في كل أزمة تمر بها أوروبا، نجدها تخرج منها أقوى مما كانت عليه قبلها، مفاجِئة توقعات مبغضيها والمُترَبّصين بها والمُتنَبّئين بسقوطها من قصيري النظر! فالقارة التي لطالما وُصِفَت بالعجوز، وظنها البعض متيبسة المفاصل، رأيناها في تعاملها مع ملف الغزو الروسي لأوكرانيا مفعمة بالحيوية، متفجرة بالطاقة ومتوحدة بشكل لافت للنظر في مواجته، بأفعال لا بأقوال، رغم بعض التلكؤ والتعثر هنا أو هناك. فهل سيستمر الأمر على هذا النحو!
المراقب للحراك الأوروبي تجاه الغزو الروسي، سيميز ظهور أدوار جديدة على مسرحه، قد تعيد ترتيب مراكز قواه مستقبلاً. فأمام التردد الذي شاب مواقف دول أوروبا الغربية في أيام الغزو الأولى، بسبب صدمتها تجاه ما لم تكن تتوقعه ولم تكن متهيأة لحدوثه، أخذت أوروبا الشرقية زمام مبادرة التضامن مع أوكرانيا، وهو أمر قد تفسره التركة الثقيلة للحرب الباردة وتجارب القهر التي إختبرتها هذه الدول أيام الإتحاد السوفيتي، وقد عَبّرَت عن ذلك بزيارة قياداتها وعلى أعلى المستويات الى كييف، لإعلان تضامنهم عملياً ومن أرض الحدث. فحينما توجه رئيس وزراء التشيك فيالا الى زميله المحاصر زيلنسكي، كان واثقاً أن بلاده بأكملها تقف خلفه في موقفه هذا. تبعه رئيس وزراء سلوفينيا يانشا الشعبوي الذي لا يعترف بقيم الغرب الديمقراطية كبوتين، لكن له شعبية بين مواطنيه. تلتهما الكابينة الحكومية البولندية، مدفوعة بذكريات بلادها المؤلمة مع روسيا. لتتوالى بعدها زيارات التضامن من ساسة إستونيا ولاتفيا ولتوانيا. بالمقابل لم يذهب أي من قادة دول أوروبا الغربية الكبرى كشولتز ودراجي وماكرون الى كييف حتى الأمس القريب، بإستثناء رئيس الوزراء البريطاني ورئيسة الإتحاد الأوروبي.
يرى البعض بأنه قد تم التعامل مع مخاوف الجزء الشرقي لحلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي وتوجساته من روسيا بلا مبالاة، ولم تؤخذ على محمل الجد بما فيه الكفاية من قبل دول جزءه الغربي، التي ظنت بأنها كانت على مسافة آمنة من مشاكل روسيا، وبمأمن من خطرها، بفضل علاقاتها الإقتصادية معها، وعلاقات بعض قادتها الشخصية مع بوتين. من ناحية أخرى، التأريخ وقرب الجغرافيا لهما فعلهما، إذ لا يوجد مكان في أوروبا تعرض للقهر السوفيتي أكثر من دول البلطيق تحديداً، ودول أوروبا الشرقية عموماً، ولا يزال معظم الناس هناك يتحدثون الروسية، ويتابعون التلفزيون الروسي من وقت لآخر، ويشاهدون مثلاً كيف تتم مناقشة سيناريو ضربة نووية ضد الغرب، أو غزو لدول البلطيق في حوارات حية، لذا هم يتعرضون لهذا الإرهاب النفسي بشكل دوري ولديهم فكرة حية عن خطر بوتين، ولذلك لم يعجبهم تبييض الغرب الساذج لصفحته. بالتالي لا عجب أن تكون أوروبا الشرقية في الصدارة عندما يتعلق الأمر بالتضامن مع أوكرانيا، لأن التجارب المريرة والجروح هي نفسها وألمها واحد، فالمواقف المعادية لروسيا تحظى بشعبية بين سكان هذه الدول، وعلى هذا الأساس يمكن لساستها الذهاب بعيداً، دون الحاجة للنظر في العواقب، كما هو الحال بالنسبة لساسة دول أوروبا الغربية. صحيح أن الحكومة الألمانية قد غيرت مسار سياستها الخارجية بمواجهة العدوان الروسي، لكن بالمقابل لا يمكن إنكار ترددها بشأن العقوبات في مجال الطاقة، التي قد لا تكون علامة ضعف بل ربما حكمة. مع ذلك تعطيك ألمانيا الإنطباع أنها تضع قدميها على الفرامل، فهي دائماً غير مواكبة للتطوارت فيما يتعلق بالعقوبات وتسليم الأسلحة والحلول الدبلوماسية. كل هذا مَثّل حتى الآن فشلاً ذريعاً لألمانيا كدولة رائدة في الإتحاد الأوروبي، وإذا بقي الحال كذلك فإن آخرين سيحلون محلها، بما في ذلك، للأسف، معارضوا الديمقراطية وسيادة القانون. وهذا يحتاج إلى التغيير لقطع الطريق على أمثالهم.
إن وضع الدول التقليدية ذات الثقل في الإتحاد الأوروبي بالنسبة للموقف من الأزمة الأوكرانية لم يكن جيداً حتى وقت قريب، وهذا له عواقبه، فليس من السهل التوفيق بين التردد والرغبة في الزعامة. بالتالي الوضع الجديد الذي ينتظر أوروبا بعد أزمة أوكرانيا قد يشمل تحويل التوازن بإتجاه شرقها، أي لسوء الحظ بإتجاه الشعبويين، الذين أخذوا زمام المبادرة خلال الأزمة، وهو موقف قد يُحسب لهم، لولا أن بعضهم يخفي مشروع مناهض للديمقراطية في جيبه. الحكومة البولندية مثلاً أرادت وضع القضاء والصحافة تحت سيطرتها، ودخلت قبل فترة في صراع مع بروكسل كاد أن ينتهي بالعقوبات! أما الحكومتان السلوفينية والهنغارية، فليستا بأفضل حالاً منها في رفضهما الغير مُعلن للقيم الديمقراطية الغربية، وفي شعبوية توجهاتهما وخطاباتهما.
من هنا جائت الزيارة الثلاثية للمستشار الألماني شولتز برفقة نظرائه، الإيطالي دراجي والفرنسي ماكرون، الذين يمثلون الدول الأوروبية الغربية الأبرز المؤسسة للإتحاد الأوروبي، إلى كييف قبل أسبوعين، لينضم إليهم فيما بعد رئيس وزراء رومانيا، بعد ثلاثة أشهر من زيارة رؤساء حكومات بولندا والتشيك وسلوفينيا وأستونيا ولاتفيا ولتوانيا، حتمية ولا يمكن تأخيرها، لقطع الطريق على إمكانية حدوث ذلك، ولتخرس مَن قد يطالب بذلك أو يلوح به بعد إنتهاء الأزمة مستغلاً هذه النقطة، ولإظهار أن ألمانيا ومعها دول أوروبا الغربية لا تزال تمسك بدفة قيادة سفينة الإتحاد الأوروبي، وهي التي بإمكانها إحداث الفرق على الأرض أو طاولة المفاوضات. فقد جائت الزيارة، أولاً لتقديم الدعم الإنساني والمالي الى أوكرانيا، وثانياً لتأكيد القوة والوحدة الأوروبية تجاه الإستهتار الروسي، وثالثاً للدفاع عن النظام الأوروبي الذي يدعم الحقوق والحريات ويرفض الإستبداد، ولإظهار الإستعداد لتوسيع نطاقه أوروبياً إلى أوكرانيا. وهذا ما عبر عنه زيلنسكي بعد لقاءه شولتز بالقول: “أود أن أشكر المستشار شخصياً، فألمانيا كسرت الجليد، ووعدتنا بتقديم مساعدات مالية وإنسانية طويلة الأمد، فضلاً عن توفير الأسلحة، ودعم ترشيحنا لعضوية الإتحاد الأوروبي”. ربما نجح شولتز بإستعادة الثقة في أوكرانيا بعد خلاف حول تسليم الأسلحة وزيارة كييف، من خلال هذه الزيارة التي بعثت رسالة قوية للتضامن، لكن عملياً لا تزال هناك الكثير من المشاكل. كيف ستتم عملية إنضمام أوكرانيا للإتحاد وخٌمس أراضيها يحتلها الروس؟ وأيّة معايير سيتم إعتمادها مع كييف؟ فقبل الحرب لم تكن الديمقراطية في أوكرانيا نموذجية بالنسبة للإتحاد! من ناحية أخرى يمكن للقرار أن يستفز دول البلقان، رغم أننا نتوقع أن شولتز قد جَس نبضها خلال رحلته إليها مؤخراً. فدولاً مثل ألبانيا ومقدونيا والبوسنة وكوسوفو، التي كانت تضغط على الإتحاد لقبول عضويتها، قد تشعر بالخداع، في مرحلة تعيش فيها المنطقة على فوهة بركان! بالتالي لا ينبغي للمرء أن يتوقع أن توفر الزيارة حلاً سحرياً للأزمة، لأن إحلال السلام من خلال التوصل لحَل تفاوضي مع روسيا يضمن سلامة أراضي أوكرانيا، لا يزال على ما يبدو أمراً مستبعداً.
بالتأكيد إحتشدت كل أوروبا حول أوكرانيا بشكل أسرع وأكثر تصميماً مما كان يتوقع أغلب الناس، وبالتأكيد هناك إجماع على أن الغزو الروسي لا يغتفر، وقد تم تزويد أوكرانيا بالأسلحة والوسائل الأخرى لحربها الدفاعية. لكن تبقى الكلمات شيء، والأفعال شيء آخر. فعلى عكس قادة دول أوروبا الشرقية، كان الزعماء الأوروبيين الغربيين الثلاثة الذين التقوا من بين أولئك الذين تمتموا مؤخراً حول التسويات، لذا كانت رسالتهم أنهم يقفون خلف أوكرانيا ويدعمونها بالكامل ويرفضون التفريط بأي شبر من أراضيها، وأن الإتحاد الأوروبي سيقوم بدوره للتخلص من الإعتماد على الغاز الروسي، وقبول عضوية أوكرانيا، ومواصلة دعمها بالأسلحة والمال، وتشديد العقوبات ضد روسيا. بكل الأحوال ملأت زيارة دراجي وماكرون وشولتز الأوكرانيين بالأمل والفخر، بعد أن عَبّروا لهم عن أعجابهم بشجاعتهم وقناعتهم بمسؤولية روسيا الكاملة عن الحرب.
في بداية الحرب تلقت الحكومة الألمانية عدة إنتقادات بسبب طريقة دعمها لأوكرانيا. السياسي الفرنسي اليساري وعضو البرلمان الأوروبي جلوكسمان، وهو من المتضامنين مع أوكرانيا بشدة، كتب على تويتر:”إنتهى دور ألمانيا القيادي في أوروبا، والسبب هو قيادة شولتز. لم يعد بإمكاننا الإعتماد على برلين للدفاع عن القيَم والمصالح الأوروبية”. هو لم يكن الوحيد الذي وجه نقداً لاذعاً للموقف الألماني، فقد كتب الرئيس السابق للمجلس الأوروبي ورئيس وزراء بولندا الأسبق تاسك على تويتر:”يجب على الألمان دعم أوكرانيا بقوة، إذا أردنا أن نصدق أنهم تعلموا دروس تأريخهم”. من جانبه وصف الخبير الأوكراني سومليني، الرئيس السابق لمؤسسة هاينريش بول في كييف، شولتز بأنه “مستشار الكوارث”، وذهب بعيداً في نقده الى درجة مخاطبته بالقول: “بسبب موقفك باتت يدك ملطخة بدماء الأوروبيين”. ولم يسلم شولتز حتى من نقد شركائه، كأنتون هوفرايتر من الخضر، وماري تسِمرمان من الديمقراطي الحر، اللذان وَصَفا مساعداته العسكرية الى أوكرانيا بأنها غير كافية، كما وصفه هوفرايتر بأنه “مُسَوِّف ومتردد”، مُحَذراً من أن الضرر الذي يلحق بسياسة ألمانيا الخارجية الأوروبية يتزايد كل يوم. يرى البعض أن ألمانيا ستبقى قوة رائدة، لكن المشكلة هي في شولتز الذي يصفه البعض بأسوأ مستشار منذ عام 1949 مقارنة بمن سبقوه، كهيلموت شمت وفيلي براندت، اللذان لا تزال أسماءهم تذكر بفخر وتقدير لنجاحهم في قيادة ألمانيا بأحلك الظروف، كأجواء الحرب الباردة عصفت بأوروبا في النصف الثاني من القرن الماضي، وكانت ألمانيا حينها بحكم تقسيمها مَسرحاً لها. لكن هل كان هؤلاء وغيرهم ليفعلوا غير ما يفعله شولتز في هذه الظروف؟ قد يوحي مظهر شولتز الهاديء أنه متردد، لإبقاءه على خط الغاز مؤقتاً، وتردده بتسليم أسلحة ثقيلة الى أوكرانيا في بداية الأزمة، رغم أنه دَعَم تلقيها لها من دول أخرى، إلا أنه لم يكن يريدها أن تأتي مباشرة من ألمانيا، وهو موقف يبدو مُتردّد ظاهراً، إلا أنه لا يخلو مِن حكمة. لكن العبرة بالخواتيم، وما إتخذه في النهاية من قرارات خطيرة، يمكن وصفها بالتأريخية، بخصوص زيادة ميزانية الجيش، وإيقاف خط الغاز قريباً، وتسليم أسلحة ثقيلة الى أوكرانيا وزيارته لها مؤخراً، مقارنة بوضع ألمانيا الحرج، ودورها القيادي الذي يجب أن يتصف بالحكمة، إضافة لتأريخها الحسّاس في الحرب والعسكرة، شكل نقطة تحول في السياسة الألمانية، لم يكن يتوقعها أحد.
يبقى السؤال الأهم هو: “ما البديل إذا تمت ازاحة ألمانيا أو جاراتها الغربية من زعامة أوروبا؟” فالزعامة تتطلب مقومات لا تمتلكها كل دولة، وفي النموذج الأوروبي تحديداً تنفرد ألمانيا بريادة في كثير من المجالات، وبمقومات تؤهلها للعب هذا الدور الخطير، وتَحَمّل هذه المسؤولية الثقيلة، كالعمق التأريخي، وتراث غني من العلوم والفنون والفلسفة والأدب والعلاقات الاجتماعية التي تربطها بأغلب العوائل المالكة في أوروبا، بالإضافة طبعاً الى إمكانياتها الصناعية والزراعية والاقتصادية الهائلة، وموقعها الجغرافي الإستثنائي في قلب أوروبا.
مصطفى القرة داغي
karadachi@gmail.com