برزت تركيا خلال الأيام الماضية، وبصورة غير مباشرة، كساحةٍ انعكس عليها التوتر المتصاعد بين إسرائيل وإيران، الذي يتوقع مراقبون أنه سيأخذ مسارات أكثر حدّة خلال الأيام المقبلة، ضمن سياق “الحرب الاستخباراتية”، التي تدور جميع تفاصيلها في الخفاء.
واتضح هذا الانعكاس بصورة أكبر، الاثنين، مع التحذيرات التي أطلقتها إسرائيل لرعاياها الموجودين في تركيا بضرورة المغادرة في “أسرع وقت”، على خلفية التهديدات الإيرانية الأخيرة باستهداف إسرائيليين.
وقال وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد في بيان: “بعد محاولات إيرانية لتنفيذ هجمات إرهابية ضد إسرائيليين يقضون إجازاتهم هناك، ندعو الإسرائيليين إلى عدم السفر إلى اسطنبول أو تركيا، إلا إذا لزم الأمر”.
وتعتبر تركيا وجهة مفضلة للسياح الإسرائيليين، الذين تزايدت أعداداهم بحسب بيانات رسمية، بعد التقارب الأخير الذي حصل بين إسرائيل وتركيا، والخطوات التي أعلن عنها، ضمن مسار إعادة تطبيع العلاقات.
وبحسب معطيات وزارة السياحة التركية، فقد تجاوز عدد السائحين الوافدين من إسرائيل في الفترة من شهر يناير إلى أبريل 157 ألف سائح، بزيادة قدرها 632 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.
وخلال هذه الفترة، ارتفعت نسبة السياح الإسرائيليين من بين السياح الذين يزورون تركيا إلى 2 بالمئة.
ماذا حدث؟
جاء تحذير لبيد بعد تقارير كشفت عنها وسائل إعلام إسرائيلية، بأن “مسؤولين أمنيين إسرائيليين أحبطوا هجوما إيرانيا على أهداف إسرائيلية على الأراضي التركية، الشهر الماضي”.
وأطلع مسؤولون أمنيون إسرائيليون نظراءهم في تركيا على نية تنفيذ الهجوم، وطالبوهم بالتحرك ضد البنية التحتية الإيرانية العاملة في البلاد.
وأوضح لبيد أن “مؤسسة الأمن الإسرائيلية ووزارة الخارجية ومكتب رئيس الوزراء يعملون بشكل مشترك في الأسابيع الأخيرة، وبجهد كبير للغاية، لإنقاذ حياة إسرائيليين، وبعضهم وصل فعلا إلى إسرائيل؛ وهم لا يعلمون أنه تم إنقاذ حياتهم”.
لكن، وعلى الطرف الآخر، كان هناك رواية رسمية مضادة، ترددت قبل حديث لبيد بساعات على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، بقوله إن “الرد سيكون في مكانه وليس في دولة ثالثة”.
ورفض زاده التعليق على ما تردد بشأن الهجوم الذي نفذ مؤخرا بالطائرات المسيّرة في أربيل، وأسفر عن مقتل اثنين من أعضاء جهاز “الموساد” الإسرائيلي، مؤكدا أن الرد على إسرائيل لن يكون في دولة ثالثة، وفق ما نقلته وكالة “أنباء فارس” الإيرانية.
أما فيما يتعلق بتركيا فقد أصدرت وزارة خارجيتها بيانا، الثلاثاء، جاء فيه أن “تحذيرات بعض الدول لمواطنيها من السفر لتركيا مرتبط بتطورات ودوافع دولية مختلفة”.
وسبق أن كشفت وسائل إعلام تركية، في فبراير الماضي، عن إحباط أجهزة الأمن التركية محاولة “خلية إيرانية” اغتيال رجل أعمال إسرائيلي يملك شركة أمنية ويعيش في تركيا، يدعى “يائير غيلر”.
وذكرت صحيفة “صباح” المقربة من الحكومة التركية، حينها، أن الخلية مكونة من 9 أشخاص، وقد ألقي القبض عليها، بعدما وصلت معلومات إلى فرع المخابرات في إسطنبول، عن خطة اغتيال رجل الأعمال، وبعد أشهر من المتابعة التقنية والفيزيائية.
لماذا تركيا على الخط؟
خلال الأسبوعين الماضيين فقط، هزت إيران سلسلة من الاغتيالات التي تسارع طهران لتحميل إسرائيل مسؤوليتها. وهذه الشخصيات تنوعت ما بين ضباط في “الحرس الثوري”، وآخرين من المرتبطين بالبرنامج النووي.
وتشي حوادث التصعيد هذه، والوتيرة المتسارعة للهجمات بـ”تحول بات ملاحظا في استراتيجية إسرائيل”، من خلال تنفيذ عمليات ضرب أكبر في الداخل الإيراني.
وذلك ما يخالف استراتيجية الطرف الأخير، الذي يعتمد ومنذ سنوات على الرد بساحات أخرى، مثل سوريا ولبنان والعراق والخليج، فيما تتجه الأنظار اليوم إلى تركيا.
عمر أوزكيزيلجيك، محلل السياسة الخارجية والأمن في أنقرة يرى أن “المنافسة تلوح في الأفق بين إيران وتركيا، بسبب خشية الأولى من القوة المشتركة لتركيا (الدبلوماسية والعسكرية)”.
ويقول الباحث لموقع “الحرة”: “لوقف تركيا، تحمي إيران حزب العمال الكردستاني في العراق وتدعم نظام الأسد في سوريا، وتحاول تخريب العلاقات التركية الإسرائيلية بمحاولات اغتيال في تركيا في الوقت الحالي”.
ولا تستخدم إيران المواطنين الإيرانيين في تركيا فحسب من أجل “تخريب العلاقات”، بل تستخدم أيضا “المواطنين الأتراك في مؤامراتها”، بحسب تعبير أوزكيزيلجيك.
ويضيف: “من خلال تجنيد الأتراك، تريد إيران تخريب علاقات تركيا مع إسرائيل”.
من جهته، يشير المحلل السياسي الإسرائيلي، يوآب شتيرن إلى أنه “ما يميز الفترة الحالية والتحذيرات الإسرائيلية هي أنها تتحدث عن استهداف مدنيين ومواطنين على الأراضي التركية”.
ويقول شتيرن لموقع “الحرة”: “لهذا السبب كما يبدو هناك نية أو مخطط إيراني للتصعيد، واستهداف المواطنين الإسرائيليين أينما كانوا”.
واختيار تركيا هو “أمر له أبعاده وإسقاطاته”، بحسب المحلل السياسي.
ويتابع: “يبدو هناك تصعيد بالمواجهة غير المباشرة بين إسرائيل وإيران. هذه المواجهة لا تحدث على الأراضي الإسرائيلية. بل في مناطق أخرى مثل الخليج والبحر وسوريا وغيرها وأخيرا تركيا”.
لكنه يضيف: “بفضل التعاون بين إسرائيل وتركيا تم التمكن من إحباط سلسلة من العمليات. هذا يدل على تعاون ممتاز، ويعتبر إنجازا للجهود التي حصلت خلال الأشهر الماضية”.
“4 طرق”
على مدار السنوات الماضية من الفوضى التي شهدها التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، اتسمت العلاقة بين تركيا وإيران، وهما دولتان متجاورتان بالتعاون وتبادل المصالح المشتركة.
وكان لكل من أنقرة وطهران مواقف داعمة ومتناغمة مع الأخرى، في تصالح تم وضعه في خانة “البراغماتية” التي اتبعها الطرفان.
وعلى الطرف المقابل، كان هناك ملفات تنافسية عدة بين أنقرة وطهران، لذلك تم وصفهما بـ “الأعداء والأصدقاء” في آن واحد.
وتقاطعت هذه الملفات في كل من سوريا منذ انطلاقة الثورة السورية فيها، وفي العراق أيضا، بالإضافة إلى أذربيجان التي تربطها مع إيران حدود طويلة.
وإضافة إلى الملفات المذكورة كان هناك “صدام خفي”، وارتبط بالعمليات التي اتجهت خلايا إيرانية لتنفيذها في المدن التركية، مستهدفة بها خطف معارضين، الأمر الذي قوبل بذات السياق من الجانب التركي، بمعنى “الإحباط بالرد الاستخباراتي”.
وهذه الخلايا يتنوع القائمون عليها ما بين أشخاص من حملة الجنسيات الإيرانية، أو التركية.
ويستعرض الباحث التركي عمر أوزكيزيلجيك “4 طرق تستخدمها إيران لتجنيد الأتراك”، أولها “استهداف الرجال الأتراك بالنساء الإيرانيات، وما يسمى بزواج المتعة”.
ويضيف الباحث: “الطريقة الثانية هي الجالية التركية الشيعية الصغيرة في تركيا، بينما الثالثة فهي عن طريق الإيرانيين الذين حصلوا على الجنسية التركية”.
أما الطريقة الرابعة، فيوضح أوزكيزيلجيك أن إيران تسعى لتنفيذ عملياتها من خلال “دفع مبالغ ضخمة من المال”.
وبينما لا يمكن منع الطريقتين الأولى والثانية “بشكل منهجي”، فإن الطرق الثالثة والرابعة “جديدة نسبيا”.
ويرى الباحث أن “تدهور الاقتصاد يجعل من السهل شراء المتعاونين الأتراك”.
وحين يتعلق الأمر بالإيرانيين الذين يحملون الجنسية التركية، فإن الإيرانيين منذ سنوات يأتون في المرتبة الأولى بالحصول على الجنسية التركية، عن طريق شراء منزل في تركيا.
وتساعد آلية العقار والشراء “آلاف الإيرانيين على الفرار من نظام الملا والوصول إلى الحرية في تركيا. ومع ذلك، فإنها توفر أيضا للمخابرات الإيرانية فرصة للتسلل إلى تركيا”، بحسب الباحث.
“لا تستطيع المواجهة”
في غضون ذلك يقول مدير المركز الأحوازي للإعلام والدراسات الاستراتيجية، الباحث حسن راضي، إن “إيران باتت على يقين أن الموساد الإسرائيلي يقف وراء الاغتيالات والضربات التي تعرضت لها في الداخل، خلال الأيام الماضية”.
ولذلك “هي تريد نوع من الرد الأقل، كونها لا تستطيع المواجهة المباشرة”.
ويضيف راضي لموقع “الحرة”: “تريد أن ترد لحفظ ماء وجهها أمام الرأي العام. ليس في تركيا فحسب، رغم أنها ساحة سهلة، ولها نفوذ فيها من خلال العصابات من مهربي المخدرات وتجار البشر”.
ويوضح الباحث أن “إيران جارة لتركيا، وبالتالي فإنها تستطيع العبور والخروج منها وإليها. هي ليست ساحة معقدة كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى في أمريكا اللاتينية وما شابه ذلك”.
ويتوقع راضي أن تشهد الأيام المقبلة “تصعيدا بين إيران وإسرائيل، على أن يصل إلى القمة في سبتمبر مع اجتماع مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية. في هذا التاريخ وإن تعاونت إيران سنرى تهدئة أما وبخلاف ذلك سيكون التصعيد على أعلى المستويات”.
ويتابع: “إيران تذهب دائما بالتصعيد والمواجهة إلى حافة الهاوية، ثم تعود لأنها ستواجه ضربات واستهدافات واسعة ليس فقط من إسرائيل بل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية”.
“تنافس إقليمي”
ويتقاطع حديث المراقبين بأن لجوء إيران إلى الرد في دولة أخرى، يتعلق بأنها “لا تستطيع العمل في الداخل الإسرائيلي”.
وحتى الآن لم تتضح ملامح “الرد” الذي تهدد به إيران ضد إسرائيل، وكذلك الأمر بالنسبة للتحذيرات التي أطلقتها إسرائيل لرعاياها في تركيا، والتي وصلت إلى “الدرجة الرابعة”. وهي أقصى درجة.
ويستبعد باكير أتاجان، مدير “معهد إسطنبول للفكر”، أن تتجه أنقرة إلى موقف “تصعيدي ومعلن”، ويقول: “تركيا لا تتعامل بنفس الأسلوب، وإنما بالخفاء وضمن ضربات موجعة غير معلنة. سياسة خطوة بخطوة وليس فورا. الرد على مراحل”.
ويضيف أتاجان لموقع “الحرة”: “ذلك يرتبط بأنها تعرف مصادر أعدائها، وقوتها وتأثيرها على الداخل التركي. تريد أن تحتوي المشاكل بهدوء ورحابة صدر لكي تقوم بواجبها في الأيام المقبلة”.
ويرى مدير المعهد البحثي أن “إيران تريد أن تخلق داخل تركيا مشكلة داخلية – بين اليمين واليسار وبين الطوائف المتعددة- لإعطاء صورة للداخل بأنه لا يوجد أمن وأمان ولا استقرار، وأن تركيا كحكومة لا تسيطر على أمنها”.
وفي ذات الوقت يربط أتاجان “التهديدات الإيرانية” بما يحدث في الشمال السوري.
ويضيف: “خاصة أن تركيا تتحدث عن الأمن القومي والاستقرار وتريد أن تتدخل في سوريا مجددا بعملية عسكرية، والتي تراها إيران حديقتها الخلفية التي تلعب فيها كما تشاء”.
وعلاوة على ذلك “هناك تنافس إقليمي” بين البلدين، بحسب الباحث، ومن “يريد أن يصبح الدولة الإقليمية الأكبر”.
ويتابع أتاجان: “إيران تريد إثبات أنها اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط، وأن تركيا لا تستطيع تحقيق ذلك، ولو حسّنت علاقاتها مع إسرائيل أو الدول العربية، والخليج بالخصوص”.
وبالنسبة لتركيا فإن “الخيار الوحيد للتعامل مع هذا التهديد الإيراني هو عمليات مكافحة التجسس”، وفق حديث الباحث التركي، عمر أوزكيزيلجيك.
ويقول: “يبدو من غير المحتمل أن تتمكن تركيا من معالجة الأسباب الممنهجة أو تغيير سياسات طهران”، متوقعا أن تشهد الأشهر المقبلة “زيادة في التوترات بين تركيا وإيران”.
ويرى أوزكيزيلجيك أن “أفضل ما يمكن أن تفعله تركيا هو توسيع علاقاتها وتحالفاتها ضد إيران. قد تكون زيادة التعاون مع إسرائيل والإمارات والسعودية وقطر والكويت وأذربيجان عوامل حاسمة للحد من التهديد الإيراني”.