كثافة الشجر والطرق الصغيرة المخادعة أحيانا. ومع بدايات فجر آخر وصلنا جهة جبل بيرس القريبة من نهر الزاب والمقابلة لمناطق رازان وئاسته وبارزان، وبعد إعياء وتعب شديدين صرنا مضطرين لترتيب وتأجير بغلين من أصحاب المواشي الرعاة والفلاحين، لمساعدة النصيرين الفقيدين أبو خلود المخابر وأبو سطيف، وبعد الإرهاق والتعب الذي صعب عليهما قدرة مواصلة السير.. واصلنا السير نهاراً أسفل منحدرات جبل بيرس وقد مررنا بقرية (هرنه) دون التوقف فيها، ومن ثم في قرية (بانه) أعلى الوادي الضيق، هناك توزعنا في بيوتها لبعض الوقت، ثم واصلنا السير منحدرين وسط المروج الخضراء، وفي المساء أرحنا أجسادنا المتعبة وقد استقبلنا الرفاق في مقر (كافيا) بكل حفاوة الرفقة .
في تلك اللحظات استذكرت تفاصيل وصور انتقالنا من منطقة بارزان إلى مقر كافيا صيف 1985، وكيف كانت الرحلة يومها مضنية ومتعبة وعبر عشرات البغال التي استأجرناها من أهالي قرية (هرنه) وبعد اصرار الشيخ محمد خالد بارزاني على مغادرة قواتنا في قاطع أربيل لمنطقة بارزان، التي اتخذنا منها مقراً للقاطع خريف عام 1983 بعد الظروف القاهرة التي اضطرتنا لمغادرة مناطق بشت ئاشان. وتجنباً للصدام والخلاف، تركنا منطقة (بارزان) باتجاه منطقة (كافيا) في الجهة الثانية من نهر الزاب والقريبة من مدينة عقرة، وبعد أن عبر الأخوة شمال و رضا وبقية العائلة من الزيباريين، والذين تربطهم علاقات عائلية وشيجة بالأخوة البارزانيين، عن ترحيبهم باستضافة الشيوعيين في مناطقهم، وكان الشيخان شمال و رضا قد اتخذا من قرية كافيا مسكناً ومقراً عشائريا وميدانيا لهما .
وليس بعيداً عن القرية القريبة من مجرى النهر الصغير المتدفق بمائه العذب والذي تظلله كل أنواع النباتات والأشجار والأعشاب والذي يمرح فيه بط القرية، كنا قد اتخذنا من أحد هضبات السفح أعلى القرية، مكاناً جديداً لمقر قاطع أربيل.
بدأنا التكيف مع ظروف الرفاق في مقر كافيا، خصوصاً وأن صعوبات حقيقية بدأت تلوح بسبب صعوبة الحصول على التموين والمواد الغذائية بسبب حصار السلطة. يضم المقر فصيلا يتكون من عدد قليل من رفاق قاطع أربيل، وكان القاطع بفوجيه الخامس والحادي والثلاثين وأغلب رفاقه قد انتقلوا بالكامل نحو مواقع متقدمة نحو العمق في مناطق وادي باليسان وسماقولي وقريبا من نهر الزاب الأصغر المقابل لمناطق كرميان . كما ضم المقر أيضا ستة رفاق كانوا قد قدموا من منطقة قاطع بهدنان ومعهم ملتحقان جديدان، وبعد قرار الغاء مقر قاطع بهدنان وتوزيع رفاقه.
ومع تفاقم الأوضاع وتوارد أخبار تقدم قوات النظام ومرتزقته والشروع بمحاصرة المواقع وأماكن الأنصار والبيشمركه، تواصلت حركة أنصار ومقاتلي قاطع أربيل ومن وحدات وسرايا مختلفة، ومعهم عدد من الرفاق الأنصار القادمين من قاطع سليمانية – كركوك، باتجاه منطقة ومقر كافيا، ومن اجل الانسحاب الى الخطوط الخلفية، وقد كلف الرفيق مام خضر روسي بقيادة واحدة من المفارز الكبيرة وبحكم خبرته العسكرية والميدانية ومعرفته التفصيلية بظروف تلك المنطقة وتضاريسها إذ سبق وأن تكلف بمهمات نقل السلاح في بدايات تشكل حركة الأنصار. كان التفكير ينصب في تكوين مقر مؤقت في قرية سيدان المهجرة والقريبة من قرية هرنه لتكون نقطة وسط بين مواقع قاطع أربيل وموقع كافية عند منطقة الزيبار، لكن هذه الفكرة تغيرت مع تطور الأوضاع…
شهر آب من شهور الصيف الحارقة والتي لا يحتمل حرها نهاراً، ولكن أماسيه لذيذة منعشة بهوائها النقي العليل، خصوصاً حين ترش بالماء البارد جدران الكبرات التي اتخذها الأنصار مكاناً للنوم والإقامة، وهي جدران تعمل من أغصان شجر البلوط اتقاء للحر وتجنبا للبعوض ولباقي الحشرات والعقارب وغيرها. بعد نهار طويل من الواجبات المختلفة في الحراسة أو الطبخ أو جلب الحطب، نجلس مجتمعين عند ابريق الشاي وسط صخب الأحاديث والنكات والحكايات التي لا تنتهي.
كنت ادرك مع قرارة روحي أن أحداثا كبيرة مؤلمة تنتظرنا وتنتظر مصائرنا كأنصار شيوعيين في كوردستان العراق، خصوصاً وأني قد شهدت وعشت أحداثا ولحظات دراماتيكية ومنذ ربيع ذلك العام المشئوم 1988. كنت أتذكر أيام مكوثنا لأكثر من اسبوعين في العراء تحت ظلال الأشجار فوق قمم جبل بنه باوي عند منطقة سماقولي لحماية المنطقة من تقدم وزحف قوات النظام، واضطرارنا لاحقاً إلى ترك المنطقة والانسحاب بعد تقدمهم واحتلالهم المنطقة. وبعدها لاحقاً في المراباة وحراسة مرتفعات باليسان في منطقة زينيتير دفاعا عن مناطق باليسان من احتمال هجوم قوات السلطة ومرتزقتها، وكان متاع الواحد منا بطانية نوم وزمزمزية ماء، متزودين بالطعام من مقر رفيقنا في أسفل الجبل في وادي باليسان، حيث يتم ارسال وجبة الطعام بواسطة البغل. كانت أيام من التحدي والرعب والتوجس وسط التحليق اليومي لطائرات الهليكوبتر والبيلاتوس والطائرات الحربية..
في الموقف من الحرب العراقية الايرانية كان الشيوعيون واضحين في الدعوة لإيقافها ووقف سفك الدماء بين الشعبين، وقد حظي هذا الموقف بتفهم وتأييد الناس في العراق، ولكن في مناطق كوردستان ووسط فلاحي القرى كان هذا الموقف يعني عملياً عودة القطعات العسكرية وجحافلها ومعهم المرتزقة من سكان المنطقة إلى السيطرة الفعلية على هذه المنطقة وإنهاء الحركة المسلحة الثورية المتمثلة بحركة البيشمركه والأنصار. ويتذكر الكثير من الأنصار الشيوعيين تلك الحوارات الساخنة في بيوت الفلاحين عند التوزيع والزيارات، ومحاولات التوضيح والإقناع التي كانوا يجهدون فيها ترجمة شعار الحزب في وقف الحرب والتي كانت تجابه دوماً في أن الحرب حقاً مضرة ومرفوضة ولكن البعث سينقل مدافع الجيش والصواريخ إلى كوردستان في حال توقفها…
عمليات الأنفال التي قررها قادة نظام العصابة الصدامي كانت تعني عملياً ابادة الناس في قرى وقصبات كوردستان ومحو كل معالم الحياة والطبيعة فيها، وقد قسموها لمراحل مختلفة ابتدأت الأولى في شباط 1988 بمحو القرى في دوكان وقلا جولان وجوارتا وسورداش، وتواصلت في الهجوم على مناطق مختلفة في أربيل والسليمانية وكركوك ودهوك وبأشكال فاشية بشعة في قتل البشر وتهجيرهم واحتجازهم.
مساء يوم 25 آب 1988…أصوات وأزيز طائرات الهليكوبتر تغطي فضاء وسماء المقر، وقد باغتتنا وهي قادمة من خلف مرتفعات الجبل، ورغم تعودنا على تحليق وقصف هذه المخلوقات الكريهة والمرعبة، إلا أنها كانت هذه المرة غريبة في تحليقها المنخفض جدا وفي مصابيحها الضوئية المشتعلة التي أنارت الظلام بأجواء الرعب وفي عددها الذي تجاوز الخمس طائرات .. تم الاتفاق سريعاً على الانتشار والاحتماء بما يمكن الاحتماء عليه وعدم البدء في مقاومة هذه الطائرات إلا في حالة قصفها لمواقعنا..مرت الطائرات دون تعرضها لمواقعنا، ولكنها قصفت منطقة زيوه وبشدة وبالمدفعية وقذائف غاز الأعصاب الكيماوية، حيث يقع مقر رفاقنا في قاطع بهدنان ومقر الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكوردستاني، واستشهد هناك الرفاق أبو سعد، أبو جواد، أبو وسن، مع جرح عدد آخر من الرفاق .
نهار يوم 26 آب 1988 كانت سماؤه فوق قرية كافيا ومحيطها ملبدان بنذر الفاجعة ورائحة الخطر، وصحيحاً تماما ما عرفته الذاكرة الشعبية عن شم الخطر، وكنا جميعا نشم تلك الرائحة الكريهة ونحن نستمع لأصوات الانفجارات والمدافع وهي تصل لمسامعنا ومن جهات مختلفة، وأيضا في الشحوب والخوف والرعب الذي دب في وجوه الفلاحين من أهالي القرى وهم في انتظار المجهول.
قبل بزوغ فجر ذلك اليوم، وفي مهمة استطلاعية خاصة ومعنا نواظير للرؤية البعيدة، اسرعنا في التوجه نحو قمة الجبل، أنا والرفاق، أبو غيشة، سرتيب، نوشير، حيث كلفنا الرفيق مام خضر روسي بالصعود الى قمة الجبل المرتفع المطل على شمال كافيا لإستطلاع الموقف في الجهة الثانية المشرفة على الشارع الإسفلتي الرئيسي الذي يربط بين قضاء العمادية وناحية شيلا دزه . وبعد المسير لأكثر من ساعة ومع بدايات نور خيوط الشمس الأولى كنا قد وصلنا نهايات الجبل عند القمة مشرعين في مشاهدة ورؤية ما لا تسر العيون مشاهدته والنظر إليه، حيث بانت جموع الدبابات والآليات والشاحنات العسكرية والراجمات، وغيرها من عدة الحرب وهي تتكدس كالنمل وعلى طول الشارع الإسفلتي، مع حشود لا تحصى من الجنود والمرتزقة الجحوش. كانت الصورة واضحة تماماً بالنسبة لنا ولا تحتاج لكثير من الفطنة لمعرفة نوايا وأسرار كل هؤلاء القادمين من أجل اشاعة الموت والخراب ومحونا..
لم يدم نزول الجبل طويلا وكان الرفيق مام خضر روسي في إنتظارنا، وكان هو عمليا المسؤول العسكري عن جميع قوات رفاق قاطع أربيل، وأخبرناه عن بشاعة الصور والمشاهد التي استطلعناها.
لجنة عقرة للحزب الديمقراطي الكوردستاني مقرها قرية كافيا ويقودها الشيخان شمال الزيباري و رضا الزيباري، وقد غادروا في صبيحة ذلك اليوم ومعهم العديد من أهل القرى ومناصريهم، ومثلهم أيضاً غادرت مجموعتان من حزب كادحي كوردستان ومن حزب الشعب الديمقراطي الكوردستاني، وكانت لهم مقرات ليست بعيدة عن مقرنا في كافيا.
اللحظات والساعات تمضي وقد استمرت الاتصالات عبر أجهزة اللاسلكي بين مقرنا في مرانه والرفاق في محلية نينوى ومقرهم في مرانه الذي لا يبعد سوى مسافة ثلاث ساعات عن مقرنا.. كان الجدل محتدماً حول كيفية التصرف والحركة والتنسيق والعمل، وغيرها من الأمور.. وكانت الفكرة الأولى أن تقسم القوات في كافيا والتي صار عددها بالمئات الى مجموعات وتتوجه في اتجاهات مختلفة .. كان الرفاق الموجودون في موقع كافيا من رفاق قاطع بهدنان يصرون على ضرورة التنسيق وانتظار الأوامر من الرفاق في مرانه وبالذات من الرفيق لبيد عباوي ( أبو سالار ) سكرتير محلية نينوى والمسؤول عن العمل الحزبي والعسكري بعد دمج التنظيم والأنصاري في اذار 1988، والقائد الميداني للفوج الأول في مرانه .
حاولنا وبجهد كبير كأنصار قاطع أربيل اقناع بقية الرفاق بوجهة نظرنا وضرورة الحسم في القرار جراء المعطيات الواقعية التي كانت كلها تشير الى سرعة تقدم قوات السلطة السريع، وضرورة التحرك ميدانيا.. القرار الأخير أوجب تحرك جميع القوات والمجموعات باتجاه قاطع أربيل نحو جبل شيرين. في المساء وفي وقت متأخر شرعنا في التزود بالخبز وببعض ما توفر من أطعمة، مع الاتفاق على أن نتحرك باتجاه الحدود التركية.. الرفيق مام خضر تكلف بمهمة قائد المفرزة على ان يعاونه الرفاق مسؤولو مفارز السرايا، الرفيق خاله خوله عن مفرزة سرية أربيل، كريم مشعل عن مفرزة سرية برانتي، أنا رياض قرجوغ عن مفرزة سرية قرجوغ، ملازم وشيار عن مفرزة سرية خوشناوتي. القرار الأخير أوجب تحرك جميع القوات والمجموعات باتجاه قاطع أربيل نحو جبل شيرين..في حوالي الساعة الثانية ليلا من يوم 27 آب، تحركت مفرزتنا المنظمة والمرتبة حسب السرايا والوحدات، ويتقدم المفرزة مسؤولها العسكري ودليلها الرفيق مام خضر روسي.. وكان قد شاركنا تلك المسيرة رفاق من هاورمان، وهم عدد من الرفاق الأحبة من حزب توده الايراني الشقيق، وكانوا قد انضموا لوحداتنا بعد الظروف الصعبة التي عانوها في بلدهم ومناطق عيشهم وعملهم.
يبدأ الطريق نزولا باتجاه مجرى الماء في قرية مراني ثم الاستدارة صعودأ باتجاه الشرق صوب قرية بانه التي وصلناها فجراً في حدود السابعة صباحاً، وبعد أن كثر عددنا قليلا بعد رغبة رفاق مفرزة بهدنان بالسير مع مفرزتنا، وكنا قد التقيناهم في الطريق بين كافيا و بانه.
لم أكن أمني نفسي يوماً في مشاهدة تلك الصور المرعبة والأليمة جدا في قرية بانه حيث بدت خاوية تماما وموحشة وقد فر منها كل ساكنيها من الفلاحين بعد أن تركوا أباريق الشاي وكسرات الخبز واللبن وبقايا جمرات المواقد المتقدة، لائذين خائفين في برية الله تطاردهم أنفال عهر السلطة .
علت كلمات الرفيق مام خضر في حث الرفاق على السرعة في ترتيب وتجهيز الخبز والطعام والاستفادة من بقية الطعام الذي تركه سكان القرية. مكثنا في القرية قليلا أرحنا فيها أقدامنا المتعبة وملأنا زمزميات الماء ثم شرعنا في المسير نزولا قليلا باتجاه وادي النمور الضيق الذي تكثر فيه أشجار التين والعنب، ومن ثم صعودا شرقاً وسط تضاريس جبل معقدة تحوطها الصخور والحجار من كل جانب.. مع اشتداد درجات الحرارة والحر بدأ التعب والإنهاك واضحا في ملامح العديد من الرفاق، وخصوصا وأن مع المفرزة عدد من الرفاق المرضى وكبار السن ورفيقتان هما روناك و كزال ومعها طفلتها سنور. لم تنفع زمزميات الماء التي نضب الماء فيها مع ساعات المسير الطويلة واشتداد الحر وخلو الجبل من أي عين ماء…وبعد معاناة عسيرة وصلنا جميعاً قمة الجبل، ولم يكن الأمر سهلاً لمفرزة كبيرة تجاوزت المائة وعشرين رفيقاً وسط ذلك النهار الصيفي اللاهب. من البعيد لاحت تضاريس نهر الزاب الأكبر ومرتفعات جبل شيرين. نزلنا مسرعين لنحط الرحال في قرية اخرى ( جالي )، تركها فلاحوها هربا من جور الأنفال. في القرية بئر ماء تزودنا منها بالماء واسترحنا قليلا. كان المنظر مؤلماً وموجعاً وحزيناً بالنسبة لي وأنا أتطلع لعدد من رفاقي الأنصار وهم يحاولون جاهدين لمسك بعض من الدجاجات الهائمة من أجل طبخها سريعا وتوفير الطعام استعداداً لما سينتظرنا من مصير، وكنت أفكر بالناس والبشر والمصائر المجهولة . ولم يدم المكوث طويلا في القرية التي غادرناها عصراً وبسرعة كبيرة متجهين الى جرف نهر الزاب الكبير، لنسمع بعد قليل من مغادرتنا دوي المدافع التي بدأت تتساقط عليها وفي محيطها.. الأنذال يرصدون تحركاتنا وعلينا الفكاك من الطوق الذي شرعوا في أحكامه…الساعات تمضي ونحن نواصل السير صوب شاطئ النهر الذي وصلناه منتصف الليل.. لم يدم الوقت طويلا حين عثرنا على كلكات العبور وبدأنا العبور على شكل مجموعات مجتازين نهر الزاب .. نسمات باردة تبعثها صفحة الماء الهادئة ونحن نتقرفص متقاربين فوق الكلك الذي يسحبه الرفاق بواسطة الحبل من جهة النهر الثانية…مضت ساعات الليل ونحن نهم في عبور النهر وأكملنا ذلك قبل بزوغ الفجر، حيث واصلنا المسير حوالي الساعتين لنحل في قرية أخرى، وهذه المرة عند سفوح جبل شيرين الجميل. قرية (بازه) البارزانية طافحة بكرم الطبيعة من شجر وماء وجمال، وفيها أسلمنا أجسادنا غاطين في نوم عميق فوق أرضها المفتوحة والمنحدرة قريبا من خرير ماء ينبوعها الجاري، و بعد ساعات المسير الطويلة..أصوات قذائف المدفعية التي سقطت عند أطراف القرية فجر ذلك اليوم 28 آب 1988 هي التي أيقظتنا. تحركنا مسرعين لمغادرة القرية ولم نحتج لمزيد من الوقت في التحضير لذلك إذ كنا قد نمنا دون خلع أحذيتنا، وفي نفس قيافتنا العسكرية تحسباً للطوارئ… أثناء المسير شاهدت عدداً من أنصار حزب كادحي كردستان قد انضم الى المفرزة ومنهم القيادي في الحزب به لين عبد الله.
في كل لحظات المسير في تلك المفرزة الجبارة كنت أتذكر اللحظات القاسية التي عشتها مع رفيقاتي ورفاقي أثناء الانسحاب من معارك بشت ئاشان بعد الهجوم الإجرامي الذي شنته قوات الاتحاد الوطني ضدنا في الأول من آبار 1983، وكيف علي الاستفادة من تلك الدروس في ما يخص اليقظة والحذر وعدم الاستسلام لتعب الأجساد والتهاون في موضوع الحركة واخذ التدابير، وكنت أحرص على تجسيد تلك الدروس من خلال مسؤوليتي في تلك المفرزة وعبر التعاون والتعاضد مع الرفيق قائد المفرزة مام خضر روسي ورفاق هيئة المفرزة، ومع رفاقي في سرية قرجوغ ورفاق السرايا الأخرى ، مع الحرص على التعاون والمساعدة مع الأشقاء ضيوفنا من حزب توده. من الدروس البليغة لتلك المفرزة هي ان التردد في اتخاذ القرار يمكن أن يكلفنا أحيانا أثمان باهضة..لقد كان بمقدورنا التحرك سريعاً في نهار يوم 26 آب، ومباشرة بعد الاستطلاع الذي قمنا به لمناطق العمادية و ديرلوك، وعدم الانتظار والانشغال بمكالمات اللاسلكي وانتظار القرار من البعيدين عن أجواء المنطقة وأعني مقر كافيا ومحيطها. في نفس اللحظات التي كنا نهم فيها مغادرة قرية بازه فجر 28 آب، تقدمت جحافل الجيش والمرتزقة والقوات الخاصة نحو نهر الزاب والقرى المحيطة به محطمين كلكات العبور وكل امكانية لاجتياز النهر مع أسر عدد من العائلات التي تمكنت من عبور النهر. جميع العائلات والأنصار والبيشمركه الذين حاولوا عبور النهر تراجعوا مختفين في شعاب الجبال المحيطة بالنهر، ومنهم عدد من رفاقنا الأنصار الذين كانوا معنا في مقر كافيا ولم يتحركوا معنا يوم شرعنا بالتحرك من المقر، وقد جابهوا ظروفا تراجيدية صعبة وشاقة في العبور وفي عموم المسير.
لم يكن السير لصعود جبل شيرين سهلاً ويسيرا خصوصاً مع مضي الوقت وقلة النوم والإرهاق والتعب والقلق وجهل القادم من مصير..قريباً من قمة جبل شيرين والوقت منتصف النهار تقريباً، تجمعنا حول عين ماء صافية ومتدفقة بكل النقاء والكرم، وقد أثار استغرابنا وجود عين الماء تلك في أعالي الجبل. ويبدو أن الأهالي من الفلاحين قد تمكنوا من مد انبوب طويل ينقل الماء من هذه العين الى القرى والبساتين أسفل الجبل…تقدم قوات السلطة كنا نلحظه من خلال القصف المدفعي والحرائق وبعض القرويين الذين كنا نلاقيهم والذين فروا من جحيم الرصاص والقذائف .
طال مكوثنا عند قمة جبل شيرين بعض الوقت ومن أجل مراقبة الأجواء ورسم طرق التحرك تجنباً من الوقوع في مناطق تواجد القوات العسكرية والطوق الذي بدأت تتحكم به…
قرية ( داويدكه) تقع بالتمام عند منحدرات جبل شيرين من الجهة الثانية لمنطقة بارزان، وكنا قد وصلناها ظهراً من يوم 28 آب، وفيها أرحنا أقدامنا المتعبة التي أنعشتها مياه ساقية القرية العذبة، متناولين بعض الطعام الذي كان متوفراً فيها خصوصاً وأن جميع أهلها وفلاحيها قد غادروها فزعين مرعوبين . المساء يقترب ونحن نغادر قرية (داويدكه) وبكل الاصرار والعزيمة وبعد أن تيقينا أن لاسبيل سوى الاستعداد للمواجهة العسكرية التي بدأت تفرض علينا جراء زحف قوات السلطة العسكرية ومرتزقتها..الطرق التي كنا نسير فيها في سفح الجبل المقابل لنهر الشين الأزرق، لم تكن طرقاً مسلوكة، حيث تحيطها الصخور والنتوءات والحجار والأشجار ومن كل جوانبها، وكان لزاماً علينا السير هكذا بعد أن أصبح من المستحيل سلوك الطرق المعتادة..من الصعب جداً وصف تفاصيل تلك اللحظات من السير الليلي وأنت تتطلع للنيران التي بدأت تلتهم أشجار السفوح والوديان والقرى، وأن يمر بالقرب منك البشر الهائمون المعذبون من اهالي القرى والذين فروا فزعين بجلودهم وبعد ان تركوا كل ما يملكون من غال وثمين في القرى التي صارت كئيبة مهجورة..
في وقت متأخر من ليل يوم 29 آب، توقفنا قريبا من جرف نهر الشين الأزرق لغرض أخذ قسط من الراحة ودراسة الموقف بعد أن تجمع جميع رفاق المفرزة.. الطعام والشراب ضروريان للإنسان في تلك اللحظات، ولكن ومع المسير دون نوم وراحة تصبح الحاجة للنوم أكثر ضرورة وحضوراً من كسرات الخبز والماء..ومن اجل استطلاع الطريق والوصول صوب مكان العبور عند النهر تكلفت مجموع من الرفاق بالحركة السريعة مع تأمين مستلزمات الاتصال والمراقبة معها…
تركنا شاطئ النهر ورماله وصخوره متسلقين مرة اخرى سفوح الجبل وسط الظلام والعتمة والمجهول وبين صخور الجبل وأشجاره، ومع انبلاج فجر يوم جديد كنا نحث السير في سفوح الجبل بأتجاه معبر العبور الوحيد في المنطقة (التلفريك) ..لم ينتصف النهار بعد حين وصلنا المعبر…الحزن والألم يعتصر القلوب ونحن نشاهد ألاف البشر من عائلات وأطفال وشيوخ ومرضى، وبثيابهم القروية الكوردية ووجوههم المتعبة والخائفة، وقد لاذوا متزاحمين عند المعبر من أجل العبور..تلفريك العبور كان عبارة عن حجرة صغيرة مربوطة بواسطة حبل يربط جهتي نهر الشين الأزرق، ويتم سحبه من الجهتين وحسب اتجاه العبور، وهو لا يتسع لأكثر من ستة أشخاص.. في الجهة المقابلة لهذا المعبر تقع قرية (سيريا) فوق سفح الجبل وكأنها تحتمي مختفية وسط الشجر والصخر…كنا أمام كارثة لاحت نذرها وبانت معالمها وسط بكاء ونحيب الأطفال وولولة الأمهات وحيرة الرجال ومحنتهم..كان علينا التفكير في طريقة معينة لعبور جميع رفاق المفرزة إلى ضفة النهر الأخرى، وهو ما كان مستحيلا عبر استخدام التلفريك ومزاحمة هذا الحشر من البشر الذي فاق عدده الأربعة ألاف أو يزيد…الرفيق مام خضر كلفنا نحن مجموعة من الأنصار بالتحرك للبحث بموازاة جرف النهر للبحث عن كلك او أكثر يمكن ان يكون العبارة قد خبئوه هناك، وكانت الصدفة العظيمة قد حالفتنا بعد بحث مضني لنجد الإطارات المطاطية وجذوع الشجر والحبال وهي كل مستلزمات الكلك، وعدنا بها سريعاً لمكان تجمع المفرزة، وبدأنا بنفخ الإطارات وترتيب الجذوع وشدها فوق الإطارات وبدأنا في تحريك الكلك وسط الماء مشرعين في العبور كمجموعات صغيرة..في جهة النهر الأخرى كان رفاقنا الذين سبقونا في مفرزة الكمين المتقدم قد سبقونا بالعبور صباحاً عبر التلفريك وقبل أن تصله تلك الآلاف من البشر…صار الوقت عصراً ونحن في انتظار اكتمال عبور جميع رفاق المفرزة.
الطريق سيراً من جرف النهر حنى قرية (سيريا) يبعد حوالي الساعة، وكنا نرتب أوضاعنا باتجاه الحركة إليها، وكنا قد أرسلنا ثلاثة رفاق لإستطلاع القرية وتم الاتفاق معهم على اشارة محددة في حال احساسهم بالخطر أو اكتشافهم لقوات السلطة، وصار هذا فعلا حين علت اطلاقات نار من مكان قريب من القرية وهي رصاصات تنوير وإشارة من رفاقنا، ومع رصاصات التنوير هذه بدأت القذائف والصواريخ والرصاص وهو ينهمر فوق الرؤوس، حيث أحكم الجيش والمرتزقة الجحوش السيطرة على قرية (سيريا) واحتلال مرتفعاتها.. أصوات الرصاص يعكر صفو الماء في النهر وغصون الشجر وسط نحيب وبكاء الأطفال وصراخ النسوة.. ودون تردد وفي موقف حاسم ومصيري شرع الرفيق مام خضر روسي بالمناداة على الرفاق وتحشيمهم والإشادة بعزيمتهم وشجاعتهم داعيا الجميع لصعود الجبل ومواجهة القوة العسكرية والمرتزقة :
– أيها الرفاق..يا أبناء فهد وسلام عادل..أيها الشيوعيون البواسل هذا يومكم..يا أبطال ملاحم هيلوه و هناره هبوا لمقاتلة العدو وهزيمته….
صوت الرفيق مام خضر غطى على أصوات القذائف والرصاص وقد أجابه الرفاق الأنصار وبسرعة وبسالة الشجعان متسابقين كالفهود لصعود الجبل وفي لحظات من الصعب تصويرها عبر الكلمات.
كنت أقف جنب الرفيق مام خضر حين أطلق النداء الذي هز أعماقي وكياني ووجدت نفسي أتسابق مع رفاقي الهابين لصعود الجبل..أصوات الرصاص والقذائف علت فوق سماء القرية ومنحدراتها ومعها الدخان ورائحة الحرائق بعد شروع قوات العدو بحرق بيوت الفلاحين..أكاد أجزم بأن أولئك الفتية الشجعان الذين تسلقوا سفح جبل قرية سيريا كانوا بكل العزم والثقة، واليقين بعدالة الكفاح الأنصاري منحازين للناس والفلاحين. لم يمض الوقت طويلاً لأجد نفسي مع حوالي عشرة أنصار عند سياج مقبرة القرية، وكان عدد من الرفاق الأنصار الشبان قد سبقونا لوصول المرتفع فوق القرية والاشتباك مع القوة العسكرية المتموضعة هناك والتي أفزع أفرادها المشهد وأذهلهم بتفاصيله وهم في مواجهة غير منتظرة دعتهم للفرار مذعورين تاركين مواقعهم ومواضعهم. ولم يكتف الأنصار بالسيطرة على تلك الأماكن ومضوا في مطاردة دراماتيكية لفلول القوة المنهزمة. أصوات الرصاص والقذائف غطى سماء مرتفعات القرية والمقبرة مع أصوات صراخ وسباب وشتائم وكلمات اختلطت بالكوردية والعربية.
عند سياج المقبرة الحجري، هناك حيث احتمينا به، كنت أنادي على رفاقي من أجل اخبارهم والتواصل معهم، وتارة باللغة العربية وأخرى بالكوردية :
– أيها الرفاق ..هاوريان ..خاله خوله …كريم مشعل …..
ومن الجهة الشرقية للمقبرة ومن مسافة قريبة جداً علت أصوات باللغة العربية تدعونا للقدوم إليهم :
– تعالوا تقدموا باتجاهنا … نحن هنا ..
عدد من الرفاق الذين كانوا معي ظنوا أن الأصوات قادمة من رفاقنا وأرادوا التحرك، ولكني شككت بالأمر لغرابة الأصوات ولطريقة الجواب ولفظ الكلمات، ومنعت الجميع من الحركة وبعد أن قلت لهم بأن هؤلاء من القوة المهاجمة، ولم تمض ثواني على ندائي حتى علت أصوات الرصاص والقذائف تنهمر فوق رؤوسنا ومن نفس المكان الذي أتت منه الأصوات التي كانت تدعونا للقدوم.. واحتمينا بسياج المقبرة لتجنب الرصاص، والذي لم ندعه يتواصل حين أمطرناهم وبكل بنادقنا وفي رد أرعبهم وأسكت مقاومتهم، ثم لنشرع بالتقدم نحوهم وقد لاذوا فارين تاركين أماكنهم….سرنا لمسافة قريبة جداً فوق التلال حيث التقينا هناك عدداً من الرفاق الأنصار ومعهم جهاز اتصالات كبير راكال 105، وجهاز أصغر منه وبندقية كلاشنكوف، وكانت القوة العسكرية المهاجمة قد خلفتها أثناء هروبهم..هناك في القمم تركوا العديد من لوازمهم ومنها العتاد وخوذ الرأس والطعام والبطانيات وعدد من الحاجات التي سرقوها من القرية.. الرفيق النصير سرهنك ملا نفطه اصيب بجروح الشظايا في فكه في تلك المواجهة، ومعه أصيب رفيق ىخر في الراس، وكانا ضمن المجموعة البطلة التي طاردت القوة المنهزمة، وقد أنقذهما الرفيق الدكتور بزار بمعالجتهما في نفس مكان المعركة…
وسط عتمة المكان وتوقف أصوات الرصاص والقذائف ونهاية المعركة، وبالتحديد فوق مشارف قرية سيريا من جهتها الغربية العالية تجمعت قواتنا ثانية وسط الفخر والتباهي بتلك الملحمة البطولية في هزيمة القوة العسكرية المهاجمة..استراحة قصيرة لترتيب تفاصيل القادم ومواصلة السير، مع تفقد أحوال المفرزة ورفاقها، وكان عدد من الرفاق قد تخلفوا عنها ثم عادوا ليلتحقوا بها..وقبل المغادرة أوصلنا خبرأ للشيخ رضا الزيباري، ولأخيه شمال الزيباري، عن امكانية تحرك جموع أهالي القرى المحتشدين عند جرف نهر الشين الأزرق أسفل قرية سيريا، وبعد تحريرنا للقرية وهزيمة القوة المهاجمة، ولكن الجواب جاء بعدم الرغبة في ذلك، وظلت الحشود هناك حتى قدوم القوات العسكرية والمرتزقة الجحوش في فجر اليوم التالي ليرتكبوا من جديد جرائم اخرى بالقتل والتعذيب وآسر جميع الحشود بعد استسلام الشيخ رضا الزيباري ووقوعه في الأسر….
واصلنا السير وسط الشجر والصخور وسيقان النباتات ومنعطفات الجبل ودروبه والليل قد غطى المكان بعتمته ووحشته، وكان السير أقل جهداً هذه المرة بعد الطاقة والنشاط والمعنويات التي تزودنا بها من ملحمة سيريا..
فجر 30 آب 1988 وصلنا مشارف قرية (جي) المهجورة بعد ترك الأهالي لها، وتقع في اخدود من الأرض المكشوفة وبعدد قليل من بيوت الطين، تحت مرتفعات الهضبات المحيطة بها…في القرية تزودنا بالطعام والماء وأرحنا أجسادنا المتعبة وغط عدد من الرفاق في نوم عميق. عدد من الرفاق اسرع بطبخ الرز في أكثر من قدر، ومعهم عدد من الرفاق وبخفة وسرعة عجن ما امكن من الطحين ولاحقاً الخبز الطيب الذي التهمنا الكثير منه مع أخذ القسم الأخر كذخيرة في حقائبنا…مضى النهار سريعاً بساعاته وحل العصر حين تكلفت وعدد من الرفاق بالذهاب إلى الحراسة والكمين عند القمة العالية فوق القرية، والتي تقع بالتحديد فوق الطريق الذي سنسلكه في مغادرة القرية..
الشمس شرعت بلملمة أذيال أشعتها مشرعة بالغروب والجو هادئ جدأ في القمة هناك وسط أشجار البلوط والنباتات التي أحاطت الصخور والحجر، ونحن نتطلع بالنواطير الى السهول والهضاب الصغيرة الممتدة حول أطراف المكان وبدت أمينة .. أوصلنا عبر الإشارة خبراً لرفاقنا في القرية عن امكانية الحركة وقد شرعوا بها فعلاً، وهممنا نحن بترك مكان الكمين للتواصل مع رفاقنا، ولم تمض لحظات حتى بدأ انهمار الرصاص والقذائف من جهة القمة المقابلة لمكان كميننا، ويبدو أن القوة العسكرية التي تتعقب حركتنا وانسحابنا، قد وصلتها وتموضعت فيها بإنتظار حركتنا ومباغتتنا..المفاجأة أربكتنا وبعثرت المفرزة قليلا حيث انتشر الرفاق تجنباً للرصاص. المصيبة أن المنطقة منبسطة تماما ولا مكان للصخر والحجر والشجر للإحتماء، وهذا لم يمنعنا من الرد والمقاومة.. ومع انهمار الرصاص من جهة القوة المهاجمة بدأ الرصاص ينهمر من الجهة الأخرى، وهذا ما أقلقنا للشعور بأن العدو قد طوقنا من الجهتين، ولكن تبين سريعاً أن القوة التي أطلقت النار من الجهة الأخرى هي قوة صغيرة من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذين ظنوا أن قواتنا هي قوات الحكومة حين وجهوا الرصاص نحونا..
مضينا في السير ومعنا بيشمركة الديمقراطي، تاركين القرية مع استمرار الرد على النيران التي بدأت تخفت ومعها الأصوات المندحرة التي كانت تدعونا للاستسلام مع سيل من ألشتائم حيث لم يتجرؤوا على الحركة والتقدم بإتجاهنا. مضينا في الحركة والسير، وهذه المرة ليس لوحدنا بل مع مئات البشر من الفلاحين والرعاة وأهالي القرى الذين كانوا يفدون لهذه الطريقة من جهات مختلفة، وكنا نسمع ونرى حالات انسانية توجع القلوب، حيث بكاء الأطفال، وصعوبة سير الشيوخ والمرضى، ونحيب النساء بعد تقطع الوصل مع الأهل والأحبة..
جهاز الرادار الذي غنمناه لازال يعمل ويلتقط الاتصالات التي يبثها المجرمون من القوات التي تقود حملة الأنفال المرحلة الثامنة التي ابتدئوها في 25 آب، وهم يحثون القوات المهاجمة على قتال الشيوعيين وأسرهم، واستخدام كل ما أمكن من الأسلحة والمدافع….
واصلنا الحركة في المفرزة وسط السكون والظلام والصمت الذي غطى المكان والذي لم يعكره سوى أصوات انفجارات وقذائف مدفعية ومن أماكن بعيدة. في ساعة متأخرة من الليل من يوم 31 آب 1988 لاحت مشارف قرية حدودية كبيرة عامرة بزرعها وشجرها ووفرة الماء فيها..ـسلمنا أجسادنا المتعبة للنوم والراحة، ومن لم يستطع ذلك ذهب ليجلب الكثير من الذرة وأنواع من الخضار والتي تعين على سد وجع وأنين جوع البطون…ومع بزوغ فجر ذلك اليوم وعد أطراف القرية ووسط العناق والسلام والتحيات والأشواق، كان اللقاء مع مفرزة كبيرة من رفاقنا القادمين من بهدنان.
سارت مفرزتنا في منطقة محفوفة بالشجر والماء، وهذه المرة سوية مع الرفاق الأنصار القادمين من قاطع بهدنان..
منتصف نهار يوم 31 آب 1988 كان حزيناً ومؤلما ومؤثراً مع مشاعر الرفيقات والرفاق…في منطقة خضراء بعشبها وشجرها وقريباً من المقر الرئيسي للجنة محلية فرع الحزب الديمقراطي الكوردستاني ( لجنة كولان) تجمعنا جميعا نصيرات وأنصار في انتظار ما سيقرره الرفاق في قيادة المفرزتين بشأن التوجه القادم.. كان القرار واضحاً وصريحاً يدعو الرفاق المرضى وكبار السن والعائلات والغير قادرين على تحمل السلاح، بمواصلة المسير مع جماهير القرى والفلاحين المتوجهين للحدود التركية ودخول الراضي التركية، مع دعوة من يرغب من الأنصار والنصيرات بمواصلة السير بإتجاه مقر الحزب في جويزه وخواكرك وعبر اجتياز الحدود الايرانية. كان الموقف مؤثراً جداً حين قست الظروف تلك، وأجبرتنا على وداع رفاقنا الذين تركوا أسلحتهم ومضوا في حزن وألم مع فلاحي القرى في اتجاه الحدود التركية ونحو المصير المجهول.. جمعنا جميع الأسلحة وحاولنا التكتم عليها وإخفائها في مكان قريب، وواصلنا المسير قريبا من الحدود التركية وباتجاه المثلث التركي الايراني العراقي. مضت خطواتنا متعبة ووجوهنا حزينة والألم في القلوب بعد وداع الرفاق وتقسم مفرزتنا.. كان الرفيق مام خضر عارفاً بتفاصيل الطريق وتشعباته…في وقت متأخر من تلك الليلة وصلنا قرية كوردية في الجانب التركي، ويبدو أن فلاحيها قد سمعوا بأخبارنا وأخبار معركتنا وقتالنا في سيريا، وطلبوا منا المكوث عند أطراف القرية وعدم دخولها خوفاً من أعين الجواسيس وانتشار الأخبار الى القوات التركية التي لا ترحم في مثل هذه الحالات.. جاء القرويون بكل ما يملكون من طعام وقدموه لنا، وشكرناهم على هذا الموقف التضامني…استرحنا قليلا ثم واصلنا المسير ليلا فوق قمم الجبل العالية.. نهار الأول من أيلول 1988، والجو ليس حاراً كما في السهول والوديان، مع نسمات هواء عليلة، ونحن نواصل السير وسط المرابع الجبلية الخضراء بألوان زهورها الفاتنة والساحرة، وبرك الماء بألوانها السحرية المبهرة التي تعكس أشعة الشمس التي بدأت معانقتها في التحام طبيعي ساحر….في المساء استرحنا عند بعض خيم الرعاة وكانت فرصة للنوم في العراء وإراحة الأجساد التي هدها التعب..
أوائل صباح الثاني من أيلول واصلنا السير حيث من الصعوبة التفريق بين تشابك حدود الدول الثلاث العراق وإيران وتركيا.. في المساء حللنا ضيوفاً عند قرية كردية تركية عامرة ببيوتها وشجرها ووفرة الماء والزرع والخضرة فيها..استقبلنا مختار القرية بحفاوة ملحوظة بعد طلبه من فلاحي القرية على استقبالنا في بيوتهم، حيث كانت الفرصة سانحة للاستحمام وغسل وتنظيف ملابسنا وأخذ قسط كبير من الراحة بعد ليلة من الراحة والسكون والاطمئنان، وهي لم تنسينا بالتأكيد الحراسة ومراقبة أطراف القرية خوفاً من اقتحام القوات التركية لها..
تناولنا الفطور الدسم في بيوت القرية ومضينا في السير صباح الثالث من أيلول 1988، وبعد ثلاث ساعات من السير وسط البساتين والمزارع والأرض الخضراء استرحنا في مكان تظلله الأشجار، حيث أرسل الرفاق عدداً من الرعاة لشراء بعض الحاجات لنا، حيث قدموا ومعهم الكثير من أحذية السمسون بعد تلف العديد من أحذيتنا، وكذلك المعلبات والحلوى التركية…
في المساء واصلنا المسير ونحن نقترب من الحدود الايرانية هذه المرة، ومضى الليل ونحن نواصل السير وقد خف التعب قليلا بعد ليلة النوم الأخيرة في القرية..وبعد انبلاج فجر يوم الرابع من أيلول، لاحت العديد من خيم الرعاة الأكراد مع قطعان الماعز والأغنام، وصرنا ضيوفهم وسط أقداح الشاي الساخنة واللبن اللذيذ والخبز الذي اسرعت النسوة بتحضيره فوق نار الحطب…
ودعنا الرعاة وشكرناهم على حسن الضيافة ومضينا في السير شرقا، ولم تمض سوى ساعات حتى وصولنا قريبا من مرتفعات هضاب عرفنا انها ايرانية من خلال الأعلام، وقد تأهب الجنود فيها لمعرفة تفاصيل مفرزتنا وهويتها، خصوصاً ونحن كنا بكل قيافتنا العسكرية وأسلحتنا.. أعلمناهم بأننا من قوات الديمقراطي الكوردستاني، وكان هذا بالاتفاق والتنسيق في حالات مثل هذه..ليس بعيداً عن المكان استأجرنا سيارات صغيرة كان أكثر سائقيها من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، والتي أوصلتنا الى مناطق (رازان) حيث سكن عائلات الحزب الديمقراطي وقريبا من مقراتهم…استرحنا في تلك الليلة بالنوم في العراء وتناول بعض اللبن والخبز والشاي، وفي الصباح من يوم الخامس من أيلول 1988، وبعد الاتفاق مع رفاق حزبنا خلال الاتصالات انتقلنا عبر باصات صغيرة الى مدينة (شنو) حيث مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني الرئيسي… وهناك في المقر استقبلنا بحفاوة الرفيق عمر علي الشيخ ( أبو فاروق) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، مشيداً برفاق المفرزة والملحمة التي اجترحتها في معركة سيريا والمعركة الثانية مع المرتزقة الجحوش . بعد تناول الغذاء كان قرار الحزب صارماً بضرورة الإسراع في الدخول للأراضي العراقية، ولم تنفع طلبات عدد من الرفاق في إمهال الرفاق بعض الوقت للذهاب للحمامات والاغتسال والراحة….وفي نفس نهار ذلك اليوم وصلنا الحدود العراقية الايرانية واجتزناها لندخل حدود وطننا العراق، وبعد مسيرة ثلاث ساعات وصلنا قرية (جويزه) هناك حيث مقر حزبنا المزدحم بالرفيقات والرفاق، وكانت لحظات اللقاء بالرفاق مؤثرة وبليغة، خصوصاً بعد كل الذي جرى لنا ولهم، ومكثنا هناك لأيام قليلة أراحتنا كثيرا، ثم واصلنا السير باتجاه (نوكان) و (ناوزنك) لنشرع في بناء مقرات جديدة ومواصلة المسيرة..

السبت 28 آب 2021…كارلستاد
….
صورتي الرفيقين مام خضر و خاله خوله منقولة من مواقع الرفاق في الانترنيت…الشكر لهم والاعتزاز…

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular