محاكاة العقل للوضع الآني ارتباطاً مع التاريخ وتصورات حول المستقبل
وطنٌ يبكي بدلاً عنا عبارة عن عرض عميق لقضايا عقدية خلقتها احداث متضاربة امتدت إلى عمق التاريخ ثم ذهبت الحاضر والمستقبل ، وعلى الرغم من أنها مجزأة بالقصائد لكن القارئ سيجدها كأنها ملحمة من الرسوم التجريدية والتشكيلية تحاكي الوجدان الإنساني قبل أي عنصر آخر وتتفاعل مع البيئة المنفردة التي أصيبت بالإرهاق والتدمير، قال أحد النقاد أن ” العنوان وطنٌ يبكي بدلاً عنا هو ديوان شعري بحد ذاته لأنه يتحدث بلغة العام إلى الخاص ” ,.
وهي المجموعة الشعرية الجديدة التي طبعت من قبل دار النخبة للطباعة والنشر والأبحاث في القاهرة / مصر ، تحتوي المجموعة على ( 38 ) قصيدة امتدت على ( 171) صفحة بيضاء من الحجم المتوسط ، بينما كان الغلاف الأمامي لوحة جميلة تظهر الرمز العراقي بصورة امرأة ذات هيئة تراثية تحتضن معالم العراق بينما حمل الغلاف الأخير صورة للشاعر وقصيدة ” عراقٌ يا فلسطين” وهي معاناة لغزة وجميع الأراضي المحتلة ومعاناة الشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ترجم عنوانها للإنكليزية .تبتدئ.. ” أغزة من صراخي / قروحي على جرحي فنار.. / وجرحٌ صار نجماً في الديار
فلسطينُ جرحٌ واصطبار / على البلوى / على الهم الغبار / وهذا القهرُ جرحاً من جروحِ في المنار / دماء الشعب والأطفال دوماً في قرار / ورودٌ في السعير لها امتثال / وصبرٌ من سنينٍ في انتظار / مناراتٌ تلوح بلا يأس اختبار / وغزة في طواحين الدمار
فلسطين العراق بهِ من الصبرِ المثال
عراقٌ يا فلسطين اندثار
عراقٌ يا فلسطين العضال”
كما ترجم للإنكليزية قسما من عناوين القصائد الداخلية والعنوان الرئيسي للمجموعة. وأظهرت الإصدارات لمصطفى محمد غريب طباعة ( 27 ) كتاب ما بين الشعر والقصة القصيرة والروايات، طبعت في كل سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر والنرويج
لابد من الإشارة حول التنوع في تناول الموضوعات المهمة في لغة مميزة ونصوص شعرية متنوعة ما بين تفعيلات الشعر حملت هموم العراق في مصيبته الحالية وهي امتداد تاريخي لمأساة الأوضاع السياسية السابقة ، إنهُ ارتباط عضوي مع ما يجري في الوقت الراهن ويدل عن مدى ارتباط الثقافة الوطنية بهموم الوطن وهموم الجماهير الواسعة وبخاصة التي تعاني من الظلم والاضطهاد والفقر والفاقة، لقد مثلت القصائد مراحل عديدة في تناولها لموضوعات عامة وخاصة ووفق وجدانية واحياناً قصائد غزلية هادفة وهي تعبير حسي ملازم في امتثاله لواقع عراقي فيذكر في قصيدة ( رحيل في رحم العراق ) “عامٌ قديمٌ في الرؤى / والحزن يملؤه الهوى/ لا أنت باقي في المدى/ لا أنت أقرب مفتدى / وطني الجريح المرتجى”
اذن هو هم الوطن في أول قصائد المجموعة الذي يعبر عن أعوام شاذة مرت يلفها الحزن البشري.
” وحينما أتت السنين العابرات / أعوام من حلقاتها تنازع الخطوب / وتفترشْ تاريخها،
فلا ترى إلا التخبط في العيوب / وتهبط الاحلام في عمق الجحيم / تتجاذب الأطراف عن معنى البقاء ”
أي تناوب ذلك القهر في رؤيا تستشف المستقبل وتتجاذب من عمق التاريخ الذي عصر النفوس البشرية خلال حقب تاريخية ما بين الحلم نحو تبصير الاتجاه وظلامية البحث عن الحقيقة فيغوص في صراع تتهاوى على جوانبه حلقات الدم وضريبة الحروب وقدسية اللاهوت في الانتظار لأمل تحقيق العدالة « ها أنت يا عراق يا عراق تنحت التمثال بالأظافر الملساء/ تمثال من مثال من سباء/ في عالمٍ مصاب بالخدر / مصاب بالوباء المُنْتَظَرْ/ ترفعه الصخور في مجالها المطمور بالرصاص/ تنصبهُ في اورنا الخَصاءْ
الصخرة المثقال يا رجال/ ويا نساء العاصمة / كظيمةٌ تعبره فريدة الوجوه”..
هو العراق الذي قلمت اظافر صراعه بما زرق من أبر التخدير بالذي ينتظره في غياب طال أمده داخل الإرادة إلا أن النزيف لا ينقطع فهو شمل الرجال والنساء على حد سواء، وفاق المتوقع بما تذكره من أسطر ومقاطع القصيدة المعبرة حيث تسترسل في ذكر تلك الالتواءات لتباشر العودة في امل الصعود فتفترش الرحلات في تواترها على الرغم من سر الإغلاق وعلى الرغم من الحزن. ” بغداد ثكلى كل عامٍ أو يزيد/ اوروك في السيف المرقط من خطر/ وبقي لأعوام شريد / عامٌ تبدل من حديد / عامٌ تقطر من دموع الراحلات / قد حينما عام تجوع / بغداد ثكلى في الدموع/ بكت الحشود / في سرها / بعد الصعود / بغداد بعد نزيفها عاشتْ تعود / عاشتْ تعود!”
انها بغداد التي سرقت ومياهها التي اخذت في الجفاف هي ثكلى لكنها تعود في سر بقائها ذلك الإصرار على تفويت فرصة الأعداء والمتربصين على الرغم من النزيف فهي تعود لتعيش بالرغم من الخطوب.
تنفرد القصيدة الثانية (طلب شجرة هرمة) في هم جديد يخص عملياً البيئة في إطار مشهد تراجيدي بطله الرمز في شجرة هرمة وهو دلالة على مدى التمسك بمعنوية البقاء والعطاء الإنساني..
” في غابة الأشجار قالت في شجن / حولها من العوالق التي اهرمها الزمن / وتجبست من المحن..
ـــ وهرمتُ من طوري ومن نصي النحيبْ / سافرت نحو صالة الحطاب في الغاب
/ وقلت يا حطاب / يا قطع الأجساد والظلال / ومسرح الأقوال في النصوص / يا رب هذا الفأس في المحراب / يا خلق القطع وقاطع الألقاب”
الفأس التي تنهي عذاب الهرم هي نفسها تقطع النكوص والهروب من الواقع وبها تنتهي المعاناة التي من بقائها عقيمة بلا ثمر بعدما كانت معطاء . “أني هنا شجرةْ / أنهكها الهرم العقيم / بالفأس هيا لا تؤخرني وتجعل قامتي سفراً نديم” ويستشهد هنا بالشاعر الاسباني المعروف ” لوركا” فيضيف ” يا أيها الحطاب حتى تقطع وقفتي.. / فأنا من المطاط واللحاء / وكقول فيديريكو القتيل * / يا أيها الحطاب اقطع ثم أنقذني من العقم السديم”
أنها المعاناة الأبدية من الهرم المؤدي إلى العدم، ولكن هنا التجديد في الإرادة والتصميم للحفاظ على ما هو مفيد وفعال.
القصائد التي احتوتها المجموعة عبارة عن موضوعات حياتية مرتبطة بالواقع وهي لم تخرج عن نطاق الشعر سفينة الثقافة الوطنية والأحاسيس البشرية والأحلام التي تتسلل كاللص الى الاذهان بطريقة لحنية فكانت قصيدة ( إشارات) .. ” حدثيني.. واقسمي لي بالمواثيق اللؤلؤية / يا مساءً تمطر الأجواء فيه من زهور الياسمين / ثم تغفو اعينٌ كحلاء حلم الحكماء / والبلابل رقة الحضن الغناء / نادميني.. داعبيني بنسيم الفجر عطراً وغناءً وعناق / في صباح الفجر فيهِ يتغازلْ ريقنا اللاعب السكران في صمت الدهاء /
واسكبي في رقصات القلب مثقال النداء
ومن الاثم انسياباً ومن الخمر الشفاء
ناوليني..
ما تبقى من رحيقٍ للشفاه
وضعي في سلة العبق شموخ الكبرياء
حاكميني..
وبما كنا عليهِ من خفايا
في قوانين القضاء
واسحبيني نحو ثغرك في دهاء ” ..
ثم تثير البقية من القصائد أسئلة عديدة فيما يخص الخاص الذي يشير الطابع الشخصي وارتباطه بالعام الذي هو خارجي يؤثر ويتفاعل مع الشخصي لكنه في الوقت نفسه يجيب على الكثير من الأسئلة التي تطرحها القصائد وتبرز قصيدة ( يأتون تباعاً في تشرين للحبوبي ص 19 ) راسمةً انتفاضة الجماهير في ذي قار ” الناصرية” وتسطع ساحة الحبوبي ببريق الحزم والتحدي على من القتل المتعمد والإرهاب المليشياوي الطائفي التابع ..” لن تجدي الهراوات / نفعا وخداع الادعية القَشَمر في الدعوات / يأتون تباعاً للحبوبي / حتى ترقص كل الساحات / بأهازيج الثورات / بصدورٍ مكشوفة / ووجوه كالشمس تنير الحارات / وزنود الفولاذ المصقول / وعقول العلم على الرايات / واضحةً معلومة / رغم انوف الكذب المرهون / لأفاعي القتل المسمومة”.
وتستمر تداعيات الأوضاع التي تتأهل بحق كنموذج لباقي المحافظات..
” لن يخدع ما في الغايات / فدماء الحبوبي شهادات معلومة / والتاريخ يسجل لن يرحم
هذا القتل المدفوع الاثمان / كي يعلن كذباً وقناعْ / باسم الطف يزيد الأسماء/ يأتون ويمضون الى المجد المُشرفْ / للتحرير الحبوبي وكل الساحات / لن يتراجع هذا الزخم الثوري / وسيمضي للتاريخ يسجل للعالم معنى الصوت المرفوع / كي يكشف وجه قوانين الغابات/
مجداً لشهداء الساحات / لن تذهب هدراً / مجداً لنجوم الحزم الموسوم / حتى تعبر كل الترهات
فالنصر البرعم في كل ورود الغابات
سيكون لكم
سيكون لنا
سيكون الشمعة في كل الطرقات”
أما قصيدة (عالمٌ جديد واوروك النازف في الباب ص 26 )
“لم يرحل عام الكورونا القتل المتعمد في الساحات / وضحايا تشرين إشارات الامل القادم
وضياء القامات الأبدية. / عامٌ يأتي بسكاكين الغدر مزادات الدعوة الاعلانيةْ / عامٌ ودمٌ منشور في المحراب / يصرخُ في كل الاوقات / اوعوا.. اقدام الغرباء تدوس الحاضر والماضي الاتراب / القادم غيلان الخطب العصماء.. / مغلقةٌ كل الطرقات / اوروك المنفي من كل الأبواب/ اوروك المذبوح على المحراب / اليوم على السامع والمسموع / نتحدثُ في اوروك المثل الموجوع / أوروك المقتول أساس الموضوع / بسكاكين الموبوئين / بالجلباب الدين المدفوع / بالسم المتفشي في فكر المخدوعين / تسرجه الآفات من القردة/ لتحول في التابع والمتبوع / تدخله الدنيا، في قانون الجربوع.. / يا دنيا الشبهات / يا دنيا المرهونات / يا دنيا الخراجات / يا دنيا “الخرْخاشات” ** / أهو فساد ملغوم؟ / ثمنٌ مدفوع
/جاء مع الاغراب.
تتابع القصائد عملية التفاعل مع الاحداث الجديدة والقديمة لتربط الواقع بالتاريخ المصنوع من قبل البشر، لاستشراق المستقبل ثم تأتي المفاجأة من عنوان المجموعة ( وطنٌ يبكي بدلاً عنا، ص59) لتُظهر الضحية التي تتمثل بالوطن المنكوب الذي يبكي من أجل مواطنية وهو مفجوع بهم. وطن يبكي لفجيعة شعبه المغلوب على أمره بفعل ما تصدره المؤسسات الحزبية السياسية الدينية الطائفية والواقع السياسي والتدخل الخارجي ” وطني المفجوع بأولاده / ونساءٍ ورجالٍ وشيوخٍ وعجائزْ / وطني يجهش من لوعة فقدان البصرة / بصرته الثغر المحتلة بالثالوث / وطني يحرق أعلاماً من اجل الموصل والأنبار / وطني الفاقد بغداد الصوت المنشور / قلتُ لهُ ـــ لا تجهش، لا تبكي”.
نعم لا تبكي أيها الوطن المذبوح مع الشهداء الذين سقطوا بالدفاع عنك وعن أنفسهم كشعب مغدور، ولعل القصائد حول الشهداء دليل على قيمة المعنى وحقيقة الجوهر.
وتتابع أسطر القصيدة وطنٌ يبكي بدلاً عنا .. ” يا وطني المنهوب / يا وطني المعطوب / يا وطني المسروق / يا وطني المحروق”.
هكذا هو الوطن الذي سلبوه حقه في الحياة! وأساءوا لتاريخيه وحاضره وقيدوا مستقبله وفق مشيئات فئات تتحكم فيه عن طريق التعنت الطائفي والتقسيم على أسس غير علمية، وطن محاط بالخنادق ومقيد بالسلاسل كحالة معنوية لأن المواطن فيه مسلوب الإرادة. ولهذا أصبح الوطن المنكل به يبكي ويطالب بالدفاع عنه وعدم السكوت.” يجلس في كرسي رباني!!/
تبكي لدموعي في عز شقائي /تبكي بدلاً عنا / نحن المخدوعين المغدورين حيارى / من خلف الاسوار / نتطلع فيك ومنك نرى الوحش الواثب فوق رؤوس القوم المقهورين / تبكيهم من قهر الحرس السادي / يتقلد اسم الله / تبكيهم من رمضان الحرس القومي* / تتذكر هجانة بين القدس ورام الله / تتذكرْ غرناطةْ، / ابن العلقم في بغداد قديماً وحديثاً* / كم من مفقودٍ / خلف تراب السدةْ * / وملايين المغلوبين !..”
أنهم الضحايا على مر الأوقات والفوارق الزمنية وتكرار المأساة في العهود التي مرت تحت طائلة من الأسماء والأعراف الإرهابية بمفهوم إرهاب السلطة ومؤسساتها وأجهزتها ..
“ماذا؟ / أسأل في حرقة مجروحٍ في الساحاتْ / يا ويلاه القهر المحبوك على الأضلع / وطنٌ يبكي بدلاً عنا / قل لي وطنٌ يسرقه الدجالين”
إنها لمناشدة في أضيق حلقة من المطالبة بتفسير المعنى لبكاء الوطن الذي كان المفروض أن يكون معززاً مسروراً فرحاً بكرامته. ولهذا كان النشيج عبارة عن نشيد يطالب بالعدالة الحقة فيقول. ” يا وطني المنصوب على سيف القرصان المتصابي / يا صادق في وجداني / يا فرحة آذار الشعر القادم في ألحاني / يا وطن القامات / يا فخر الهامات لا تبكي../ أين الهمةْ؟
من وطنٍ يبكي بدلاً عنا! / يا وطني لن أشكو / بل ألثم جرحك / وأُقَبل تغرك / يا وطني الباكي بدلاً عنا!”
وفي مضمار استمرار القصائد ( من صباح الحزب يا بغداد حتى الى أم الشهيد إيهاب الوزني) تشير إلى نماذج من تقلبات الرؤيا نحو البحث عن الحقيقة تحت طائلة من الألحان والنوتات الموسيقية المختلفة ولا تتعثر تلك الأمنيات وتجتاز الأحلام إلى واقع حي حتى الوصول الى قصيدة ( زعزعة الزير سالم في اوروك العسير ص 110 )..
” عمدتُ أن أرى صفحة الوجه على طريق المرسلات / وقلتُ في نفسي هنيئاً / فالسالم الزير لم يسلم من الشطحاتْ / وعرفتُ أن الحربَ باقيةٌ / وأن الآفة الاخرى ستُكثر من صهيل النادباتْ / ومرتْ اركان الهروب من باب الصلاة معفراتْ / رأيتُ السيف منقاراً لنسرٍ جناحه من الشمع الرخيص / ومخلب لبقٍ طائرٍ في حماية السلالاتْ / وكان الزيرُ يركب من البغال مُسَيّرةُ الحوافر من زحير الموبقاتْ/ أعْرافُها شوكٌ وطينْ”
لم يعد الخداع بالقبائل والأدعية وقد انكشفت عورات الادعاءات بالماضي الذي يحصن الانغلاق والعنصرية ومحاولات التعالي القومي على اجناس اخرى . ” هَلْهَلتْ خواتم مفعمات بالنَجس الجديد المُركب من نجسٍ قديم / وصاحت قحطان بني ذيبان يا ويلتاه من السمومِ القاذفات / يا ويلتاه صاحت عدنان عبس عنترة السفود / وصاحت قبائل من مأرب السد هاربات من السديم / ومن الاراذل في أنحاء اوروك الضحايا / وضاع الذنب في الذيب ومن بين اقاويل الدُعاء الانتماء / بعد قراءة الله أكبر كل من يريد من الله انتقاما من دماءِ الأبرياء / وناحت الخنساء نواح الحانيات على ذكرى البكاء * / وقالتْ فرح العار لن يركب قامتي إلا بسم القابلات”
وتختم القصيدة بمفرداتها وتشعبات معانيها اللغوية ليؤكد الشاعر الغريب..
” أهي الفجيعة في اوروك بعد تاريخ خصيب؟ / أين الشعارات عن الاعرابِ والاقوام والرايات منابع المجد التليد / يا سالم الزير عنتريات التقدم في اختبارات المراجع والمثل / كفى التباهي والتفاخر بالجدود / كفى الهزيمة حلوة في شعاراتِ الهروب من الحدود / يا سالم الزير إنها قد أفلست في شهوةِ القتل قباب من حديد / وتحسرتْ فيها قوائم من مصباتِ الحريق / ”
ويستمر في تداعيات الخدر والتنابز بالألقاب وصورة الجفاف تهد بغداد العريقة والعراق المشهور بين النهرين ..
“أهي الهزيمة أم أنها نصرٌ مبين؟! / أهي الملايين المشردة من جوعٍ ومن نجاسةِ الزعماء والحكام؟! / يا سالم الزير بالله عجل صدرك لا تفاخر في قفاك / فقفاكَ مكشوفُ الدوائر من على رأسِ البغال الهاربات من القيود / بفعلِ سيفك المُعّوج في ضبعِ الخباء / هو انتصارٌ بالهزائمِ والخداع! / أهو أوروك الضياع على اليدينِ وفي دينٍ جديد؟ / يا سالم الزير بغداد تموءُ من قملٍ مديد / بغداد عطشى من وباءٍ / اوروك تدميهُ سيوف الجبناء / وانت هربانٌ طريد / هربان كالخرفان من ذبحِ الوريد إلى الوريد / هربان عريان بين المنافس والجزعِ المرير/ والقابعينَ على القبورِ / هربان من حكمِ الناسخين أفواهَ الحقيقة بالرياء!/ قمْ واترك الأطلال والنفخ بالبوق / فساعة الوقت تدقُ بلا انقطاع.. / مستعجلون بلا ضياع / حتى التخلص من عسير.
الكتابة عن كل ما أظهرته المجموعة تحتاج إلى تدوين ومعالجة لغوية موضوعية واستطراد لكل انحناءات القصيدة الواحدة ارتباطاً من حالة منعزلة الى حالة ديالكتيكية بالمجاميع الأخرى لأنها حالة من التراكم والنوع تجعل القارئ في حيرة من مفهوم الالحاح في كشف المستور من تداعيات الفترات ذات مفاهيم التعصبية والانغلاق والتخلي بالقول والفعل عن هذين المفهومين وهنا تتميز القصائد ( سلاماً أيها المغنون هذه الليلة ندامى ص117)
المغنون القدامى ندامى “فقدوا النطق تلاشت كل أنواع الغناء / لم يكن مسرحهم / يخلو من الجمهور والتصفيق /إلا في ليالي المقبرةْ ”
وقصيدة ( خمس رسائل مجزومة ص122) الرسالة الأخيرة ــــ “ لست أدرى / كيف غادرت مكاني / وركبت الصولجانْ
ثم زاملت التماسي في التأني
في ابتعادٍ واقترابْ
انت تحكي عن زماني
كيف افلتُ حصاني
ثم تهت في المآقي والدموع
ثم سايرت الظنون
من مسافات الثواني في الرجوع
أخطابي كان وقتاً من فطامي
وتسليتَ بوقتي
ثم اغرقت مرامي
في الغياب
لست أدرى كيف كانت ذكرياتي
في العتاب
فلقد كنت شَكَوتكْ
وتغابيت الجواب
وقصيدة (تشرين الباقي كلا كلا للتصويت ! ص130) التي تحاكي انتفاضة تشرين المجيدة وتحررها من قيود التبعية في الخروج نحو فضاء الثورة والرفض وللتذكير أن الشر سيكون آخر الأمر وان صوتك هو القوة التي تتحكم بالقرارات وما عليك إلا الامتناع بشكل إيجابي لكي تنهي المهزلة. ” أتصوتْ؟ / والخدعة خدعةْ / قل كلا كلا.. / يا منكوب القلب قتيل الاملاق / نزف دمٍ فوق الاعين / أتصوت؟ / والعلّة باقية / فاصرخْ كلا كلا.. / شلال القتل ربيب الفتوى / نقطة من دمْ / فوق الحاجب / فوق ظهور الخيل / وصهيل هتافات رجالٍ جاءوا للتحرير / وصراخ الوطن المفقود / وسقوط الأجنحة الأجساد / موت الطائر في المرصاد / في القوة ان يصمت / ويقول لهم كلا كلا” وتستمر لغة التحريض في مداهمة معاقل الرجعية والطائفية والظلامية فاتحة الأبواب على مصراعيها نحو الأفق الرحيب الذي يخلق عالماً جمالياً في عدالته إلا أن تكون النهاية ” أتصوتْ؟ / وفساد الذمة موجود كالصرح الملغوم / هل تعرف أنت المقتول المسروق؟! * / فكرْ ان كنت تعي معنى اللعبة
أتشاهد فنّ الخدعة؟ / ودهاقنة الكذب القتل على الأبواب / مازلت تريد الوطن المنشود / لن تندمْ أبداً أبداً / فاصرخ كلا كلا للتصويت”
وتستمر القصائد المتتالية متلازمة مع الواقع العراقي لكن في سفينة تراثية تشق عباب البحر المتلاطم لكي ترسي في آخر المشوار في المرفأ.
وها هي المجموعة في نهايتها تكشف ومن خلال ( قصيدة حدود النوارس ص162) رفيف أجنحة الأمل وصول طيور الالتحام مع كل ما يهدف للقناعة بالسفر وحلم الوصول..
” حِداد النوارس في حدوها / يرف الجناح السريع ليخطو قرار الوصول / ويوصي بحزنٍ شديد النواصي غريب المنال * / يشق المحيط الشمالي / يَغيب المحيط الجنوبي / تكون الأراضي بعلو الجبال الشواهق / ويُمني قلوب العذارى بشكل الحروف / وصوت الحمام العوانس فوق القباب / ينادي من النائبات الخلاص / وتأني، وتمضي بهول التباعد غول الخطوبْ / وطول المتاريس عند الجنوب / حدود البعاد ضياع الخطوط”
وبهذا يخلق الشاعر من الحزن طريقاً نحو الغناء والفرح على الرغم من الأهوال ومفارقات الصراع « وحزن العبور التفاني برسم الطريق / هوى في انقطاع النفوس / تئن النوارس أنين الحنين / وتغني البلاد المحار اللآلئ / يَهبُ ضباب المحيط العبوس / برغم العواصف.. / وموجٌ شديد المصاعب / وعين تشد المجالس”
هي الخطوة الدعوة لاتخاذ ما يمكن عمله في مجال التخلص من العسر والبكاء والتغيير للخلاص « ليغدو سليل الصريخ الوثوب / ويُعلنْ غناء المراعي ولحن الفريق.. / وحين السحاب يجف كجذع النخيل المحاط بنار الحروب / ويعلو الدعاء النحيب ليأتي المطرْ / وتعلو مياه الجبال النجوم / وينهي الغبار وطلع الشجر / تسود المياه العيون المرافق/
ويغدو دليل الفنار / طريق العباب السفن”
أنها نجوى تلك التلال ثم الشواطئ لكي تكون مزاراً بعد ما اقفرت وهجرت فيأتي السلام للعراق مفعماً بالحب والخلاص من الطواغيت بعدما كان مبتلى بطاغوت واحد..
“: وعند التلال القريبة / تكون شواطئْ مزاراً، ملاذاً قريباً لسر المكوث / تراقبْ هبوط الظلام / فتغفو سراباً خفيفاً / وتعلو انسيابا وتغدو الصباح بريق المرايا / وتأتي تباعاً صنوف البشائرْ / سلاماً وحسن انتصار / سلاماً عراقي سلاماً لفجرٍ جديد”
نعم سيكون السلام للعراق وسينعم اهله بالدفء والسكينة والأمان.
المجموعة الجديدة عبارة عن قفزة، ولكن ضمن مقدار من التخطيط الواعي والنقد المميز بالفضيلة والعين الثاقبة، وتعد المجموعة إحدى تجارب الشاعر في قربه وبعده وبالتداخل الفني في الصور الجمالية والمواضيع بعيداً عن الواعظ والإملائي ومن باب الأسئلة وما لديها من أجوبة تدل عن وعي حضاري متعلم .
نضال العزاوي
الجمعة: 10 / 6 / 2022