تحدثنا في الجزء الأول.. عن حتمية التاريخ، والسنن الكونية الثابتة، المستقرة منذ خلق السماوات والأرض، بأن تحرير فلسطين والقدس، لن يحصل بأي شكل من الأشكال، إلا بعد تحرير الأردن، وسورية، وكل البلدات والقرى المجاورة، والمحيطة بالقدس!
وذكرنا مسيرة التاريخ في بداية الفتح الإسلامي، وكيف أن الجيوش الفاتحة، توجه قسم منها إلى العراق، بقيادة سيف الله خالد بن الوليد، وقسم منها توجه نحو الشام، بقيادات متعددة، وأنه بعد ثلاث سنوات من الجهاد المتواصل، منذ العام الثاني عشر في عهد أبي بكر الصديق، إلى العام الخامس عشر في عهد عمر بن الخطاب، وبعد تحرير، وفتح جميع مناطق الأردن، وفلسطين، وسورية وحتى حدود أرمينية، تم حينئذ فتح القدس، على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستلم مفاتيحها من الكهنة والأحبار الرومان.
ونتابع في هذا الجزء الثاني، سرد مسيرة التاريخ، أثناء احتلال الفرنج للقدس، لمدة إحدى وتسعين سنة، وكيف تم تحريرها، بعد جهاد طويل وشاق، استغرق أربعون سنة تقريباً، حتى تم تحرير سورية والأردن بشكل كامل.
ولتثبيت، وترسيخ هذه الحقيقة التاريخية الحتمية، حول أهمية موقع سورية الاستراتيجي، نقتطف أقوال هرقل قيصر الروم، عن نظرته الثاقبة لدور سورية الريادي، وعشقه، وهيامه بها قبل فتحها، وتحسره عليها بعد فتحها، وتنبؤاته بأن الروم قد خسروها إلى الأبد، ولن يعودوا إليها!
كان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلَف سورية وظعن في أرض الروم التفت فقال: (عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد..)
فلما تم فتح سورية كلها علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية وقال: (عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً، حتى يولد المولود المشؤوم، ويا ليته لا يولد! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم! (13).).
وفي رواية لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية فقال: (قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً، حتى يولد المولود المشؤوم، وليته لم يولد!) ومضى حتى نزل القسطنطينية. (14).
وفي الحروب الصليبية، تم تحرير سورية والأردن أولاً
وحينما جاء الإفرنج، إلى بلاد الشام في الحروب الصليبية في عام 491 واحتلوا القدس، في السنة التالية، وبقوا فيها حتى عام 583 لم يتم تحريرها مباشرة.
وإنما تم تحرير أولاً سورية، والأردن بشكل كامل، واستغرق هذا التحرير وقتاً طويلاً، بدءاً من 539 حينما استطاع عماد الدين زنكي بن آق سنقر، تحرير الرُها كأول مدينة من أيدي الصليبيين في ذلك العام (15) ومن بعدها جاء ابنه نور الدين محمود، الذي تولى قيادة الجهاد، بعد موت أبيه في 541، واستمر في درب الجهاد الشائك، القاسي حتى مات في شوال سنة 569، يعني 28 سنة دون كلل ولا ملل ولا توقف!
فأخذ يحرر حصناً وراء حصن.. ففي عام 545 فتح حصن أفامية، وانتصر على جوسلين ملك الإفرنج المسيطر على شمال حلب، فتمكن من تحرير حصونه مثل: تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وحصن البارة، ومرعش، ونهر الجوز، وغيرها (16).
استيلاء نور الدين على دمشق
وفي 549 استولى على دمشق، بعد أن طرد ملكها مجير الدين آبق، الذي كان يتعاون مع الفرنجة، ويعدهم بتسليم بعلبك، لقاء مساعدته في منع نور الدين من السيطرة على دمشق، التي كانت تعتبر مركزاً حيوياً، وأساسياً في مقاومة الفرنج، خاصة بعد استيلائهم على عسقلان، السنة التي قبلها، فكانوا يهددون دمشق!! فلذلك استبق نور الدين، وسيطر عليها، لتكون مقدمة لتحرير ما بعدها، ومن ثم صولاً إلى القدس (17).
واستمر نور الدين محمود، في درب الجهاد، وتحرير القلاع، والحصون، والمدن من الصليبيين.. ففي سنة 550 حرر بعلبك، وفي سنة 551 حرر قلعة حارم (18)، وفي سنة 552 استولى على قلعة شيزر، القريبة من حماة، وعلى بعلبك، وقلعتها الحصينة.
وفي 559 فتح مدينة بانياس، وأرسل أسد الدين شيركوه بن شاذي، ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، إلى مصر، لملاقاة الفرنج، الذين هجموا على مصر، فانتصر عليهم (19). وفي 561 فتح حصن المنيطرة، القريب من طرابلس، وقتل خلقاً كثيراً من الفرنج، وغنم أموالاً جزيلة.
القضاء على الدولة العبيدية في مصر
وبعدها توالت الأحداث، في درب الجهاد الطويل، فتمكن صلاح الدين، من تدعيم أركان حكمه في مصر، وتمكن من القضاء على الدولة العبيدية اللعينة، التي كانت كالسرطان الخبيث في جسم الأمة، استمر 208 سنوات من 359 إلى 567.. وكان هذا مقدمة أيضاً، للتخلص من البؤر الفاسدة، المتغلغلة في جسم الأمة، وبالتالي.. الانطلاق إلى التفرغ إلى محاربة الفرنج، وتحرير البلاد التي احتلوها.
معركة حطين وتحرير القدس
وفي 25 ربيع الآخر 583 حصلت المعركة الميمونة المشهورة، حطين قرب طبرية، وشمال القدس، فانتصر المسلمون انتصاراً باهراً، على الفرنج، وبعد ثلاثة أشهر من هذه المعركة الفاصلة وفي 27 رجب 583 تمكن المسلمون من تحرير القدس، بعد احتلال الفرنج لها لمدة 91 سنة، وبعد جهاد، دام لحوالي أربعين سنة مستمرة، في تحرير الأرض وراء الأرض، والمدينة وراء المدينة، وتعاقب على هذه المسيرة، ثلاثة من عظماء، وكبار القادة: عماد الدين زنكي، ثم ابنه محمود نور الدين، ثم صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وهكذا يثبت لنا التاريخ، والقانون الرباني الثابت.. أن طريق القدس؛ طريق شائك؛ مفروش بالجماجم؛ والأوصال؛ والدماء؛ وليس طريق نزهة، أو سياحة، أو لعبة بالأرقام، أو التنبؤات، أو التنجيم!
وأنه لا بد أولاً: من تحرير الأردن، التي لها الحدود الأطول مع فلسطين، وتحرير سورية، ولبنان التي هي في الأساس جزءً من سورية، وكذلك مصر، ومن ثم.. تنطلق حينئذ كتائب المجاهدين الصادقين، المخلصين، المؤمنين، من هذه المناطق كلها، بعد إحكام السيطرة عليها، وطرد الطغاة، والمستبدين المتحكمين فيها، والمتعاونين أصلاً مع الكيان الصهيوني، إلى تحرير فلسطين شبراً شبر، وقرية قرية، حتى الوصول إلى القدس.
فإن لم يتم تحرير تلك المناطق، فلا يمكن البتة تحرير فلسطين، ولا المسجد الأقصى!
هذا قول فصل، وليس بالهزل، وكل من يزعم خلاف ذلك، فهو واهم، وخطَّاء، ويعارض مسيرة التاريخ، ومسيرة السنن الكونية.
11/11/1443 11/6/2022
المصادر:
13- الكامل لابن الأثير ج2 ص342
14- تاريخ الطبري ج3 ص603
15- الكامل لابن الأثير ج9 ص331
16- الكامل لابن الأثير ج9 ص366
17- الكامل لابن الأثير ج9 ص398-399
18- الكامل لابن الأثير ج9 ص 406
19- البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص174