يرتبط تاريخ بلورة الوعي الوطني، ونمو الروح الوطنية، وظهور النشاط الفكري والثقافي في العراق، خاصة بين المثقفين والطلاب، ومساهماتهم في الحركة الوطنية العراقية ضد المغتصبين العثمانيين، بآثار الثورة الروسية (1905-1907) وانتصار الثورة البرجوازية التركية عام 1908.
هذا الوعي والنشاط الفكري والثقافي لم ينبع من فراغ، بل كان قائماً على تغيرات هيكلية في أوضاع البلدان العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص، في إطار التغيرات الدولية في تلك الحقبة الزمنية.
التغيير الذي حدث في العراق هو نتيجة عوامل وطنية وعالمية، وكذلك الأفكار التي ظهرت خلال تلك الفترة لم تكن بمعزل عن تفاعل وتداخل العوامل الداخلية والخارجية.
لقد خضع العراق كسائر البلدان الاخرى للسيطرة العثمانية طيلة أربعة قرون ((منذ بداية القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين)). سادت البلاد عهد التخلف، الظلم، الفساد، الاضطهاد، العادات، التقاليد، الحقوق القومية، الحملات العسكرية والتجنيد الإجباري. وكل ما سبق ذكره كانت له عواقب وخيمة على مستقبلها.
عانى العراق كغيره من البلدان العربية من نوعين من الاضطهاد: اضطهاد الرأسماليين الأجانب، بعد تغلغل رأس المال الأجنبي في نطاق الدولة العثمانية، واضطهاد السلطة الاستبدادية للدولة العثمانية. (1)
في مواجهة هذه السياسة التعسفية، كانت هناك حركات متواصلة عربية – كردية ضد القمع والاستغلال التركي لنيل الحقوق القومية. كانت المطالبة بالاستقلال الذاتي واللامركزية من أهم المطالب أهمية في ذلك العهد. لقد عبرت القوميات العربية والكردية في العراق عن مطامحها وإرادتها من خلال الثورة (ثورة بغداد في 13 حزيران 1831) أو من خلال الانتفاضات والعصيان التي اندلعت في كثير من المدن والأرياف، ومعظمهم من الفلاحين بقيادة بعض الملاكين الأحرار – أو الجمعيات والاندية. كان بعض هذه المؤسسات خارج القطر العراقي والبعض الآخر (عربي – كردي) ومعظم موظفيها من المثقفين والضباط والتجار (2)
أدى موقع العراق في الطرف الأقصى من الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف إلى عزله عن المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية في هذه الدولة.
ومع ارتباط العراق بالسوق الرأسمالي العالمي، خاصة بعد شق قناة السويس، أدى ذلك إلى نشوء البرجوازية، لكن تطورها كان بطيئاً، وانعكس ذلك سلباً على تغيير البنية المتحجرة للمجتمع العراقي، والحفاظ على نفوذ تلكم التقاليد الاجتماعية والدينية للمجتمع. وهكذا كان للعنصر الديني تأثير كبير في الحياة السياسية في البلاد.
ادى هذا النمو المشوه للرأسمالية إلى عجز البرجوازية، بسبب ضعف كياناتها وعلاقاتها مع الإقطاعيين ورأس المال الأجنبي، عن النهوض بالشعب وقادته في النضال المعادي للحكم الأوتوقراطي العثماني وضد تغلغل رأس المال الاستعماري.
بالمثل، كانت الطبقة العاملة في دور التبلور قليلة العدد، وكان غالبيتها من العمال الموسومين، وغير المرتبطين بمصانع كبيرة، وتحمل عبء التقاليد الاجتماعية، والخصائص القومية، والدينية والاقتصادية.
أما بالنسبة للفلاحين، فلم يكن لهم تنظيم آخر غير التنظيم الأبوي القبلي، الذي كان أساسه المادي حيازة الأراضي المشاعية للقبيلة التي تملكها الدولة، وأخذ هذا النظام بالتفكك منذ الثلث الأخير من القرن التاسعة عشر، فنضالات الفلاحين تمت تحت قيادة شيوخهم.
وفي هذه الفترة التاريخية، ظهر على المسرح السياسي ممثلون عن الفئات الاجتماعية الوسطية، من المثقفين والطلاب والضباط والتجار الصغار وهؤلاء اتسموا بتقلبات كبيرة في ميولهم وطموحاتهم.
في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تم إنشاء عدد من المدارس الحديثة في العراق في المدن الكبيرة كبغداد، الموصل والبصرة وغيرها. تخرج منها عدد من المتعلمين المعاصرين، ومن خلال دراستهم في هذه المدارس تعرفوا على الأفكار الديمقراطية البرجوازية ((الحرية، المساواة، العدالة)) ومن الأمثلة على ذلك الثورة الفرنسية.
كما قامت المدرسة الرشدية والاعدادية العسكرية بتخريج عدد كبير من الضباط العراقيين الذين لعبوا دوراً مهماً في الحركة الوطنية.
ولم تهتم الدولة العثمانية بتأسيس التعليم العالي في العراق، وبعد اعلان الدستور تأسست مدرسة الحقوق في بغداد عام 1908.
ولابد من الاشارة إلى أن تخريج عدد من الطلاب العراقيين من معاهد وكليات اسطنبول والجامعة الامريكية والكلية العسكرية في تركيا، كان لهم دور بارز في تشكيل فئة المثقفين العراقيين.
في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، افتقر العالم العربي الى معرفة وثيقة بحقيقته، واحتدم الصراع الفكري حول التجريدات العامة: الموقف من الإسلام والمسيحية، من الدعوة الإسلامية والدعوة العربية والتحري عن أسباب تخلف البلدان العربية وكيفية تجاوزها. (3)
لعب المسيحيون دوراً مهماً في هذا المجال وكانوا الرواد الأوائل للفكر العربي القومي، حيث كان المسيحيون يمثلون من الناحية الاقتصادية قطاعاً نشطاً في المجتمع العربي، كما تمتعوا بالحماية والامتيازات الفرنسية التقليدية داخل الدولة العثمانية، مما أتاح لهم الفرصة للنمو الاقتصادي في التجارة. لقد لعبوا اساساً دور الوسطاء بين العرب والعالم الغربي، وقد مكنهم هذا الوضع أيضا من التأثر بالفكر الغربي وحضارته، فضلاً عن اتصالهم بالفكر التبشيري من خلاله بالثقافة الأوروبية. (4)
وكان تأثير هذه الأفكار في العراق ضئيلاً باستثناء الحالات الفردية (5). لأن المسيحيين لم يلعبوا دوراً مهماً كنظائرهم في البلدان العربية، بصرف النظر عن العوامل التاريخية الأخرى.
تميز العراق بهيمنة التيار السلفي وايلاء أهمية بالفكر العربي القديم الذي يستمد ثقافته من علوم الدينية واللغة العربية التي يدرسها الدارسون في المساجد والمدارس المختلفة. (6)
وكان هذا التيار السلفي ((اتجاه عربي إسلامي يتمثل فيه التغني بأمجاد العرب بماضيهم والتأكيد على العربية والشكوى من الظلم وسوء الإدارة التركية. أنه اتجاه يستند على التراث العربي الإسلامي)). (7) عبارة عن حركة وطنية إصلاحية اتسمت بالمعارضة والرفض لأوضاع الفساد والتخلف والاستبداد العثماني وضد تغلغل رأس المال الأجنبي. انها دعوة لاتخاذ الأصول الدينية وتراث الماضي كأساس للتخلص من هذه الأوضاع، إلا ان تلك الإجراءات كانت ذات نزعة اتسمت بالتزمت والجمود والانغلاق وفقدان الرؤية الاجتماعية والتاريخية تماماُ، دون مراعاة التغيرات البنيوية التي حدثت داخل المجتمع العراقي.
وفي هذا يكمن سر ما نلاقي خلال هذه الفترة من أفكار مضطربة، حيث أحكمت الدولة العثمانية قبضتها حتى في أكثر حالات ضعفها واضمحلالها مستنداً إلى الفكرة الخلافة مدعيةً أن كل حركة قومية أو وطنية هي مروق من الدين ومرتد عن الإسلام. (8)
لم يكن الإسلام عقيدة طارئة في حياة المجتمع العراقي، بل مارس تأثيره لقرون، وأثر بشكل مباشر على العلاقات الأسرية والمجتمعية وحافظ على تقاليده.
بالإضافة الى ذلك، من سمات الإسلام أن القرآن والشريعة يحتويان على مبادئ تمتد للقواعد الأخلاقية والسلوكية للإنسان، ليس في الأسرة والمجتمع فحسب، بل في حياته الشخصية ونشاطه الاقتصادي والاجتماعي ايضاً. بالنسبة للمؤمنين، الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أسلوب حياة. بالإضافة الى العوامل التاريخية التقليدية والاجتماعية التي أثرت بشكل أو باخر على تطور الحركة الفكرية العراقية خلال هذه الفترة.
بقيت طيلة القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعيداً عن التيارات الفكرية الحديثة. قبل الاحتلال البريطاني لم يكن للعراق اتصالات وثيقة مع الأوروبيين على خلاف مصر وسوريا. تأثرت بشكل غير مباشر بالحضارة الأوربية والتي جاءت في الأغلب عبر تركيا نتيجة لارتباطها الوثيق بالإمبراطورية العثمانية. أتقن معظم المثقفين العراقيين اللغة التركية. كما تعرف الطلاب العراقيون على التيارات الفكرية الحديثة ايضا (9)
تأثير ثورة (1905 – 1907)الروسية
على المثقفين العراقيين
منذ أواخر القرن التاسع عشر، أنشأ الاتراك حركة ثورية برجوازية في تركيا، وضمت الحركة المثقفين أغلبهم من الضباط الجيش والأطباء والموظفين الصغار الذين مثلوا مصالح البرجوازية ومالكي الأراضي الأحرار، وشكلوا تنظيماً سرياً عُرف باسم ((الاتحاد والترقي)). المنظمة السياسية الوحيدة للشباب الأتراك، فكانت مطالبهم الرئيسية أحياء الدستور.
بسبب الصراعات الداخلية في تركيا وتأثير الثورة الروسية عام 1905 التي قادها البلاشفة والحركة الثورية في القوقاز والثورة التي اندلعت في إيران عام 1905، نشأ وضع ثوري في تركيا (10)، مما أدى الى ثورة 3 تموز 1908. (11)
إن هذه الثورة وما حدث في إيران والصين تبرهن على (تقدم مئات الملايين من الناس) بتأثير ثورة 1905 الروسية
ولخص لينين بوضوح فائق تأثير ثورة 1905 على تطور حركة التحرر الوطني في الشرق ((أن الرأسمالية العالمية وحركة روسيا قد أيقظتا آسيا نهائياً، بمئات الملايين من السكان المهانين في ركود القرون الوسطى قد نهضوا للحياة الجديدة، للنضال من اجل ابجدية الحقوق البشرية الديمقراطية)) (12)
فإن أخبار الحركة الاشتراكية ثورة 1905 – 1907 أصبحت موضع اهتمام الأوساط الثقافية التركية (13)، والتي كانت بدورها مؤثرة على المثقفين والطلاب العراقيين المقيمين في الآستانة.
كما يؤكد السيد اسماعيل شاويس السياسي المعاصر لتلك المرحلة، أن الشباب الكردي المثقف قد اطلعوا على الأفكار الاشتراكية قبل ثورة أكتوبر وذلك أثناء دراستهم وعملهم في اسطنبول وغيرها من المدن الدولة العثمانية وحتى الأوروبية. (14)
وفي داخل العراق، كان لثورة 1905 انطباع ملحوظ وقد كتب في مجلة الرقيب “وهي من الصحف الحريصة على تطبيق الدستور” (15) التي تعاطفت مع الثورة الروسية الأولى عندما جاءت بقولها:
” أن مجلس الأمة الروسي محجوز، تنفذ عليه إرادة القيصر ويضطرب لاسم نيكولاي، وسيبيريا هي سجن أحرار الروس المجرمين في السياسة أو الذين يطالبون بالحرية الحقيقية أو بحقوقهم المغصوبة.” (16)
وبعد إعلان الدستور تأثر المثقفون العراقيون بقوة بالأفكار التي انبثقت عن مصر وسوريا التي كانت جسراً بين العراق والثقافة الغربية، رغم إن معظم المثقفين لم يميلوا لممارسة دور فكري مماثل لنظرائهم المصريين والسوريين، لكن انعكست هذه الأفكار في كتاباتهم. (17)
لقد خلق السياسة الشوفينية التي انتهجها الاتحادين أزمة فكرية بين المفكرين العراقيين بعد أن تخلوا عن العهود التي التزموا بها أمام الأقليات القومية في مؤتمر باريس. (18)
اتضحت ملامح هذه السياسة خاصة عند بدء مجلس المبعوثان الثالث اجتماعه في 17 كانون الأول 1908. (19)
ولم يتخذ الوفد العربي أي موقف مستقل في الاجتماع، لكن معظم العرب كانوا غير راضيين عن الوضع. (20) وبذلك تلاشت الثقة والقناعة بمنظمة الاتحاد والترقي.
وقد انخرط المفكرون والكتاب والشعراء البارزون في النضال ضد الظلم والاستبداد العثماني والأوضاع السياسية والاجتماعية المتفسخة وضد التيارات الاستعمارية الأجنبية، مما خلق مدرسة جديدة في التفكير العراقي في مطلع القرن العشرين، وكانت هذه الحركة نتاج الأفكار التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وإبراهيم اليازجي وشبلي شميل وغيرهم. عارض كتاب آخرون هذا الاتجاه الذين تعرضوا للاضطهاد من جانب المؤسسات الدينية متهما إياهم بالإلحاد (21) وهو السلاح القديم الجديد يشهره الحكام الرجعيون والمستعمرون في وجه الإصلاحيين.
وكرد فعل للأوضاع القائمة في تلك الحقبة التاريخية أسفرت عن ” تسيس الإسلام ” من جهة وتطور الحركة البرجوازية في العراق ضمن التيار الديني، أي اتجاه الحركة كانت عربياً – اسلامياً ضد سياسة الاضطهاد والتتريك والتغلغل الإمبريالي.
كان هناك نزعة بين رجال الدين لمحاولة التوفيق بين الإسلام والتيارات الدينية الحديثة ورفضهم السلفية اللاعقلانية وكذلك التقليد الأعمى للغرب، ليتخذوا منها سلاحاً ماضياِ ضد سياسة التتريك وإثارة المشاعر الدينية كوسيلة فعالة لمكافحة التغلغل رأس المال الغربي الاستعماري.
كانت هذه الدعوة لتجديد الإسلام استمراراً خلاقاً في ظروف تاريخية لتراث قديم، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة الى أن الحقيقة المعروفة أن الشيعة في العراق ورثوا عن المعتزلة مفهوم الاعتماد “المنطق والعقل”.(22)
لقد تمخض الجدل والنقاش بين رجال الدين حول النظريات الفلسفية والاجتماعية ونظام الحكم الاستبدادي المطلق والملكي الديمقراطي ومنها الحكم الجمهوري (23) الى ظهور تيارين متناقضين أولهما اصلاحي معادي للاضطهاد القومي تمثل البرجوازية الصغيرة والثاني رجعي يناهض الدستور يمثل مصالح كبار الملاكين والإقطاعيين والأسر الأرستقراطية في المدينة.
ففي إطار الحركة الوطنية العراقية، وقفت طائفة من رجال الدين الشيعة المستنيرين إلى جانب القوى والفئات الاجتماعية عندما طالبوا بالدستور والحياة الديمقراطية ودعوا إلى الحركة القومية في إطار الدولة العثمانية.
قامت هذه الطائفة من رجال الدين بحملة دعائية واسعة لأفكارهم من خلال عقد الاجتماعات والندوات السياسية في المدارس الدينية والبيوت. (24) وشكلوا الحلقات الدراسية في الجوامع يدرسون فيها مبادئ العلوم الحديثة التي استمدوها من المجلات والكتب المصرية. (25) ونظم الأناشيد القومية والوطنية، وكما أيد رجال الدين تأسيس المدارس الحديثة التي اكتسبت قوة وقبولاً لحركة التجديد في الأوساط المحافظة وخاصة الأميين منها. (26)
وكانت هذه الجهود تتحرك نحو إنقاذ الإسلام السلطوي أو إبراز قسماته التاريخية كعقيدة أو اكتراث الحركة الوطنية “بعد تدهور الإسلام الرسمي” في أواخر العهد العثماني الى مذهب لا عقلي انعزالي. (27) فيهدف هذا التوجه الى تجديد الإسلام في إطار موقف إصلاح اجتماعي، الى جانب طابعه الديني والاصلاحي. انها محاولة للاستقلال الذاتي للعراق ضمن الدولة العثمانية وضد الاختراق الغربي للبلاد. مما يعني ان جوهرها كان ايضاً صراعاً سياسياً.
أما التيار الثاني التي تجمع حول جماعة المشورة وهي حركة اسلامية معادية للدستور كان محورها نقيب اشراف بغداد “السيد عبد الرحمن النقيب” يساندها الملاكين الكبار وبعض رجال الدين السنة فانضموا فيما بعد إلى الحزب المعتدل. (28)
ازدهرت الحركة السياسية ما بعد الدستور على أساس طائفي، فقد أيدت اكثرية رجال الدين الشيعة التجديد بينما عارض معظم رجال الدين السنة الدستور. ولكن لم تكن الارتباطات الطائفية هي التي تحدد الطابع السياسي لهذه الحركات بالدرجة الاولى. فمثلا وقف بعض رجال الدين الشيعة أمثال كاظم اليزدي ضد إعادة الدستور العثماني. (29) بينما وقف يوسف السويدي وهو من الطائفة السنية لا يفوقه منزلة إلا نقيب بغداد مع الحركة الدستورية. (30)
ساعدت رجال الدين في العراق من خلال نشاطاتهم الفكرية على جذب أكثر فئات الشعب تخلفاً، كما ساعدت على عزل العناصر الدينية المستبدة، التي حاولت أن تعيق عملية التجديد وارجاع مسيرتها الى الوراء مما يؤدي حسب تعبير لينين الى اصابة البلاد بالفساد. (31) وقد كان تأثير العامل الديني المتمثل بالتجديد ايجابيا على العمليات السياسية في هذه المرحلة التاريخية من حياة البلاد.
أن التيارات الفكرية التي ظهرت بعد إعلان الدستور، كانت ثمرة التناقضات الداخلية وفي تفاعلها وصراعها سلباً وايجاباً مع الحضارة الغربية. “أي أنها محصلة الصراع الفكري من أجل تحديد الهوية القومية والاجتماعية وتجديدها، أنها محصلة صراعات طبقية وقومية بين قوى داخلية.”
كانت التيارات الدينية والعلمانية تتحرك في إطار فكر برجوازي متأرجح بين شرائحه وفئاته العليا والوسطى ولهم موقفاً سياسياً اجتماعياً إصلاحيا وسطيا. وهي دعوة عقلانية إصلاحية في الأساس ضد المؤسسات الرجعية.
مساهمة الطلبة في الحركة الوطنية العراقية
بعد اعلان الدستور
اثارت شعارات قادة ثورة 1908 ((حرية، عدالة، مساواة)) في البداية مشاعر وعواطف الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية الذين كانوا يعانون من الاضطهاد القومي على يد السلطة الغاصبة.
لقد شاعت على نطاق واسع بين الأوساط البرجوازية العربية بكافة شرائحها وفئاتها وهماً حول إمكانية تحقيق المطامح العربية بنشر اللغة العربية وتحسين أوضاع الولايات العربية والمحافظة على التقاليد والعادات العربية باعتبارها مظاهر اسلامية. وهو ما كانت تصبو إليها الحركة الوطنية العربية مع تأسيس أول جمعية عربية في الأستانة في الثاني من أيلول 1908 أي قبل الثورة بأقل من شهرين، وهي جمعية الإخاء العربي.
وقد سار الإخاء العربي على اثر جمعية *الاتحاد والترقي* وانطلقت قادة الإخاء من مبدأ الجامعة العربية واعترفت بما يسمى بالأمة الإسلامية. (33)
بيد أن الطابع البرجوازي للثورة ساعد على تدهور سريع في الاتجاهات الديمقراطية لحركة الأتراك الشباب. وبذلك كشفت عن الأهداف الشوفينية لقادة الاتحاديين الذين جاءوا بالدستور، فقد اتبعوا ذات السياسة السابقة للدولة العثمانية تجاه الشعوب الخاضعة لهم ((فإذا كان السلطان يريد جعل الدعوة الإسلامية وسيلة للحفاظ على كيان امبراطوريته، فإن الاتحاديين تبنوا لنفس الغاية سياسة قومية بالضد من مصالح الشعوب الداخلة في نطاق الدولة العثمانية. بما في ذلك الشعب التركي.)) (34) مما أدى إلى انسحاب العرب وبقية القوميات الاخرى، وبدأ العمل على تشكيل منظماتهم الخاصة بهم بعد أن أصيبوا بخيبة أمل جراء النهج غير المتوقع الذي سار عليه الاتحاديون بعد تسلمهم الحكم.
وبصدد الانتصارات الأولى التي أحرزتها ثورة تركيا الفتاة، كتب لينين ((هذا الانتصار ما هو إلا نصف انتصار، بل حتى جزء أقل من انتصار، إذ أن نيقولاي الثاني التركي قد اكتفى آنذاك بوعده المتعلق ببعث الدستور المشهور)) (35)
إن الوضع الجديد الذي ظهر في بداية القرن العشرين المتجسد في أزمة القمة، حيث دب الفساد في ماكينة الدولة العثمانية وتفسخ العلاقات الإقطاعية من جانب، وتشديد اضطهاد الجماهير الشعبية، كانا يفوقان كثيراً على إمكانية الحركة الوطنية الناشئة.
لم تكن قيادة هذه الحركة ((قادرة على تحويل الرضوخ السلبي للاضطهاد إلى حالة نشطة من السخط والانتعاش)) (35)
يشكل عام 1908 علامة مهمة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية، فكما ذكرنا سابقا ويمكن إرجاع هذا التطور الى التغيرات الهيكلية التي حدثت في بنية المجتمع العراقي وفي تفاعلها السلبية والايجابية مع الحركة التحررية من أجل الإصلاحات الدستورية التي كانت تقودها جمعية ” الاتحاد والترقي “، الأمر الذي أدى إلى ازدياد الوعي الوطني والقومي في صفوف الحركة الوطنية العراقية وأدى تراكم هذا الوعي الى حركة ضاغطة أدت الى تراجع الاتحاديين عن مواقفهم السابقة. وحفز الطلبة وسائر المثقفين لتبني مبدأ المعارضة ضد النظام العثماني والدعوة الى الحكم الذاتي واللامركزية.
لقد ساهم عدد غير قليل من الطلاب العراقيين الى جانب الضباط وسائر المثقفين، في تأسيس الجمعيات والمنظمات وعقد المؤتمرات في الخارج، بل إن بعض الطلاب العراقيين الذين درسوا في معاهد وكليات المدنية والعسكرية في اسطنبول بادروا إلى تأسيس عدد من الجمعيات قبيل الحرب العالمية الأولى.
لعب الطلبة العراقيين دوراً بارزاً في المنتدى الأدبي الذي تأسس في عام 1909. لم تكن لأهداف المنظمة الرسمية أي صلة بالسياسة، وكانت في الظاهر جمعية أدبية محضة، ولكن وفي الواقع كانت سياسية ومركزاً لتجمع الطلاب والمثقفين من العرب وتلقى فيها المحاضرات والخطب. (38) كما حصلت على مطبوعات ممنوعة من مصر والولايات المتحدة الأمريكية واستخدمت بالدرجة الأولى كستار لمنظمات القوميين العرب السرية. (39)
كما أرسل المنتدى مُوفَّداً الى الموصل وعقد اتصالات مع عدد من الطلبة ودعاهم الى تنظيم أنفسهم داخل أحزاب وجمعيات. (40) وقد نجح إلى حد كبير في بث الفكرة الوطنية في سوريا والعراق. (41)
بمبادرة من الطلبة العراقيين في اسطنبول تأسست في أيلول عام 1912 جمعية العلم الأخضر. (42) اقتصرت نشاطاتها على الأمور الادبية وتقوية الروابط والعلاقات المتينة وبث الوعي السياسي بين الطلبة. (43)
ساهم الطلبة في المؤتمر العربي الأول في باريس التي دعت إليها جمعية العربية الفتاة في عام 1913. (44)
لقد كانت لهذه الجمعيات والمنظمات وخاصة المنتدى الأدبي أثراً كبيراً في توعية الطلبة العراقيين الدارسين في الآستانة، وبعد تخرجهم لعب هؤلاء دورا مؤثراً في بث الوعي الوطني في صفوف الشعب العراقي.
أصداء ثورة 1908 التركية
في داخل العراق
لقد استقبل العراقيون انتصار الثورة وإعلان الدستور بابتهاج وحماس عالين باعتبارها عهدا جديداً لتآخي القوميات على اختلاف عقائدها وخاصة في بغداد. أما في الموصل كان الدستور وسيلة للتخلص من الوالي مصطفى بك، ولم يشعر أهل البصرة بأي تأثير على وضعهم. (45) ومع ذلك انعكس تأثيرها بشكل رئيسي على المثقفين والمتعلمين. (46)
برزت الحركة الوطنية المعارضة لحكم الاتحاديين في شكلها الجنيني بعد إعلان الدستور. فقد أيدت المشروطية لكنها وقفت ضد سياسة التتريك، ولكنها لم تخرج عن إطار الدولة العثمانية. وعبرت عن نفسها في بغداد من خلال بعض المثقفين والصحفيين الذين التفوا حول صحيفة بين النهرين للتعبير عن رغبتهم في الإصلاح والتقدم وتحقيق حقوق الشعوب الخاضعة للسلطنة العثمانية في المساواة، وشكلوا فرع تابع لحزب الحرية والائتلاف في بغداد، والذي كان في الواقع حزباً تركياً يعارض سياسة الاتحاديين ويتعاطف مع مطالب القوميات غير التركية. (47)
وشهدت الصحافة انتعاشاً كبيراً عقب إعلان الدستور بعد أن كان هناك ثلاث صحف فقط في العراق تصدرها السلطة العثمانية باللغتين العربية والتركية في كل من مراكز الولايات الثلاثة ” بغداد، البصرة، الموصل”. بعد إعلان الدستور مباشرة بلغ عدد الصحف والمجلات ما يقارب السبعين. (48)
وكان الغاية من إصدار هذا العدد الهائل من الصحف والمجلات، تعود الى رغبة المثقفين في القيام بإصلاحات وطنية (49) وصارت هذه الصحف مناراً للاتجاهات السياسية والفكرية الإصلاحية التي أثرت في بلورة الوعي الوطني لدى الجماهير الشعبية.
لقد أدركت البرجوازية العراقية الناشئة ومثقفوها اهمية الدعوة الى تأسيس المدارس والمعاهد العالية والتدريس فيها باللغة العربية، (50) وقد اتخذت الدعوة من الصحافة والمجالس العمومية ومجلس المبعوثان ميادين لإثارة هذا المطلب. (51)
فقد نشر جريدة الايقاظ في البصرة سلسلة من المقالات تدعو إلى الإصلاحات في النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية، ونادت بتأسيس المدارس ومجانية التعليم وتعميم اللغة العربية في معاهد التعليم ودوائر الدولة، وطالبت بتأسيس مدرسة الصناعة. (52)
كما نشرت الصحف الاخرى وخصوصا المفيد وصدى بابل والرياض والعرب وغيرها الدعوة لنشر التعليم. (53)
واندفع المثقفون إلى تأسيس المدارس الاهلية لتكون مركزاً لنشر الوعي الوطني في صفوف الطلبة. فتأسست ” مدرسة تذكار الحرية ” (54) في البصرة في تشرين الثاني عام 1908 ومدرسة ” الترقي الجعفرية ” (55) في بغداد والتي افتتحت في 12 كانون الأول 1908 وقد أصبحت هاتان المدرستان منتديين سريين يجتمع فيهما المفكرون والأدباء والكتاب ممن أن انضموا الى الحركات السياسية العراقية المعادية للاتحاديين وتعقد فيه الاجتماعات والندوات تحضره الطلاب. (56)
وأصبحت المدرستان المرتضوية والعلوية في النجف كنادي للطلبة، يطالعون فيها الصحف التركية والإيرانية والمصرية وتعرفوا من خلالها على التيارات الفكرية الحديثة وتعقد فيها الاجتماعات لبحث الأمور السياسية والأدبية. ولا تنحصر دور هاتين المدرستين، كوسائل التي ساعدت على نشر التعليم والثقافة الحديثة في محيط، كمحيط النجف فحسب، بل أن تأييد معظم علماء لفكرة تأسيسها ومنهجها اكسبت حركة التجدد قوة وقبولاً في الأوساط المحافظة ايضاً وخاصة الامية منها. (57)
إضافة إلى ذلك لعبت المدارس التي أنشأتها الدولة العثمانية في بعض أنحاء العراق دورا فاعلاً في خلق جيل جديد من المثقفين العصريين يرفضون الظلم والنظام الاستبدادي للدولة العثمانية وبدأوا بنشر الوعي والروح الوطنية والأفكار الحديثة في صفوف الجماهير الكادحة لإنارة أذهانهم تطلعاً نحو آفاق جديدة. (58)
بدأت الفئات المتعلمة والمثقفة ولا سيما طلاب الحقوق وأساتذتها، وكذلك بعض السياسيين في اتخاذ مواقف شديدة تجاه الدولة العثمانية، فانتشرت فكرة اللامركزية بعد تطور الفكر السياسي لدى الوطنيين العراقيين وأصبحت أكثر رسوخاً في أذهانهم في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين نزوعا نحو الحكم الذاتي، بعد الاقتناع بعدم جدوى الارتباط بالأحزاب السياسية التركية. إلا أنه لم يصل الوعي الوطني إلى حد المطالبة بالاستقلال التام. وهكذا تشكلت في أواخر 1912 في بغداد جمعية جديدة تحت اسم ” النادي الوطني” (59) التي كانت تحت تأثير العناصر الإقطاعية والكومبرادورية الأشد قوة.
وكانت الجمعية أدبية في مظهرها لكنها صارت مركزاً للنشاط السياسي للمثقفين العراقيين من خريجي المدارس العليا التركية وطلاب الحقوق وبعض الشباب من الفرات الاوسط وعدد كبير من الضباط العراقيين العاملين في الجيش العثماني. (60)
وسرعان ما ارتبطت جمعية النادي الوطني بجمعية الإصلاح في البصرة (والتي شكلها طالب النقيب في 28 شباط 1913)، في الواقع تبنت جمعية البصرة وبغداد برنامج حزب العثماني اللامركزية واصبحتا فرعين بارزين له (61)
لم يفهم قادة الحركة الوطنية العراقية واقع وطبيعة الدول الاستعمارية، حيث اتجه قسم منهم إلى التعاون معهم ضد الدولة العثمانية. وفي هذا الوقت ظهرت ” منظمة اليد السوداء ” التي بادر الى تأسيسها الطلبة الدارسون في الكليات والمعاهد المدنية والعسكرية في اسطنبول التي طالبت بحق تقرير المصير والتحرر الكامل من الدولة العثمانية، بقتل الخونة الذين يناوئون فكرة التحرر من السيطرة العثمانية. (62)
واتسمت الحركة الوطنية العراقية حتى الحرب العالمية الأولى بالميوعة وليست لها وجهة سياسية واضحة وموحدة ولم تكن عميقة الجذور لانعزالها عن الجماهير الشعبية وسرعان ما تفتت المنظمات التي تشكلت قبيل الحرب العالمية لأسباب اقتصادية بحتة.
التحركات الطلابية
الإضرابات والمظاهرات
شهدت السنوات الممتدة بين عام (1908- 1913)، بداية نهوض حركة التحرر الوطني العراقي. اقتصرت أنشطة قادة الحركة الوطنية في هذه الفترة على الدعاية للأفكار القومية والوطنية. كانت السمة المميزة للحركة الوطنية هي عزلتها عن الشعب، مما جعل من الصعوبة عليها تنظيم الجماهير الشعبية أو قيادتها بثبات وربط النضالات التي دارت في المدن بحركات الفلاحين والانتفاضات من اجل الارض التي بلغت ذروتها في عامي (1913 – 1914). (63)
وبدافع الأوضاع السيئة القائمة داخل المدارس وضد السياسة الشوفينية للسلطة الجديدة ومحاولتها تتريك المدارس، خاضت الجماهير الطلابية سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي لم تتجاوز نطاق المقاومة العفوية، ولكنها ساهمت بشكل أو باخر في توعية الجماهير الطلابية وتحدي للظروف السائدة ومقاومة الظلم والاستبداد.
أثار النظام البوليسي الصارم في العهد العثماني استياءً واسعاً بين طلاب المدارس المختلفة وخاصة أساليب إدارات المدارس اللاتربوية واتباع هذه الإدارات التميز الاجتماعي والطبقي في تعامله مع الطلبة، حيث خصص غرف خاصة لأبناء الأثرياء، مما خلقت هذه السياسة تململ في صفوف الطلبة ولا سيما في عهد السلطان عبد الحميد.
عبرت الطلبة عن احتجاجهم على الأوضاع القائمة بأشكال مختلفة. فقد أقدمت الطلبة على كتابة الشعارات ضد السلطان عبد الحميد لقمعه الحريات والأفكار وتم توزيعها بصورة سرية داخل المدرسة. (64)
عندما ظهرت بوادر الحركة الدستورية في إيران عام 1905، أثار الرأي العام العراقي وطالب رجال الدين في النجف الى مساندة نضال الشعب الايراني في سبيل حقوقها الديمقراطية، وكان لهذا الحدث تأثيره الكبير على تفكير الطلبة في المدارس الدينية من خلال الطلاب الإيرانيين.
سارعت تلاميذ المدارس الدينية مع رجال الدين في تنظيم البرقيات ورسائل الاستنكار إلى السلطات الإيرانية تطالبها التقيد بالدستور ومجلس الشورى في عام 1906. (65)
في عام 1908 أطلقت الحركة الدستورية العنان لمبادرات الجماهير الشعبية، حيث تلقى الطلاب بفرح وابتهاج نبأ إعادة العمل بالدستور، وانطلقت المظاهرات الطلابية للاحتفال بهذا الحدث. (66) كما انضم العديد من الطلبة في النجف الى منظمة الاتحاد والترقي ودعوا الى نشر مبادئ الدستور عن طريق المدارس الدينية وجرى طبع النشرات على الة الرونيو
وتوزيعها. (67)
أما في بغداد فقد ساهم الطلاب في نشاط الحركة التي برزت ضد الأساليب القسرية التي كانت إدارات المدارس تتخذها ضد الطلبة.
فقد أعلن طلاب المدرسة الحربية في بغداد الإضراب والتظاهر ضد مديرهم وأخرجوه عنوة. كما قرر طلاب الصف الخامس في الاعدادية الملكية في بغداد إعلان الإضراب احتجاجاً على سوء معاملة معاون مدير المدرسة مع الطلاب، وبعد لحظات خرجوا إلى ساحة المدرسة وبدأوا بتحريض بقية الطلاب على الإضراب والتضامن معهم، وحاول مدير المدرسة منعهم من الخروج إلا أن محاولاته بغلق الباب باءت بالفشل امام إصرار الطلبة، فكسروا باب المدرسة وانطلق جموع الطلبة قاصداً السراي لمقابلة الوالي.
قدم وفد مكون من ستة طلاب مطالبهم للوالي وطالبوا بمحاسبة معاون مدير المدرسة على السلوك غير التربوي تجاه الطلاب.
فقد احالهم الوالي الى مدير المعارف لدراسة مطالبهم إلا أن الأخير قد تواطئ مع مدير المدرسة ورفض مقابلة الوفد الطلابي.
استغل المدير تراجع بقية الطلبة عن مواقفهم، قررت الادارة طرد الطلاب الستة المساهمين في الوفد لمدة اسبوع. بسبب عفوية الإضراب وضعف التنظيم وعدم تضامن الطلبة مع الوفد ادى إلى فشل الإضراب وعدم إحراز النجاح في محاسبة معاون المدير.
بعد تعيين الوالي الجديد لبغداد اوعز الى المدعي العام بالتحقيق مع معاون المدير. ولكن المعاون خاف من مغبة سلوكه فهرب إلى أفغانستان عن طريق إيران، أعيد الطلبة الى مقاعدهم الدراسية واستقبلوا من قبل زملائهم باحترام وتقدير وأصبحوا من الطلبة البارزين في المدرسة وتألفت في المدرسة لجنة منهم بالإضافة إلى مدير المدرسة وأحد أعضاء التدريسية للإشراف على إصدار مجلة مدرسية أسبوعية باسم “لمعة معارف”. (68)
كانت بداية التطور النوعي في نشاط الطلبة بعد تأسيس مدرسة الحقوق في عام 1908، حيث صارت المدرسة منطلقاً للحركات السياسية والقومية ضد الحكم العثماني، مما أرعب الوالي جمال باشا السفاح الذي تولى مهامه في 30 آب 1911. أصدر الوالي بياناً يدعو فيه عن أسباب إغلاق المدرسة بحجة واهية مفادها أن مدرسة الحقوق لا تليق ببغداد ولعدم وجود اناس متعلمين أكفاء للدخول فيها، (69) وعلى أثر صدور البيان، فقد عمت في بغداد سلسلة من الاحتجاجات على القرار المجحف بحق الطلبة. حيث وقفت جريدة ما بين النهرين موقفاً تضامنياً مع الطلبة.
ولم تكتف بنشر بيان الوالي بصدد إلغائه لمدرسة الحقوق، بل هاجمته ايضاً بعنف. وكان لهذه الاحتجاجات صدى واسع أدى إلى فشل محاولات الوالي إغلاقها، وأعيد فتحها بعد إصدار الأوامر له من اسطنبول. (70)
الحركة الاضرابية في مدينة الموصل
سادت مدينة الموصل بكامل أشكالها من الاقتصاد الإقطاعي، واتصفت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة بحرمان الفلاحين من الأرض وتركيزها بأيدي الإقطاعيين. وتميز بضمور كامل في العلاقات الأبوية البطرياركية. (71)
كانت مدينة الموصل نموذج حاد للظلم في تسجيل الطابو وتميز الإقطاع بكونهم يستمدون سيطرتهم من قوة الحكومة. فإن حائزي الأرض في الموصل لم يكونوا في وضع يسمح لهم بممارسة أي معارضة للسلطة الحاكمة. (72)
وكانت البرجوازية التجارية في الموصل مهتمة بالحفاظ على العلاقات السياسية مع تركيا، حيث كانت الموصل منذ فترة طويلة مركزاً ومحطة تجارية مع تركيا وسوريا. (73) وبقيت هذه العلاقات على الرغم من تراجع الصادرات بعد ربط العراق بالسوق الرأسمالية. (74) بالإضافة الى قوة النزعة الدينية التي كانت عقبة أمام تطور الحركة المناهضة للحكم العثماني. (75)
لهذه الأسباب وغيرها، لم يكن الوعي الوطني والقومي عميقاً وفعالاً قبيل الحرب العالمية الأولى.
لعبت الطبقة الوسطى ولا سيما المثقفين والطلاب في بث الوعي الوطني والقومي في صفوف الجماهير، وتميزت الموصل بنسبة عالية من المثقفين والطلاب بين سكانها بعد بغداد لكثرة المدارس فيها خلال العهد العثماني. (76)
وقد تشكلت في الموصل جمعية سرية من ممثلي التجار الصغار والضباط والمثقفين، اختفت بعد فترة قصيرة. (77)
أسست طلبة دار المعلمين في الموصل تجمع، كانت مهمته بث الروح الوطنية في صفوف الطلبة ومن خلال الأناشيد الحماسية التي اثارت الروح القومية في كل مناسبة. (78) وبتأثير المنتدى الأدبي تألفت جمعية “العلم” السرية من ممثلي المثقفين والطلاب في عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. (79)
لقد جابهت الجماهير الطلابية سياسة التتريك التي انتهجها الاتحاديين وعبروا بالإضراب عن استيائهم لهذه السياسة الشوفينية.
ومن اهم الامور التي حدثت في هذا المجال، طالبَ الجماهير الطلابية في دار المعلمين بضرورة رفع مستوى المدرسة وإصدار التوجيهات الى المعلمين الأتراك بالتقيد في أداء واجبهم في التدريس بشكل كامل والامتناع عن المضايقة، بعد أن قام الاتحاديون بتعيين عدد من المعلمين المتعصبين للقومية وابعدوا نظرائهم الذين عملوا في الحركة الوطنية العراقية.
على إثر إقدام الإدارة في طرد ثلاثة من الطلاب النشطاء، عقد الطلاب اجتماعاً في المدرسة العلمية وقرروا الإضراب عن المدرسة حتى يتم إلغاء قرار الطرد، وانتخبوا ثلاثة طلاب متفوقين في دروسهم للخدمة في المدرسة العلمية عوضا عن مدرسيهم (80) وعندما تفاقم الوضع اضطرت الإدارة إلى استدعاء الشرطة..
وبعد مضي سبعة عشر يوماً أبرق الطلاب خلالها إلى مدير المعارف ومدير الداخلية ورئاسة الوزراء في الآستانة، برقيات تتضمن مطالبهم، وكما أرسلوا صور من تلك البرقيات إلى الصحف البارزة في اسطنبول.
لقد استجاب المسؤولون في دار الخلافة العثمانية لمطالب الطلبة واوعز الى الوالي التحقيق في القضية وشكل لجنة رباعية من وجهاء المدينة.
في الوقت الذي وصلت اللجنة إلى المدرسة، تجمعت الطلاب في فناء المدرسة وأخذت تهتف بشعارات وطنية حماسية تعبر عن روح التحدي والإصرار على النضال من أجل تحقيق مطالبهم، فاضطرت الإدارة الرجوع عن قرارها واعادة المفصولين إلى مقاعد الدراسة. (81)
الخلاصة
لو نظرنا عن كثب إلى هذه الانشطة والحركات الطلابية، نجد انها في معظم الحالات اتسمت بالعفوية وعدم الاستقرار في غالب الأحيان ولم تتحول الى حركة جماهيرية مطلبية واسعة تمكنهم من زعزعة قلعة الدولة العثمانية.
تعود اسبابه الى قلة الخبرة وعدم النضج السياسي الذي ميز الحركة الوطنية بشكل عام في تلك الحقبة التاريخية، فالمعارضة في العراق اعتبرت نفسها جزءً من المعارضة العامة داخل الدولة العثمانية أكثر من كونها قوة خارجية في إطار دولة تواقة إلى الاستقلال.
اتخذت الطلبة الإضراب كسلاح في كفاحهم لتصعيد روح التحدي والإصرار على مطالبيهم. على الرغم من أن بعض هذه الإضرابات صغيرة الحجم، إلا أنها أضافت قوة اجتماعية جديدة في الحركة الوطنية العراقية ضد الحكم العثماني الغاصب.
إن هذه التظاهرات والإضرابات الطلابية، قد خبرت الحركة الوطنية بأهمية العمل الجماهيري لتحقيق مطالبهم وفي نفس الوقت تشير الى مدى الوعي الذي حققه الطلبة.
…………………
- – لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار التقدم، موسكو، 1971، ص. 390 – 391
- – سعاد خيري، تاريخ الحركة العربية المعاصرة في العراق الجزء الاول 1920 – 1958، ص. 17
- – محمود أمين العالم، الوعي والوعي الزائف، دار الثقافة الجديدة القاهرة ص. 34
- – د. محمد أنيس، محاضرات عن تاريخ الشرق الأوسط، الجزء الأول، ص. 25 عن مجلة دراسات عربية، العدد 2، السنة الخامسة عشر كانون الأول 1978، ص. 18
- – د. وميض جمال عمر نظمي، ثورة 1920 ((الجذور الفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية والاستقلالية في العراق))، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 65
- – د. عبدالاله احمد، نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 – 1930، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية “آفاق عربية” الطبعة الثانية بغداد 1986، ص. 4
- – د. عبد العزيز الدوري «التكوين التاريخي للأمة العربية “، ص. 232- 233 عن حسين جميل، العراق شهادة سياسية 1908 1940، دار السلام، لندن 1987 ، ص. 8 – 9
(8) – رفعت السعيد، الأساس الاجتماعي للثورة العرابية، مكتبة مدبولي، ص. 100
(9) -محمود العبطة، رجل الشارع في بغداد، 1972، ص. 201
(10- الثقافة الجديدة، العدد 76، تشرين الأول 1975، ص.124
(11) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 369
(12) – البرافدا، 7 مايس، عن الثقافة الجديدة العدد 15 تموز 1970، ص. 67
(13) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 395
(14) – الدكتور كمال مظهر أحمد، دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية، مطبعة الحوادث، بغداد 1978، ص. 56
(15) – روفائيل بطي، صحافة العراق، الجزء الاول، بغداد، 1985، ص. 47
(16) – الرقيب، العدد 9 بتاريخ 7 سفر 1327، السنة الأولى، عن عمر فياض، جذور الفكر الاشتراكي في العراق 1920 – 1934، دار ابن الرشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1980.
(17) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 74
(18) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(19) – المقتطف، المجلد الرابع والثلاثون، يناير 1909، ص. 95، عن آفاق عربية، العدد الثالث، السنة الرابعة عشر، آذار 1989، ص. 61
(20) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 401
(21) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(22) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 70
(23) – د. عبدالاله احمد، نفس المصدر السابق، ص. 17
(24) – حسن الاسدي، ثورة النجف، بغداد دار الحرية للطباعة، 1975، ص, 11-12
(25) – د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الثالث، بغداد 1972، ص. 8 – 9
(26) – حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 – 79
(27) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(28) – آفاق عربية، العدد الثالث آذار 1989، السنة الرابعة عشر، ص. 61
(29) – حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 10
(30) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 100
(31) – افجيني بريماكوف، الشرق بعد انهيار النظام الاستعماري، دار التقدم، موسكو 1985، ص. 68
(32) – جورج انطونيوس، يقظة العرب، ترجمة ناصر الأسد واحسان عباس، بيروت 1982، ص. 177 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 آذار 1989، ص. 61
(33) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص.399
(34) – الدكتور كمال مظهر، ترجمة محمد ملا عبد الكريم، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 95
(35) – لينين، المادة القابلة للاحتراق في السياسة العالمية، مجموعة من المؤلفات الكاملة الروسية، المجلد 17، ص. 377، عن لوتسكي نفس المصدر السابق، ص. 397
(36) – افجيني بريماكوف، نفس المصدر السابق، ص. 56
(37) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(38) – سليمان فيضي، في غمرة النضال، شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد 1952 ص. 58
(39) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 403
(40) – ابراهيم خليل، الحركة العربية في الموصل قبيل الحرب العالمية الأولى، ص. 84 – 85 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الأول 1979، ص. 54 – 55
(41) – علي البازركان، الوقائع الخفية في الثورة العراقية، مطبعة السعد، بغداد
1954، ص. 12
(42) – عبد الرزاق الحسني، تاريخ الاحزاب العراقية، الطبعة الثانية بيروت 1983،
ص. 19
(43) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 85
(44) – تألفت الجمعية في سنة 1911 في فرنسا، لم يكن من بين مؤسسيها أعضاء
من العراقيين وقد انتمى إليها في الفترة ما بعد الحرب العالمية بقليل.
احلام جميل، الأفكار السياسية للأحزاب العراقية في عهد الانتداب 1922 – 1932،
منشورات مكتبة المثنى، مطبعة الزمان، بغداد 1985، ص. 5
(45) – نجدت فتحي صفوت، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب، منشورات
دار التربية والتحرير، بغداد، الطبعة الثانية 1984 مطبعة منير ص. 76- 7 – 78
(46) – د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 161
(47) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 – 99
(48) – عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، الطبعة السادسة، مطبعة
العرفان، صيدا لبنان 1972، ص.27
(49) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 71
(50) – عبد الرزاق عبد الدراجي، جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في
العراق 1908-1945، دار الحرية للطباعة، الطبعة الثانية، بغداد 1980 ص. 32
(51) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 152 – 160 – 162
(52) – روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص. 51
(53) – آفاق عربية، العدد 3 آذار 1989، ص. 62
(54) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 67 – 68
(55) – عبد الرزاق عبد الدراجي، نفس المصدر السابق، ص. 35
(56) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 76
(57) – آفاق عربية، العدد 3 تشرين الثاني 1979، ص. 54 وحسن الاسدي، ثورة
النجف ص. 78 – 79
(58) – د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 7-8
(59) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 – 99
(60) – عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي 1984 ص. 236 عن مجلة آفاق عربية العدد الثالث آذار 189 ص. 62
(61) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 99
(62) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 86
(63) – لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 398
(64) – نصير الجادرجي، من أوراق كامل الجادرجي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر 1971، ص. 41
(65) – هبة الدين الشهرستاني، مجلة العلم النجفية، العدد الأول، سنة 1910
(66) – محمد صادق الحسيني، عمران في بغداد، ص. 213 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الثاني 1979
(67) – حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 – 79
(68) – ناجي شوكت، سيرة وذكريات ثمانيناً عاماَ 1894 – 1974، الطبعة الثالثة، مطبعة دار الكتب، بيروت 1977، ص. 20 – 21
كان الوفد الطلابي مكون من ” ناجي شوكت، بهجت زينل، فاضل محمود، مصطفى عاصم، عبد العزيز الخياط، ومزاحم الباجه جي”.
(69) – عبد الرزاق الهلالي، معجم العراق، الجزء الأول، مطبعة النجاح بغداد 1953، ص. 235
(70) – روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص.48 – 49
(71) – ل.ن. كوتلوف، ثورة العشرين التحررية في العراق، ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم، مطبعة اوفيست الديواني، بغداد 1985، ص. 63، 65،67
(72) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 97، 98
(73) – د. محمد سلمان حسن، التطور الاقتصادي في العراق، الجزء الأول، الناشر المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ص. 89
(74) – د. محمد سلمان حسن، نفس المصدر السابق، ص. 131
(75) – سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 121
(76) – د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس، مطبعة المعارف، بغداد 1977، ص. 53
(77) – وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(78) – عبد المنعم الفلاحي، أسرار الكفاح الوطني في الموصل، الجزء الاول، مطبعة شفيق 1958، ص. 33
(79) – عبد المنعم الفلاحي، صفحات مطوية من تاريخ الحركة القومية، صدى بابل الموصل العدد 158 9 أيار 1952، وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(80) – عبد المنعم الفلاحي، نفس المصدر السابق، ص. 116 – 117
(81) – ابراهيم خليل، ولاية الموصل دراسة في تطوراتها السياسية ” 1908 – 1922″ بحث من مجلة الخليج العربي التابع لجامعة البصرة ص. 140 عن آفاق عربية العدد 3، تشرين الثاني 1979، ص. 54