المخرج الفنلندي تيمو نيكي يدفع عربة الممثل بيتري بويكولاينين
هلسنكي ـ يوسف أبو الفوز
نشر في المدى البغدادية العدد 5025 يوم 16 . 9 .2021
في مهرجان البندقية السينمائي في دورته 78، الذي أنعقد للفترة 1 ــ 11 من شهر أيلول/ سبتمبر هذا العام، فاز الفيلم الفنلندي (رجل أعمى لم يرغب في مشاهدة تيتانيك) – The blind man who did not want to see titanic ـ من إخراج وسيناريو الفنلندي تيمو نيكي بجائزة Armani Beauty Audience، وقد رشحت سبعة أفلام لهذه الجائزة، وهي جائزة جديدة تُمنح من قبل الجمهور.
يحكي الفيلم، الذي تبلغ مدته 82 دقيقة، الذي يعرض حاليا في دور العرض الفنلندية، عن رحلة رجل أعمى بمفرده على كرسي متحرك للقاء امرأة أحلامه البعيدة. كتب السيناريو المخرج نفسه وهو الفنان الفنلندي المتعدد المواهب تيمو نيكي، من مواليد 1975، وهو معروف كمخرج سينمائي، كاتب سيناريو ومنتج أيضا. عرف تيمو نيكي بغزارة عمله وتعدد مواهبه، وتشير سيرته الذاتية بأنه لم يترك مجال له علاقة بالسينما لم يجربه، فهو ممثل، مخرج، كاتب سيناريو، مصور، مصمم ملابس، مونتير وغيرها. نجد في سجله الإخراجي أكثر من ثلاثين عنوانا ما بين فيلم قصير ومسلسل تلفزيوني وفيلم روائي، حيث بدء عمله مع الأفلام القصيرة، الإعلانات التجارية ومقاطع الفيديو الموسيقية، ثم أتجه لإخراج المسلسلات التلفزيونية المحلية، التي نالت بعضها النجاح والترشيحات وحصلت على جوائز محلية أبرزها جائزة يوسي عام 2018 ويمكن اعتبارها بمثابة (الاوسكار الفنلندي) عن سيناريو فيلم (الموت الرحيم) الذي قام بإخراجه بنفسه، وفي عام 2019 ترشح هذا الفيلم لجوائز الاوسكار، عن فنلندا، لفئة (أفضل فيلم بلغة أجنبية).
فيلمه الحالي (رجل أعمى لم يرغب في مشاهدة تيتانيك)، كتب له السيناريو خصيصا لصديقه الممثل بيتري بويكولاينين، مواليد 1975 ليقوم بأداء الدور الرئيسي فيه، فهو ممثل فقد بصره في السنوات الأخيرة وبدأت تتدهور صحته بسبب إصابته بمرض (التصلب العصبي المتعدد)، تماما مثل بطل الفيلم، وذكر مخرج الفيلم ان القصة خيالية، وكما يبدو أنها جاءت منه كبادرة وفاء للصداقة لتحقيق حلم الممثل بدور سينمائي رئيسي، فهذا أول دور سينمائي رئيس للفنان بويكولاينين، والمتوقع جدا ان يكون هذا الفيلم آخر عمل له بسبب تواصل تدهور صحته. وقد جازف المخرج وفريق العمل كثيرا وعملوا بتفان للقيام بتصوير الفيلم مع الممثل بويكولاينين، ارتباطا بوضعه الصحي والتدهور التدريجي في حالته، فلم يتحمل الفيلم أي تأخيرات في الخطة الإنتاجية ومواعيد التصوير، حيث لم يكن هناك ما يضمن المدة التي سيكون فيها الممثل قادر على المشاركة في التصوير. وبعد نهاية المهرجان صرح المخرج للصحافة الفنلندية، بأنه حتى بدون هذه الجائزة التي نالها الفيلم، فسيعتبر هذا هو أهم فيلم أخرجه.
يذكر ان الممثل بويكولاينين تخرج من أكاديمية المسرح في العاصمة الفنلندية، هلسنكي، عام 2000. عمل كممثل لمدة ثماني سنوات قبل أن يصاب بالمرض. قدم العديد من العروض في مسرح في مدينة سينايوكي (360 كم شمال غربي العاصمة)، مسرح أوروبا الرابع في مدينة يوفاسكيلا (270 كم شمال العاصمة) ومسرح العاصمة هلسنكي. عرض أخر أعماله المسرحية على مسرح هلسنكي في الأعوام 2010-2011. بدأت معه الحالة المرضية، التي وصلته بالوراثة، عام 2008، إذ بدأ يتلعثم بالحديث ويتأرجح اثناء الحركة. أضطر للانتظار نصف عام حتى تم تشخيص المرض. ذكر في لقاءاته الصحفية بأنه حين بدأ مسرحيته الأخيرة (إيلا ورامبين) بعد أكثر من عام بقليل من تشخيص المرض، كانت الأعراض تحت السيطرة، لكنه في العروض الاخيرة كان عليّه البحث عن أماكن ليتكأ عليها حتى لا يبدو في حالة سكر. في النهاية، لم يعد يرى بشكل صحيح، وحين اسدلت الستارة في عرضه الأخير وانحنى للجمهور غامت الدنيا في عينيه وأتجه ليصدم بالجدار فكان أخر صعود له للخشبة. أضطر بعدها لاستخدام الكرسي المتحرك وبدأ يفقد بصره تدريجيا حتى فقده تماما. عن اشتراكه كممثل في الفيلم قال الممثل بيتري بويكولاينين للصحافة الفنلندية: لقد كان امرا رائعًا. لم أحلم أبدًا بأي دور رئيسي في الأفلام، المشاركة في هذا الفيلم فاقت كل التوقعات.
في الفيلم، يقدم الممثل بيتري بويكولاينين، الأعمى ومن على كرسيه المتحرك، اداءا ساحرا ومريحا في فيلم مؤلم، مشحون بالعاطفة والتوتر، فبالإضافة الى الموهبة التمثيلية العالية، قدم تجربة الحياة التي يعيشها، بل ذهب الناقد ديفيد كاتز على موقع Cineuropa.org المعني بشؤون السينما، الى القول بان الفيلم يعارض الفكرة بان الممثلين الاصحاء يمكن ان يلعبوا أدوار شخصيات ذات إعاقة، كما في فيلم (نظرية كل شيء 2014) حيث لعب الممثل إيدي ريدمايني دور العالم الشهير ستيفن هوكينغ. جاء الحماس للفيلم كون المخرج جعل المشاهد يتفاعل مع حالة إنسانية شائعة، جعلنا نرى العالم من خلال عيني رجل أعمى، بلقطات بارعة في التصوير بإستخدام موشورات خاصة، ونتابع مواجهة بطل الفيلم ياكو لقسوة الاخرين ولعالم غير مصمم لأمثاله من المرضى حين يجرؤ على مغادرة منزله للقاء امرأة تعلق بها أسمها سيربا، لعبت دورها الممثلة الفنلندية، ماريانا مايلا (مواليد 1968)، تعرف عليها عبر الانترنيت وكان يتحدثون يوميا على الهاتف، وإذ عرف بمرضها قرر زيارتها حين طلبت منه اللقاء قبل موت أحدا منهما. يخبرنا الفيلم بأن كل أنسان بحاجة للحب والتواصل مع الاخرين، حتى ياكو الاعمى والمقيد لكرسيه المتحرك والسجين في غرفته والظلام، رغم ان لقاء سيربا سيكون بالنسبة لإنسان في مثل حالته (بعد رحلتين من سيارات الأجرة وقطار). كشف الفيلم للمشاهد عمق أحاسيس بطله من خلال اللقطات القريبة التي تكشف العالم الداخلي للشخصيات، ومن خلال روح الدعابة ومواقف الكوميديا السوداء، واستشهادات ياكو السينمائية اللماحة، فهو عاشق للسينما، شقته مزدحمة بأقراص DVD للأفلام التي شاهدها قبل إصابته بالعمى ولم يكن بينها فيلم تايتانك الذي يرفض مشاهدته، ولنكتشف بأن (العوق) عند الاصحاء وليس المرضى، حين يتعرض ياكو الى محاولة تسليب من شخصين، يحاولان الاستيلاء على بطاقة ائتمانه البنكية. مع قبول ياكو المحنة التي واجهها إلا أن عوائق ضمانات استخدام بطاقات الائتمان والبيروقراطية تسمح لياكو بالانتصار والمضي للقاء امرأة أحلامه، وإذ كاد ان يفقد ثقته بالإنسانية، لكنه يستعيدها عند لقاء سيربا.
بيتري بويكولاينين في لقطة من الفيلم