“يفترض أن يكون مسعى القوى الديمقراطية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، نحو تحقيق تلك التحالفات التي تلتزم بصرامة وحزم ومسؤولية بالمهمات الآنية والملحة التالي: ** تحقيق تغيير في النظام السياسي الطائفي محاصصاته الطائفية المذلة؛ ** مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين وتقديمهم للعدالة؛ ** رفض العنصرية والشوفينية وضيق الأفق القومي والطائفية باعتبارها مفرقة للصف الوطني ورافضة لمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية؛ محاربة الإرهاب والتصدي لكل قوى الإرهاب بمختلف مسمياتها؛ ** حل الميليشيات الطائفية المسلحة ورفض وجود جيش داخل الجيش العراقي، ودولة داخل الدولة العراقية، ومنع وجود السلاح بأيدي أفراد وجماعات ومؤسسات غير حكومية وغير دستورية؛ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء؛ ** حماية الاستقلال والسيادة الوطنية، ورفض والتصدي لأي تدخل خارجي في الشؤون العراقية؛ ** إعادة إعمار المناطق التي خربتها الحروب والصراعات الطائفية وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع بأسره؛ ** البدء بعملية تنمية و\نية تغير واقع العراق الاقتصادي الريعي المتخلف والمشوه والتابع؛ ** العمل من أجل مكافحة البطالة والفقر والفجوة المتسعة في مستويات الدخل والمعيشة وتأمين العدالة الاجتماعية؛ تأمين أسس ومناهج التربية والتعليم على أسس علمية متقدمة وحديثة؛ بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني. .. وأي تحالف يبتعد أو يزوغ أو يتساهل عن الأهداف الجوهرية، ولاسيما مناهضة ورفض الطائفية والفساد والإرهاب، يعني أنه لا يريد الإصلاح ولا التغيير، إذ لا يمكن له أن يحقق التحالف المنشود الذي تسعى إليه القوى الديمقراطية العراقية. عن هذه الأهداف وعن التجارب السابقة يتحرك أمامي شريط تجارب التحالفات السابقة والأخطاء التي رافقتها والعواقب التي تحملها الشعب من جراء ذلك، رغم مسؤولية النظم السياسية الأول والأساس عما لحق الشعب العراقي ولا يزال يلحق به من جراء ذلك، من أذى شديد وخسائر بشرية ومادية هائلة، وأتحدث بها هنا بصوت مسموع.” ك. حبيب
التحالفات السياسية ظاهرة قديمة متجددة باستمرار، تمارسها مختلف القوى والأحزاب السياسية في العالم، سواء أكانت من اليمين أم اليسار أم الوسط، وصيغ أخرى أيضاً. كما مارستها قبل ذاك، أو ما تزال حيثما وجدت حالياً، القبائل والعشائر، إضافة إلى الإمبراطوريات القديمة والدول الحديثة. والأحزاب السياسية في العراق مارستها منذ تشكيل الدولة الملكية 1921 حتى الوقت الحاضر. وهي ظاهرة تعبر عن مصالح طبقية وسياسة مشتركة بين القوى والأحزاب المتحالفة، سواء أكانت تلك الأهداف مؤقتة أم متوسطة المدى أم طويلة الأمد، وسوا أكان التحالف من أجل مجموعة من الأهداف أو عدد منها أو حتى من هدف واحد، يمكن بعدها أن يتطور ويتمدد أو ينتهي بانتهاء تحقيق الهدف أو الأهداف المتفق عليها. والتحالفات السياسية بمختلف صيغها هي شكل من أشكال الجبهات السياسية التي يشكلها حزبان أو أكثر لمواجهة أو معارضة حكم قائم، أو الدفاع عن حكم تقوده أو تشارك فيه.
كل أشكال التحالفات والجبهات السياسية والاجتماعية عاشتها مختلف الأحزاب السياسية الديمقراطية العراقية، سواء أكانت في المعارضة وهي الأكثر، أم في الحكم وهي النادرة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى الوقت الحاضر. وكان الحزب الشيوعي العراقي أول من دعا إلى تشكيل الجبهة الوطنية الموحدة في العراق في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي ظهرت في كتاب الرفيق حسين محمد الشبيبي (صارم)، عضو المكتب السياسي للحزب. وقد تأثر مفهوم وبنية الجبهات الوطنية لدى الأحزاب الشيوعية والعمالية للأمية الثالثة، رغم إلغاء الكومنترن (مكتب الأممية الثالثة) في العام 1943، في أغلب دول العالم، بما فيها الدولة النامية، ومنها العراق، في تلك الفترة ولسنوات طويلة بفكر و”تعاليم” الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الثالثة والتقرير الذي قدمه جيورجي ديمتروف حول الجبهة الشعبية المعادية للفاشية في العام 1935 في مؤتمر الكومنترن السابع ومن ثم في كتابه عن الجبهة الوطنية في العام 1938، إضافة إلى أفكار جوزيف ستالين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولاسيما في الموقف من البرجوازية المتوسطة بنزعته اليسارية الانعزالية والمتطرفة، التي كانت تؤكد على تشكل الجبهات الوطنية، ولكن تؤكد أيضاً على قيادة الأحزاب الشيوعية والعمالية لهذه الجبهات وإدانة سلوكيات البرجوازية المتوسطة. وبسبب هذا الشرط غالباً ما تعرض نشوء الجبهات الوطنية، ولاسيما مع الأحزاب البرجوازية الوطنية المتوسطة، بل حتى مع أحزاب البرجوازية الصغيرة، إلى مصاعب جمة. ويعتبر كتاب الرفيق محمد حسين الشبيبي “الجبهة الوطنية الموحدة: طريقنا وواجبنا التاريخي”، والمقدمة التي كتبها الرفيق فهد نموذجاً لمسعى الأحزاب الشيوعية الجاد خلال تلك الفترة، مع كونه كان بنزعة يسارية من حيث الأهداف والقوى ودور الحزب الشيوعي في الجبهة. والمشكلة الكبيرة التي كانت تواجه الأحزاب الشيوعية في الدول النامية، ولاسيما العراق، هو الجبهة التي كانت تؤكد على التحالفات الطبقية في موجهة طبقة أو طبقات أخرى، في حين أن المجتمع لم تكن كل الطبقات فيه قد تبلورت بذاتها ولذاتها وفي مصالحها، ولاسيما الطبقة العاملة أو حتى البرجوازية الوطنية المتوسطة.
فيما بعد، ولاسيما في الخمسينيات وتحت قيادة الرفيق سلام عادل، لم يعد الحزب يركز على قيادة الحزب للجبهة أو أهدافاً يسارية، بل سجل تحولاً واقعياً ملموساً في رؤية الحزب لمشكلات العراق والحلول المطلوبة، مما ساعد على تشكيل جبهة الاتحاد الوطني ولجنتها العليا والتي انتهت باتفاقات مع حركة اضباط الأحرار وإسقاط النظام الملكي وتشكيل حكومة الثورة. وبعد انتصار الثورة بدأت الصراعات بين الأحزاب الأعضاء في الجبهة، ولاسيما بين التيار القومي اليميني والتيار الماركسي، مما أدى إلى إنهاء وجود الجبهة.
حقق الحزب الشيوعي خلال الفترة اللاحقة تعاوناً سياسياً مع عدد من عدد من القوى السياسية لم يصل إلى مستوى التحالف، ثم كان تحالفه مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1972 وبعد وصول الأخير إلى السلطة عام 1968 واتخاذه جملة من السياسات والإجراءات التي جعلت قيادة الحزب توافق على التحالف السياسي بقيادة حزب البعث، والتي سميت بـ “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية”، رغم الضربات الموجعة جداً التي أنزلها حزب البعث والنظام السياسي البعثي بالحزب الشيوعي وتنظيماته في نهاية عام 1970 وبداية 1971. بعد خروج الحزب من التحالف في نهاية عام 1978 وبداية عام 1979، أمكن الدخول بتحالفات جديدة منها جود وجوقد، في الثمانينيات من القرن الماضي، إضافة إلى تشكيل الجبهة الكردستانية في العام 1988. انتهت تلك الجبهات ولم تحقق الكثير وأصبح بعضها يشكل عبئاً ثقيلاً على الحزب بسبب الصراع المستمر بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وفي التسعينيات حتى الإطاحة بنظام البعث عبر التحالف الدولي خارج إطار الشرعية الدولية، تشكلت تحالفات عديدة محدودة وواسعة لم يكن الحزب الشيوعي باستمرار طرفاً فيها لسببين: موقف الأحزاب الإسلامية السياسية من الحزب الشيوعي العراقي، وهو نتاج لموقف إيران أيضاً من جهة، ورفض الحزب الشيوعي العراقي الحرب الخارجية لإسقاط الدكتاتورية والعواقب المحتملة لمثل هذه الحرب من جهة ثانية، والتي تحققت أغلب تلك المخاوف العادلة. وبعد إسقاط الدكتاتورية لم تتشكل جبهة سياسية جديدة، رغم الأهمية القصوى لمثل هذه التحالفات السياسية بين القوى والأحزاب الديمقراطية، وبدا كل حزب أو قوة ديمقراطية تسعى لتعزيز مواقعها ونفوذها، مما أدى إلى خسارة كبيرة في تشكيل منبر ديمقراطيً مشترك مبكراً في العراق وفي أعقاب إسقاط الدكتاتورية ليلعب دوره في التعبئة والممارسة السياسية الفعالة. وفي حينها دعوت لأن يكون شعار القوى الوطنية الديمقراطية كلها هو: “قوى تنظيم الحركة الوطنية تتقوى وتتعزز أحزابكم السياسية”. ولم يستمع لهذه الدعوة أحد وكانت صرخة في البيداء! وبعد فترة أمكن تشكيل تحالفات سياسية بين قوى ديمقراطية نشأ عنها التيار الديمقراطي العراقي بقواه العديدة، ومن ثم جبهة “تقدم”. بعدها تشكل “سائرون” التي شارك فيها الحزب الشيوعي العراقي، وقوى ديمقراطية وإسلامية سياسية بقيادة مقتدى الصدر، وعليه اختفت “تقدم”.
ليس هناك أي اعتراض على التحالفات السياسية المؤقتة وذات الأهداف المحدد، سواء أكانت انتخابية أم لإجراء إصلاحات سياسية أو حتى تغيير الأوضاع القائمة، ومنها الخلاص من الطائفية والفساد والإرهاب. ولكن ما يفترض أن تأخذ به القوى الديمقراطية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره أكبر القوى الديمقراطية العراقية، التي تتحالف مع قوى أخرى إسلامية سياسية أو محافظة، هي أن تستفيد من دروس تجاربها السابقة في التحالفات والجبهات التي تشكلت خلال ما يقرب من 70 عاماً، وهي فترة غنية بدروسها: وبودي أن ألخص بشكل مكثف رأيي الشخصي ببعض الدروس المهمة:
كل تحالف سياسي مع قوى ذات أيديولوجية وأهداف أخرى يستوجب بعض التنازلات عن بعض أهدافها أو صياغتها بما يساعد على اتفاق المتحالفين.
وفي مثل هذه الحالة لا بد للقوى الديمقراطية، ومنها الحزب الشيوعي، أن تحافظ على استقلاليتها الفعلية في التحالفات السياسية أو حتى في قيام جبهة وطنية، وألَّا تتخلى عن أهدافها الأساسية.
ألَّا تكف عن ممارسة النقد لما تطرحه القوى الأخرى من أراء ومواقف بما يخالف صيغة الاتفاقات الموقع عليها، وتعتبر خاطئة من وجهة نظره أيضاً، بل عليها واجب ممارسة النقد بأسلوب حضاري وديمقراطي، إذ بدون ذلك تفقد القوى الديمقراطية شخصيتها المستقلة ودورها في التحالف وموقعها في صفوف جمهورها أو قاعدتها الحزبية والجماهيرية.
أن ترفض أي انفراد في اتخاذ القرارات أو التصريحات من جانب واحد باعتبار هذا الطرف أو ذاك يمثل القوى الأكبر في التحالف، إذ أن ذلك يفقد القوى الديمقراطية دورها وفاعليتها ومواقعها في المجتمع، كما إن عليها هي الأخرى ألَّا تنفرد باتخاذ قرارات دون التشاور والاتفاق مع القوى الأخرى، إنه شارع عريض باتجاهين.
أن تحافظ على الندية في العمل والمساواة في الحقوق والواجبات وفي التعامل المتبادل، فليس هناك قائد ومقاد.
وفي مثل هذه التحالفات غالبا ما تنشأ وجهات نظر متباينة حول هذا التحالف أو ذاك، ومع هذه القوى أو تلك. ويفترض في مثل هذه الحالة ممارسة أ- إدارة الصراع الداخلي بشكل عقلاني وخوض نقاش يعتمد السعي للإقناع أو البقاء بوجهات نظر متباينة، فالتنوع في الآراء لا يلحق أضراراً بالقوى الديمقراطية؛ وب_ الأخذ برأي الأكثرية، ولكن مع إبداء كل الاحترام للرأي الأخر، وامتلاكه حق الدفاع عن رأيه بكل السبل المتوفرة لديه. إذ ليس هناك ما يمكن أن يعطي الحق لأي من الرؤيتين أو أكثر القناعة بأن رأي الأكثرية أو رأي الأقلية هو الصائب، مما يستوجب اتخاذ موقف الاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر من جهة، والسماح بطرح وجهة نظر الأقلية بكل حرية وبصورة علنية من جهة أخرى. ج- الابتعاد كلية عن استخدام العقوبات ضد من يختلف في رأيه عن رأي الأكثرية، أو من أن ينشر رأيه علناً، إذ إن هذا الحق يكفله الدستور العراقي، على ما فيه من نواقص واختلالات، ولائحة حقوق الإنسان، حتى لو كان عضواً في حزب سياسي له نظامه الداخلي، إذ إن النظم الداخلية للأحزاب يفترض فيها أن تتوافق في مضامينها وأساليب وأدوات عملها مع الدستور وحقوق الإنسان، وألَّا تتعارض معها.
إن التجارب السابقة تشير إلى عدد من المسائل المهمة التي يفترض تجنبها تماماً، منها بشكل خاص:
الميل الواضح في عدم توجيه النقد للقوى الحليفة بسبب تجاوزها على الاتفاقات الموقع عليها، خشية انزعاج أو عدم ارتياح القوى الأخرى. إذ إن هذا الموقف يدفع ويشجع هذه القوى إلى ارتكاب المزيد من التجاوزات.
منع الأقلية في طرح رأيها صريحاً وواضحاً ونشره علناّ بذريعة الالتزام بالنظام الداخلي، مما يخلق ازدواجية في شخصية الإنسان عندما يجبر على التثقيف برأي ل يتبناه، وهو أمر مخالف حقوقياً ويلحق اضراراً نفسية وسياسية بالعضو أيا كان موقعه الحزبي.
اضطهاد الأقلية في معارضتها لرأي الأكثرية، أو لرأي القيادة، واتخاذ إجراءات عقابية بحق من ينشر رأيه علناً.
فسح المجال أمام الأقلية أو أحدهم برفع دعوى داخل الحزب أو أمام القضاء ضد العقوبات المتخذة بحق الأقلية أو بحق الفرد، ولاسيما الطرد، إذ إن ذلك يعتبر مخالفة لحق الفرد في امتلاك رأي آخر كمواطن أو كعضو في حزب معين.
إن مثل هذه الوجهة تعتبر ضمانة للقوى والأحزاب الديمقراطية أن تكون ديمقراطية حقاً وتتعامل على وفق مبادئ حقوق الإنسان وأن تكون نظمها الداخلية منسجمة مع مبادئ حقوق الإنسان السياسية ولا تعارض معها بأي حال. ولا شك في أن أي عقوبة قد اتخذت أو تتخذ بهذا الصدد تعتبر غير شرعية ومخالفة لحقوق الإنسان أولاً وأخيراً، وهو ما يفترض أن ترتضيه الأحزاب الديمقراطية لنفسها بأي حال، إذ لا يجوز أن تتضمن نظمها الداخلية أفكاراً وإجراءات شمولية تمارسها الأحزاب الديمقراطية، ومنها الأحزاب الشيوعية والعمالية، ولاسيما أن القوى والأحزاب الديمقراطية تدعو دوماً إلى احترام الرأي والرأي الآخر وتطالب بالالتزام الثابت بمبادئ حقوق الإنسان وتنفيذها الفعلي، والأحرى بها أن تمارسها ايضاً.