“نزلوا” مطالبين بحقوقهم فكان رد السلطة استهدافهم بالقتل والخطف والتهجير
وقع حسين محمود في “المحظور الأكبر” حين طالب في أوائل 2020 عبر وسائل التواصل الاجتماعي بوقفة احتجاجية ضد الحكومة العراقية أمام منزل المرجع الشيعي علي السيستاني في النجف، بهدف دعم مطالب عشرات آلاف الشباب المحتجين ضد الطبقة السياسية.
كان ذلك كفيلاً ليحوّله المتربصون به من مجرد متظاهر يطالب بإصلاحات إلى “إرهابي يحاول اغتيال” أعلى مراجع الطائفة الشيعية والرجل الاكثر تأثيرا في البلاد، بحسب ما ورد في حملة استهداف جرى الترويج لها عبر قنوات فضائية محلية وفي وسائل التواصل الاجتماعي. يتهم محمود نواباً من أحزاب شيعية متحالفة ومسيطرة على الحكومة بالوقوف وراءها: “هم لايتورعون عن إتهامك بأي شيء يخطر في بالهم إذا ما استشعروا بخطورتك على مصالحهم”. لاحقا اضطر حسين مع عشرات الناشطين الآخرين إلى الفرار نحو مدينة السليمانية في اقليم كردستان حين اشتدت حملات استهدافهم.
حوّل محمود مع بدء الاحتجاجات نهاية 2019 مطعماً للأكلات الشعبية يملكه قرب ساحة التحرير في قلب العاصمة بغداد، إلى مطبخ يمد المحتجين بالطعام والشراب الى جانب مستلزمات الحماية من قنابل الدخان المسيلة للدموع التي كانت أجهزة الأمن تلقيها عليهم.
ثم انتقل إلى الإسهام المباشر في الاحتجاجات، فهو ينسب إلى نفسه تأسيس تجمع “معتصمو ساحة التحرير” ويقول بأن 200 خيمة احتجاج ضمت أعضاءه في الساحة. وزار ساحات الاحتجاج في المحافظات الأخرى كساحة الحبوبي في مدينة الناصرية واجتمع بقادة تنسيقياتها لتوحيد الخطاب.
الاحتجاجات الشعبية ضد الطبقة السياسية في العراق بدأت من ساحة التحرير في بغداد خلال تشرين الأول/أكتوبر2019، ثم انتقلت إلى محافظات جنوبي العراق، ليُعرف المعتصمون وجلهم من الشباب لاحقا في الشارع العراقي بـ”ثوار تشرين”.
قابلتهم قوات الأمن وميلشيات تابعة لجماعات مشاركة في الحكومة التي كان يترأسها عادل عبد المهدي (عرفت إعلامياً بالطرف الثالث) بالرصاص الحي، ليقتل نحو 600 محتج ويصاب 17000 بجراح خلفت 3000 إعاقة جسدية، فضلاً عن اختطاف العشرات واضطرار المئات الى اللجوء إلى إقليم كردستان أو إلى خارج البلاد، وكان حسين محمود واحداً منهم.
جزء من ذلك الرقم الكبير من الضحايا، لم يسقط خلال قمع الاحتجاجات، بل عبر عمليات اغتيال مباشرة باسلحة نارية ومسدسات كاتمة، جرت في مناطق مختلفة من البلاد وبشكل خاص في المحافظات الجنوبية.
الرحيل او الموت
يقول حسين محمود بصوت مرتفع فيه شيء من الانفعال: “دخلت في صدامات عديدة مع أذرع الميليشيات في ساحة التحرير وتعرضت إلى حملات تسقيط وتخوين في وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة جيوش الميليشيات والأحزاب الألكترونية، وعندما وصل إتهامي إلى محاولة اغتيال السيستاني، كان يعني هذا هدراً لدمي، وبالتالي وجب علي الرحيل”.
توجه الناشط البارز الذي “يحلم بوطن” مثل عشرات من رفاقه إلى مدن اقليم كردستان حيث هناك ادارة أمنية مستقلة بعيدة عن أيدي المليشيات، ومنها الى تركيا، لكنه ما لبث ان عاد الى السليمانية أواخر 2020 مجدداً بسبب تحديات وضعه الأسري والمالي، ولشعوره بأنه وحيدا هناك “لن يقدم شيئاً”، ثم قرر العمل مع نشطاء آخرين لتأسيس حزب “البيت الوطني” الذي ضم ناشطين شاركوا في الاحتجاجات إلى جانب شخصيات سياسية وثقافية واجتماعية.
بعد الملاحقات واضطرارهم إلى ترك مدنهم وعوائلهم، وجد عشرات الناشطين أنفسهم معزولين وضائعين وعاطلين بلا دخل يؤمن معيشتهم في بيئة جديدة لا يعرفونها.
“قرار الرحيل باعتباره الخيار الوحيد أمام عمليات القتل والخطف، لم يؤثر سلباً على حركة الاحتجاجات وحسب بل قلب مسار حياة هؤلاء وعوائلهم” يعلق سركوت علي، وهو شاب من السليمانية كان على احتكاك مع بعض الناشطين الفارين بحكم عمله في احدى المنظمات المدنية.
يقول علي، إن آمال النشطاء تحطمت سريعاً أمام الواقع الذي ظهر أمامهم “الغربة، وفقدان مصدر الدخل، وفشل الحركة الاحتجاجية”. ويضيف “كانوا يأملون ان تكون رحلتهم قصيرة لكن من الواضح انها ستمتد لسنوات وستكون قاسية ومريرة على كثيرين منهم”.
ينبّه علي الى ان فشل بعض الحركات التشرينية في تشكيل تكتلات او أحزاب سياسية ذات بنية قوية ومتماسكة، والانقسامات التي ضربت بعض القوى التي تشكلت، وفشل نشطاء الحراك في توحيد جهودهم سواء بالبرلمان او خارجه “بدد آمال الكثير من النشطاء بنهاية سعيدة لتضحياتهم”.
هنا يلفت الصحفي منتظر بخيت، الى ان نزوح الناشطين من محافظاتهم، أدى الى تذويب الحركات السياسية المنبثقة من داخل ساحات الاحتجاج التي كان من الممكن ان يشهدها العراق.
ويرى ان معظم النشطاء الشباب كانت لهم طموحات سياسية وان “نزوح قادة الاحتجاج وكاتبي بياناتها بعيدا عن بيئة الاحتجاج الحاضنة كان بمثابة تدمير لهذه الطموحات، وتحويل مسار المطالب من تغيير شامل الى محاسبة قتلة المتظاهرين، ما أثّر بشكل كبير على تحقيق الأهداف الرئيسية لتشرين”.
سيناريو مدروس
الكاتب والباحث العراقي غيث التميمي، يربط رحيل النشطاء بما يمكن اعتباره خطة لاضعاف الحركة الاحتجاجية، مُهِد لها بنشر الرعب عبر الاغتيالات وعمليات الخطف والاعتقال والتهديدات التي طالت الناشطين وعوائلهم وأثرت نفسيا عليهم وحالت في النهاية دون استمرار الاحتجاجات.
ويرى التميمي ان افراغ الساحات من الأسماء المؤثرة والعنيدة في ميدان الاحتجاج “كان سيناريو مدروساً أنتج تصدير قيادات وتشكيل قوى سياسية لا تلبي طموحات المتظاهرين”، وخلق حالة تفتت وانقسام ويأس. ظهرت نتائجها في مقاطعة المحتجين كما نحو 65% من العراقيين للانتخابات البرلمانية في تشرين 2021.
لتبرير استخدام العنف ضد المحتجين وعمليات استهدافهم التي تخلق الرعب وتحقق هدف إبعاد النشطاء عن بيئاتهم، لجأ الإعلام الممول من المليشيات والمقرب من السلطة الى توجيه الاتهامات للشباب المحتجين بتنفيذ توجيهات سفارات دول وتلقي الدعم المالي من الأمريكيين، او أنهم مدفوعون من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي (نظام الحكم قبل 2003) لإثارة الفوضى، كما يقول الباحث في الشأن العراق غربي عبد حسين.
ويضيف وهو يفرد سبابة يده وإبهامه على شكل مسدس ” كانت مثل هذه التهم تؤدي باستمرار إلى اغتيال محتجين أو اختطافهم من قبل عناصر مسلحة صورت كاميرات المراقبة بعضاً من جرائمهم لكن الجناة بقوا بعيدين عن المساءلة ووصفوا بالمجهولين حتى هذه الساعة على الرغم من أنهم معروفون للجميع”.
وكدليل على صحة ما ذهب إليه بشأن اتهام أحزاب السلطة للمتظاهرين بالعمالة لأمريكا يقول عبد حسين: “ارتفعت أعداد القتلى في صفوف المحتجين بشكل كبير بعد مقتل قائد الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني بقصف أمريكي استهدف موكبه بالقرب من مطار بغداد الدولي في 3/1/2020”.
بعد ذلك الهجوم، تعالت الإتهامات للمحتجين بتنفيذ اجندات خارجية ومعها تبرير عمليات استهدافهم، وباتت الميليشيات (الطرف الثالث) التي تحصل الكثير من فصائلها على دعم مباشر من إيران، تقول انها تعمل لحماية النظام الجديد (السلطة) في العراق.
وحين تحول التهديد بالتصفية الى حقيقة قائمة يواجهها المحتجون ومعهم ناشطون مؤيدون وصحفيون، لم يكن أمامهم من سبيل سوى البحث عن ملاذ آمن، حيث رصد مركز “ميترو” لحرية الصحافة وحده لجوء 71 صحفيا ومدوناً وناشطاً الى الاقليم في العام 2020.
ذكر المركز أن هؤلاء اضطروا الى ترك محافظاتهم والسكن في محافظات الإقليم (أربيل، السليمانية بشكل خاص) هربا من الملاحقة والاستهداف.
رقمٌ يجده الناشط في التظاهرات أكرم خضر عذاب، قليلاً قياساً بالأعداد الكبيرة التي يعتقد انها فرت من مصير الموت بأيدي عناصر الميليشيات كما كان سيحدث له مساء عودته إلى منزله قرب ساحة الفردوس في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، حين استهدفه مسلحون مجهولون بوابل من الرصاص من مسدساتهم المزودة بكواتم للصوت، أصابت ثلاثٌ منها أماكن غير قاتلة في جسده.
عمل أكرم قبل انخراطه في التظاهرات، كعامل تشغيل مولد كهرباء ديزل أهلي، وتردد مدفوعاً بحبه للثقافة إلى منتدياتها ونوادي القراءة في العاصمة وكانت له آراءه الخاصة المعارضة للوضعين السياسي والإقصادي في العراق.
وعند اندلاع احتجاجات تشرين الأول/ اكتوبر 2019 كان من أوائل المروجين لهاشتاك (# نازل_اخذ_حقي). واعتصم مع مئات آخرين في ساحة التحرير وساهم بدعمهم لوجستياً وكذلك إعلامياً من خلال ظهوره المتكرر عبر وسائل الإعلام متحدثاُ عن مطالبهم: “حين أفقت في المستشفى بعد ساعات من إستهدافي، قررت الرحيل عن بغداد، لأن بقائي فيها كان يعني موتاً أكيداً كنت قد نجوت منه تواً وبأعجوبة ولم تكد تنقضي أيام حتى غادرت بالفعل إلى أربيل وها أنا منذ نحو عام ونصف عاطل عن العمل ولا أعرف ما ستحمله لي الأيام”.
يشعر أكرم بالقلق من مسألة العودة إلى بغداد، إلا بعد خلوها من الميليشيات، كما يرفض فكرة الخروج من البلاد. هذا الرفض يوجهه أيضاً لتنظيمات سياسية دعته للانضمام اليها، وحجته في ذلك ” الساسة هم سبب الخراب الذي نحن فيه، فكيف بي أن أكون واحداً منهم!”.
ومثله، يرى مهدي المهنى (ناشطٌ من مدينة النجف) يقيم في محافظة أربيل، أن هنالك مخاطر كبيرة تكتنف عودته إلى مدينته التي فر منها مرغماً ولا جدوى أيضاً من الهجرة، شدد على العبارة الأخيرة مؤكداً أن الهجرة تعني الانقطاع عن عالمك والتخلي عن كل شيء.
ويؤيد المهنى الرأي القائل بأن “خروج الناشطين من محافظاتهم ساهم في تذويب الحركة الاحتجاجية وبقائها بأيدي غير رصينة ما أدى الى أفولها” لكن لم يكن أمامهم من خيار في ظل عجز الحكومة واستسلامها للمليشيات.
المهنى كان يُعِدُ في ساحة متأخرة من الليل قصيدة لقراءتها في حفل استذكار مجزرة النجف التي عرفت بمجزرة ساحة الصدرين التي وقعت في 5 شباط/فبراير 2020 باستهداف مسلحين تابعين للتيار الصدري يعرفون بـ (أصحاب القبعات الزرق) لمئات المتظاهرين وقتلوا 23 منهم وأصابوا 182 بجراح، لحظة فوجئ بمجهولين يهاجمون منزله بقنابل المولوتوف: “ربما فعلوا ذلك لمنعي من المشاركة في الحفل أو بسبب عملي منسقاً لإحدى المنظمات الدولية في النجف قبل اندلاع احتجاجات تشرين 2019 أو لآرائي السياسية المعارضة للطبقة السياسية في العراق”.
أسباب عديدة يجدها كافية لإستهدافه، فضلاً عن قيامه بعد فترة من احتجاجات تشرين، بتأسيس جماعة “اللاعنف وكوخ الثورة” التي تبنت اصدار اغلب البيانات التي تُليت في ساحة احتجاج النجف. كما كان مشرفاً على منصة الكترونية يتابعها أكثر من 30 الف شخص تنقل اخبار ساحات الاحتجاج كافة من خلال خلق شبكة من الصحفيين توزعوا على العديد من المحافظات.
يوم 25\2\2021 اعتلى مهدي، منصةً أمام حشد من المحتجين في ساحة النجف وقرأ قصيدة يدين فيها قتلة صفاء السراي ومهند القيسي وعمر السعدون الذين كانوا من الوجوه البارزة في الاحتجاجات.وما أن تعالت الهتافات من حوله منددة بالانتهاكات التي تطال الشباب حتى ظهرت مجموعة من المسلحين وهم يهددونهم باطلاق النار، ليضطر الجمع إلى التفرق والتواري وكان من بينهم شعراء قدموا من محافظات أخرى.
أحس مهدي بأن التهديدات بتصفيته باتت جدية فغادر إلى مدينة الكوت، لكنه لم يمكث هناك طويلاً إذ لاحقته التهديدات هناك فلجأ إلى العاصمة بغداد وبعدها بأيام انتقل إلى أربيل بمساعدة من إحدى منظمات حماية المدافعين عن حقوق الإنسان والتي تكفلت بمعيشته في أربيل لبعض الوقت قبل أن يحصل على فرصة عمل في منظمة أخرى ويستقر في المدينة.
“عناصر الأمن لم تحمنا”
من السليمانية يقول صائب فالح الناشط القادم من ميسان، إن العودة إلى هناك بالنسبة للكثيرين ما تزال مستحيلة بسبب ما قد يتعرضون له، فأن تكون محتجّاً على السلطة او حتى معارضاً سياسياً قد يعني فقدانك لحياتك في العراق.
هو يعد نفسه من المحتجين الأوائل ضد سياسات الحكومات المتعاقبة، فقد أسس سنة 2011 منظمة تعنى بمراقبة حقوق الانسان ودعم الديمقراطية بمعية مجموعة من اصدقائه أطلقوا عليها أسم “تبني”.
تركّز نشاط المنظمة على بناء قدرات الشباب في محافظة ميسان ورصد وتوثيق انتهاكات حقوق الانسان هناك. يقول فالح إنه بسبب ذلك النشاط “كانت المنظمة تتلقى تهديدات بين حين وآخر، الا أن اعضاءها أصروا على الاستمرار”.
في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أصيب صائب بطلق ناري في يده اثناء تصويره تعرض المتظاهرين للرصاص الحي في ساحة الاحتجاج بمحافظة ميسان. يقول بشيء من الزهو “ذلك لم يثنني عن الاستمرار في نشاطي الذي واصلته في الأيام التالية”.
لكن “تبني” واجهت بعد ذلك حملات تسقيط وتخوين عبر وسائل التواصل الإجتماعي، قادها، بحسب صائب، “مؤيدون للأحزاب الفاسدة”. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تعرض مجيد الزبيدي وهو أحد مؤسسي “تبني” في 30 تشرين الاول/أكتوبر إلى محاولة اغتيال عند عودته إلى منزله من ساحة الاحتجاج، فقد اخترق طلق ناري بطنه.
يقول صائب، وابتسامة ساخرة على وجهه: “بعدها أقرّ عناصر في الأجهزة الأمنية انها غير قادرة على حماية افراد المجموعة وأن حياتنا أصبحت في خطر حقيقي”.
ذكريات تلك الأيام العصيبة كما يصفها مازالت ماثلة وبقوة في ذهنه خاصة بعد أن تحولت التهديدات إلى واقع حين اغتال مسلحون في السادس من تشرين الثاني/ديسمبر 2019 مدير برامج “تبني” أمجد الدهامات وهو على بعد 500 متر فقط من مقر قيادة شرطة ميسان، ومعها أجبر مع سبعة من رفاقه على ترك المحافظة والتوجه مع أفراد عائلاتهم الى بغداد ومنها الى تركيا التي مكثوا فيها لنحو عام ليعودوا تحت ضغط مشقة الحياة إلى البلاد ويقيموا في السليمانية.
شارك صائب بعد ذلك في تشكيل حركات سياسية وأحزاب منبثقة من حركة احتجاجات تشرين وساهم في كتابة أنظمتها الداخلية إلا أنه لم ينتمِ الى أي واحدة منها.
يقول وهو يشيح بوجهه الى النافذة “ما حدث لنا أنهى كل آمال عودتنا الى ميسان خصوصاً ان استهداف افراد المنظمة استمر حتى بعد انتهاء نشاطاتها هناك، اذ تعرض زميلنا جواد الحريشاوي بعد رحيلنا بأقل من عشرين يوماً إلى محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة”.
يضيف بينما تلتمع عيناه “ربما يريدون من خلال استهدافنا زرع الرعب في المحافظة، والتذكير الدائم بأنهم يسيطرون على كل شيء ولن يسمحوا بأي حراك يعارضهم”.
يزورون سرا عوائلهم
يقول ناشط آخر، رفض ذكر اسمه حماية لعائلته، إن “عيون المليشيات تترصدهم ..نعم هناك ما يشبه الهدنة منذ أشهر لأن العصائب والكتائب وغيرها منشغلة بالصراع مع الصدريين ولا تريد ان تفتح جبهة في غير صالحها، لكن في أي لحظة قد تعود الاغتيالات فلا شيء تغير”.
ويضيف الناشط الذي يتردد على بغداد بشكل متقطّع، مثل نشطاء آخرين دون الاعلان عن ذلك “لا شيء يردعهم، فالأمن والقانون لا وجود لهما، وكل الاغتيالات أفلت منفذوها من المحاسبة وهم طلقاء يتحركون بلا خوف”.
الناشط يلقي باللوم على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لأنه لم يبد حزماً في مواجهة المليشيات وضبط الأمن وتطبيق القانون رغم التأييد الشعبي والدعم الاقليمي والدولي الذي حظي به في بداية ولايته “لم يفعل شيئا فيما كانت المليشيات تفتك بالمحتجين.. ومن هرب منهم لم يجد الدعم.. بل حتى عوائل الضحايا اليوم منسية تبحث عن حقوقهم، وغالبية الجرحى يعانون من الاهمال ويغرقون في دوامة متطلبات علاجهم”.
يتابع: “يقولون ان رئيس الحكومة عاجز عن حماية نفسه فكيف يحمي النشطاء، هذا صحيح فهو من فعل ذلك بنفسه”، مشيرا الى ان شخصيات ثقافية التقت الكاظمي مؤخرا ونقلت عنه استياءه الشديد ويأسه وعجزه التام عن فعل أي شيء.
تعطل التحقيقات الأمنية وافلات كل منفذي الاغتيالات تقريبا من العقاب، وتأكيدات الأجهزة الأمنية بعدم قدرتها على حماية قادة الاحتجاجات والنشطاء المدنيين بل وعدم تمكينهم من حماية انفسهم بشكل شخصي، تظهر حجم الخطر الذي يمكن ان يتهدد هؤلاء اذا عادوا لمحافظاتهم.
يقول الناطق الرسمي لوزارة الداخلية العميد خالد المحنا انه لا يمكن توفير الحماية اللازمة للناشطين العائدين “الا لمن يحدد الجهة التي هددته”، وان هناك فئات محددة فقط بإمكانها حيازة السلاح برخصة كالمحامين والصحفيين والأطباء، والناشطون المدنيون ليسوا ضمن تلك الفئات.
لكن صعود بعض الحركات التشرينية الى البرلمان ربما يشكل بارقة أمل، إذ يشير منار العبيدي من حركة “امتداد” السياسية المنبثقة من ساحات الاحتجاج والتي فازت بتسعة مقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الثاني/أكتوبر2021، أن ملف الناشطين المهددين والقاطنين في إقليم كردستان محل اهتمامهم وهو يندرج ضمن ملف سيادة القانون وحصر السلاح بيد الدولة الذي تعمل عليه الحركة: “لطالما نادينا بحصر السلاح بيد الدولة منذ كنا في ساحات الاحتجاج والآن سننقل نداءنا الى قبة البرلمان وسنسعى إلى تحقيقه وان كان الأمر صعباً جدا. سنعمل كل ما نستطيع لعودة الناشطين ومزاولتهم لنشاطهم كما في السابق”.
لكن الحركة التي كانت تشكل أملا للكثير من الناشطين، عانت مع انطلاق عملها البرلماني من أزمات بسبب الخلاف في الرؤى بين نوابها، وضربتها الانشقاقات وباتت غير قادرة على القيام بأي تحرك جدي، في ظل برلمان انقسم بدوره الى فريقين الأول يقوده الاطار التنسيقي والثاني يقوده التيار الصدري.
لن أكلفهم سوى رصاصة
“لازلتُ اشعر بالذعر كلما رأيت سيارة تشبه التي أطلقت عليَّ النار في البصرة”، تقول الشابة لوديا ريمون البرتي، وهي تضع يديها على عينيها.
مثل كثيرين غيرها من الناشطات والناشطين الرافضين للوضع القائم في العراق، تعرضت لضغوط وتهديدات ترجمت بمحاولة اغتيال نجت منها ولم يكن أمامها سوى التنقل من مدينة إلى أخرى حتى استقرت في السليمانية.
لوديا كانت تجيد الاعمال اليدوية وتعمل منسقة لمشاريع بعض المنظمات الدولية والمحلية في البصرة، وشاركت في احتجاجات العام 2018 وظهرت في فيدوهات على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تهتف ضد المليشيات والحكومتين المحلية والمركزية، وهذا كان سبباً لتلقيها سيلا من التحذيرات والتهديدات لاسكاتها وإبعادها عن الاحتجاجات.
لكنها لم تترك البصرة الى حين تعرضت، وفقاً لما تذكره، إلى “حملة تخوين” بسبب انتشار صورة لها في الفيسبوك مع القنصل الامريكي. سافرت على اثر ذلك الى أربيل لتمكث فيها اسبوعين حتى هدأت أوضاع البصرة فعادت لتمارس عملها السابق إلى حين اندلاع احتجاجات تشرين الأول 2019 فتركت العمل وتفرغت لدعم المتظاهرين لوجستياً.
تفاخر لوديا بأنها كانت من أبرز الوجوه النسوية المشاركة في الفعاليات المنددة بقتل المتظاهرين، ووثقت العديد من حالات انتهاك حقوق الانسان وتعرض المحتجين للرصاص الحي في ساحة احتجاجات البصرة: “تعرضت للكثير من التهديدات لكنني لم آخذها على محمل الجد” تقول لوديا وهو تشير إلى هاتفها قبل ان ترفع رأسها وتقول بكلمات متقطعة “ذات يوم أتصل بي شخص لا أعرفه وقال بأنني لن أكلفهم سوى رصاصة واحدة فقط”.
تصمت لبرهة ثم تجمع كفيها وتقربهما إلى صدرها وتتابع “أرادوا اخافتي لكي اصمت وعندما رفضت حاولوا قتلي… شيء لا يصدق، بالفعل حاولوا قتلي وكادوا أن ينجحوا في ذلك”.
وتروي كيف أنها كانت متوجهة مع رفيقين الى عزاء صديق لهم كان قد أغتيل قبلها بيومين، حين تعرضت معهما الى محاولة اغتيال أمام منزلها، جرحت على اثرها في احدى ساقيها: “تركت البصرة بشكل نهائي يومها وجئت إلى السليمانية لأواجه الغربة والوحدة والخوف من اللحاق بي وقتلي” فهم يترصدون كل حركاتك ويتابعونك دون قلق من الحكومة فلا شيء يردعهم.
تعيش لوديا الآن في احدى كنائس السليمانية بلا عمل يؤمن متطلبات حياتها، وتعتاش على ما يصلها من أهلها في البصرة. هي لا تستطيع الهجرة الى اوروبا كما فعل بعض زملائها لعدم قدرتها على تحمّل تكاليف السفر، ولا تستطيع العودة الى البصرة ففرق الموت تترصدها هناك، ولا شيء تغير يمكن ان يشجعها على العودة، ما حصل هو ان كثير من النشطاء تركوا المدينة والآخرون تعهدوا بالصمت.
يعلق (ع. أ) وهو مصور صحفي وثق العديد من قصص الناشطين الفارين من فرق الموت والذين وجدوا في مدن اقليم كردستان ملاذاً: “تتشابه قصصهم، تهديدات ومحاولات خطف واغتيال، بهدف ترويعهم واسكاتهم للأبد او إجبارهم على الخروج لتفريغ ساحات الاحتجاج من وقودها”. ويتابع: “رغم كل شيء مازال معظمهم يفاخر بما قاموا به، فقد نجحوا في زلزلة الطبقة السياسية وإسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وان جاء ذلك بعد تضحيات هائلة بسقوط مئات من رفاقهم بين قتيل وجريح الى جانب تشريدهم فباتوا تائهين في مدن غريبة بلا عمل ولا أمل بتغيير حاسم قريب”.
بينما يتحسر عشرات النشطاء الشباب على مآلات “انتفاضتهم” ويتحدثون بألم عن أزمات حركة “امتداد” وعن الخلافات التي تضرب حزب “البيت الوطني” وهو احد اكبر الاحزاب التشرينية التي لم تشارك في الانتخابات، مازال الناشط الشاب (ع.ت) يبدي شيئا من التفاؤل. ويرى ان اليأس الذي يشعر به بعض النشطاء لن يمنع من بدء موجات احتجاج جديدة يشارك فيها نشطاء الداخل كما الخارج الذين يشدهم الحنين الى مدنهم والى ساحات الاحتجاج فيها “مدفوعين بأمل بناء وطن وخلق مسار جديد للعملية السياسية”.
أنجز التقرير بدعم من شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية ونشر على موقع درج.