هكذا تمر الأيام التي تستقطع من أعمارنا الكثير معها لكننا نتوقف دائما عند مراحل الفقد ..خاصة حين يكون هذا الفقد كبيراً بحجم ما تركته وفاة المغفور له Pir Xi-dir- Sulayman حيث لا تسعفني الروح أن تتقبل غيابه عنا عن أهله وذويه وطلابه وكل من كان يمنحهم بإنسانيته العبقة التقدير والتفهم والعلم وكانت سعة صدره في استقبال الأراء وتنوعها مثال يحتذى به
وأنا حين أكتب عن بير خدر سليمان وأسبق اسمه بألقاب ترجو عفو الله وغفرانه ورحمته الواسعة لهذا الرجل الذي أفنى حياته في خدمة قضايا أمته المنكوبة .. منذ نشأ بيرخدر وهو يرى كم الاضطهادات الموجهة لشعبه وديانته ومع ذلك لم يصمت بل حفر في الصخر كما نقول حتى يمحو الصورة المسبقة عن بني جلدته .. تلك الصورة المشوهة والتي كانت إلى وقت قريب أكثر انتشاراً عنهم
منذ كان بير خدر بالجامعة في بغداد ووجد السخرية من الكثيرين حوله عن معتقده وديانته وقد قرر في صميم نفسه أنه يجب أن تعدل هذه الصورة السيئة وأن يخرج للعالم حوله وللعالم أجمع الصورة الصحيحة لديانته العريقة والأقلية المظلومة التي ينتمي إليها – والتي بالمناسبة كانت قديماً ليست أقلية على الاطلاق لكن مع ما تعرضوا له من مناهضات انحصرت هذه الديانة وأصبحت أقلية -ومنذ حينها بدأ يكتب ويصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة
وقف بالكلمة أكثر المؤرخين انتشاراً في حينها السيد عبد الرزاق الحسني وحاول تصحيح المفاهيم المغلوطة التي نشرها السيد الحسني عن الأقلية الايزيدية
ترك فقيدنا العزيز وأستاذنا القدير مكتبة ايزيدية من البحوث العلمية التي نشر بعضها ومؤلفاته الايزيدية المهمة التي أغنى بها المكتبة العلمية الايزيدية وكانت مؤلفاته التسع التي قدمها ومنها كتاب “كوندياتي ” و”سفر الايزيدية” وترجمته لكتاب “الميترائية تاريخ ومعتقدات” للدكتور علي تتر نيروه يي وغيرها من المؤلفات التي اطلقها بأكثر من لغة فابالإضافة لمؤلفاته بلغته الأم الكوردية فقد نشر بالعربية والألمانية والانجليزية محاولاً من خلال هذه الكتابات المهمة أن يصحح الصورة النمطية التي اعتادتها الشعوب في التعامل مع الأقليات .. ويذكر له تعاونه المثمر مع رفاق دربه من المثقفين الايزيدين الذين آلوا على أنفسهم الجهد للخروج بالايزيدية من نفق الركود المعتم وتقديمها للعالم بالصورة الصحيحة لها فكان تعاونه مع الدكتور خليل جندي المختص بالايزيدياتي والمغفور له بابا عيدو شيخ من أهم المحطات البحثية الايزيدية
تولى المرحوم بير خدر سليمان العديد من المناصب الثقافية والحكومية في كوردستان فكان أول رئيس لفرع اتحاد الكتّاب الكرد في دهوك وكان هذا بمثابة تكريم للايزيدية جميعاً .. ولأنه كان يعلم أنه لابد من مظلة ثقافية اجتماعية تجمع بني جلدته معاً فكر مع رفاقه في تأسيس مركز لالش الثقافي والاجتماعي الذي أصبح رأساً على علم وكان أول رئيس له بالإضافة إلى رئاسته لدوية لالش التي تصدر عن مركز لالش كل ثلاثة شهور .. بالإضافة لإشرافه على مناهج الدينية الايزيدية المقررة للدراسة للطلبة الايزيديين كذلك شغل منصب العضوية في البرلمان الكردستاني.
بعد اجتياح رايات الظلام الداعشية لمناطق الايزيدية قام بير خدر سليمان، في الثامن عشر من شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2014 بحرق مكتبته وما كانت تضمه من مؤلفات وأبحاث .. احتجاجاً على هذه الإبادة التي تعرضت تعرض لها بني جلدته والفجائع التي ارتكبت بحقهم وكأنه يحمل التاريخ ويشهد العالم أجمع على هذه الكارثة التي حدثت على مرأى من الإنسانية المفقودة وقد كتبت شخصياً حينها من صدمتي على حرقه لمكتبته مقالاً بعنوان “هذا الرجل يشرفني أني أعرفه”
كتبت هذه المقال في عام 2014 وانا حتى الآن أقولها مراراً وتكراراً هذا الرجل يشرفني أني عرفته في يوم من الأيام وما يزال يشرفني اني أعرفه حتى بعد رحيله جسداً لكنه خالد الروح والعلم والإنسانية التي كان لديه … ومواقفه الكثيرة معي وذكرتها مراراً ولا أنساها أبداً وكذلك مواقفه الرائعة مع كل طالب علم ومعرفة جاء إليه يحمل الكثير من التساؤلات عن حقيقة الايزيدية وكانت رحابة صدره مثالاً حياً ومجسداً ليعطي للآخرين الصورة الناصعة لهذه الأقلية المسالمة والموحدة بالله والتي لم ترجو غير أن تعيش بسلام وأمان
كنت أتمنى أن أكون حاضرة في كوردستان وقت كان موجوداً بها هذا العام لكن من أسف أن زيارته لكوردستان كانت بعد عودتي منها وكأنه كان على موعد مع القدر هناك … وكأنه كان يشعر أنه يجب أن يرقد في ارضه وبين ذويه بعيداً عن برودة الغربة وصقيعها فكان كما ولد وخرج للدنيا من “عين سفني ” بلدته ومسقط رأسه عام 1952م كان عليه أن يودع هذه الدنيا بعد رحلة طويلة ليختتم حياته في مسقطك رأسه عام 2021م بعد ان قدم للايزيدية طوال سنوات حياته من الجهد العلمي ومن التضحيات ليستطيع أن ينشر كتبه ومقالاته وأن يساهم في النهوض بهم الكثير
يتبقى لي قول صغير أو اقتراح صغير أقدمه للغاليين أسرته الكريمة السيدة الغالية الحبيبة زوجته الكريمة أم أديان وأبنائه الأعزاء .. أتمنى منكم ألا تحرموا طلابه ومحبيه من مكتبته التي تبقت عنه فإذا كان من الممكن أن يتم تخويل جزء صغير من بيته في مسقط راسه ليكون متحف بضم مقتنياته ومكتبة عامة لمن يود الاطلاع على كتبه وأبحاثه بعد استنساخها وما جمعه من مؤلفات لخدمة الشأن الايزيدي لأن تركة العلم تخلد صاحبها مهما أخذ التراب جسده وأبلاه فيبقى علمه وما تركه في نفوس الآخرين منارة تبقيه خالداً … أكتب عنه كلماتي هذه وتعتصرني دمعاً وروحاً ألم فقد هذا الصرح العظيم من الإنسانية
رحم الله بير خدر سليمان هذا الرجل الذي يشرفني أني عرفته ومازلت وأسكنه فسيح جناته
د.عايده بدر
21 ديسمبر2021