ترك الشاعر الانكليزي وليم شكسبير.. الذي لم يحدد تاريخ ولادته و ضبط تاريخ تعميده فقط في 26 أبريل 1564.. أمّا وفاته فقد ثبتت في 23 أبريل 1616.. ولو احتسبنا فترة رحلته الوظيفية اثناء عمله كممثل وكاتب وشريك في شركة تمثيل ” اللورد شامبرلين” حينما كان في التاسعة والاربعين من العمر عندما وصل الى سترات فورد سنقدر ميلاده بعام 1564 تقريباً..
وهي الفترة التي شهدت نهضة انجليزية في نطاق حركة ثقافية وفنية وابداعية في إنكلترا.. مع بدايات القرن السادس عشر حتى أوائل القرن السابع عشر.. ويمكن عدها جزء وامتداداً طبيعياً للنهضة الاوروبية المتداخلة.. التي تمد جذورها الى توسكانى في القرن الرابع عشر ..
هذه الحقبة التاريخية الهامة في العصر الإليزابيثي .. إليزابيث الأولى (1558م-1603م)، التي توصم وتوصف بالعصر الذهبي في التاريخ الانكليزي و ذروة آفاق النهضة الإنجليزية و ازدهارها الكبير في مجال الشعر والموسيقى والأدب والمسرح .. الذي شهد ما عرف تحديداً في هذا المجال بالمسرح الإليزابيثى .. الذي ساهم عدد مهم من الكتاب والمثقفين المختصين بالمسرح بتطويرها من خلال عدة مسرحيات انجزت ..
وكان لوليم شكسبير دوره المتميز في تطوير حركة التأليف من خلال العديد من المسرحيات التي خرجت عن النطاق التقليدي المألوف الذي عرف به المسرح الإنكليزي آنذاك .. وتجسّد لاحقاً في مجال الثقافة والابداع فيما وصف بجدارة بعصر شكسبير ايضاً ..
فقد كتب شكسبير الشعر وعد شاعر الوطنية.. وشاعر آفون الملحمي .. في سلسلة اعماله الابداعية المكونة من 158 سونيته وملحمتين شعريتين والعشرات من القصائد التي ترجمت الى عدة لغات عالمية بالإضافة الى 38 مسرحية متميزة في مجال الكتابة للمسرح ..
وبالرغم من قلة المدونات عن حياة شكسبير الخاصة .. التي أثارت التكهنات حول ميوله الجنسية ومعتقداته الدينية والفكرية .. يمكن ملاحظة حالات شكوك وطعن بما نسب اليه من اعمال ابداعية وفنية دون الوصول الى ما يثبت انه ليس بكاتبها.. او اية ادلة عن كتابها الآخرون..
وقد أنتج شكسبير معظم أعماله المشهورة ما بين 1589 ـ 1613تقريباً
ومعظم مسرحياته الأولى تمحورت مبدئياً حول الكوميديا والتاريخ و اعتبرت من أعظم الأعمال التي أنتجت في هذا المجال .. بعدها أخذ يتناول في كتاباته اللاحقة المآسي والتراجيديا بشكل رئيسي حتى عام 1608 .. في سلسلة مسرحيات هامة هي:
1ـ هاملت
2ـ عطيل
3ـ الملك لير
4ـ ماكبث
والتي اعتبرت من أروع الأعمال المسرحية في اللغة الإنجليزية.
في الفترة التالية من كتاباته المسرحية.. توجه ويليام شكسبير للكوميديا التراجيدية المتداخلة بالرومانسية، ونشر ـ بالتعاون مع كتاب أخرين للمسرح ـ أيضا في إصدار المزيد من المسرحيات.. كذلك نشر صديقين له هم :
1ـ جون هيمين جيز
2ـ هنري كونديل
أعماله غير المنشورة في حياته بعد وفاته.. منها فرست فوليو.. بالإضافة الى أعماله الدرامية ومسرحيتين عرفتا فيما بعد بأنهما لشكسبير.
وأشاد الكثير من الكتاب والنقاد ببصيرة شكسبير واتفقوا على اعتباره مبدعاً و كاتباً تجاوز عصره وتواصل تأثيره متخطياً حقباً تاريخية متتالية تمتد لعصرنا الراهن في ظل العولمة.. حيث تم إعادة اكتشاف أعماله مراراً وتكراراً في القرون الماضية..
وفي العقدين الاولين من القرن الواحد والعشرين ازداد الاهتمام بنتاجات شكسبير من قبل الاكاديميات والجامعات في مختلف بلدان العالم وزادت ساعات التدريس المكرسة لها.. وظلت مسرحياته تثير المزيد الشهرة والاقبال بشكل كبير وتم دراستها واعادة تمثيلها وتفسيرها في عدة بلدان من مختلف الثقافات بالرغم اختلاف الاوضاع السياسية فيها والفارق في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي وتعدد الميول الثقافية للشعوب ..
وفي الذكرى السنوية الأربعمائة لوفاته عام 2016 قامت شخصيات مشهورة ومهمة في المملكة المتحدة بتشريف شكسبير وقيّمت أعماله ولفتت العالم لمنجزاته من جديد.. التي أظهرت وعكست المفاهيم والافكار السائدة في المجتمع الانكليزي عن الحياة والموت بشكل من الاشكال وطبيعة الصراعات الاجتماعية فيه..
ويمكن اعتبار عمله الابداعي في مجال المسرح الذي حمل عنوان هاملت Hamlet .. بشخوصها..
هاملت – ابن الملك السابق وابن أخ كلوديس.
كلوديس – ملك الدانمارك و عم هاملت.
جرترود – ملكة الدانمارك ووالدة هاملت.
اوفيليا – حبيبة هاملت وابنة بولونيوس.
بولونيوس – لورد شمبرلاين.
لايرتيس – ابن بولونيوس.
هوراشيو – صديق هاملت.
فولتموند، كورنيليوس ـ قضاة.
اهم انجاز له دون التقليل من اهمية أعماله الأخرى .. التي كتبها في الفترة من 1600 ـ 1602 في ابعد تقدير وهي من أكثر المسرحيات تمثيلاً وإنتاجاً وطباعة لليوم، وتعتبر أطول مسرحياته وأحد أقوى قصص المآسي، والأكثر تأثيراً في الأدب الإنجليزي.. وقد صنفت عالمياً من كلاسيكيات الأدب العالمي، وتتمحور فكرتها الفلسفية على مقولة.. ( أكون أو لا أكون ) الشهيرة..
والمعادلة التي يناجي فيها هاملت نفسه من خلالها مستنداً على حكاية بطولية رواها ساكسو غراماتيكوس ..
ترجمت المسرحية إلى معظم اللغات الحية في العالم، وهناك ترجمات عديدة لها باللغة العربية. و لقد أخرجها ومثل بطولتها الفنان المصري محمد صبحي، في بداية حياته الفنية وحقق من خلالها نجاحاً باهراً كان السبب في تدوين اسمهِ بالموسوعة البريطانية للمسرح..
وتدور احداث المسرحية المأساوية التي ترتكز على صراعات عائلية محتدمة تسفر عن القتل والموت والعنف والغدر في سلسلة تشابكات معقدة تجمع بين الماضي من خلال طيف الملك هاملت الاب وشبحه وهو ينقل رسالته وشكواه لابنه عن مقتله وتخلص شقيقه كلوديوس ملك الدانمرك وعم هاملت الابن منه .. الذي يشحن بطاقة هائلة عن بعد للثأر والانتقام تتعزز باكتشافه المثير لزواج عمه وقاتل ابيه من امه جرترود – ملكة الدانمارك ..
وفي خضم معادلات الصراع والثأر والانتقام تتعقد الصورة وتتشابك فيزداد عدد القتلى وتتنوع الاساليب المتبعة وتصبح الصورة اكثر قتامة .. تطرح تساؤلات معقدة وتعالج مفاهيم تتنازع حول قبول الجريمة و تبريرها وبين ورفضها وقباحتها في مشاهد درامية مركبة تطيح بأبناء العائلة الواحدة التي تتعدى في مفهومها الانساني العميق اطر الصراعات العائلية الى ما يمكن تفسيره بالصراع بين الدول والشعوب المتحاربة خاصة وان نموذج الشخصيات يعكس بعدا جغرافياً يتمثل بإنكلترا والدانمارك والشقيقين ما هما الا مثالا للشعبين ونموذجاً لبقية الشعوب في العالم ..
اما الحلم وطيف الاب فيمكن تفسيره بالتاريخ والماضي .. ماضي الشعوب المتحاربة .. والأم التي يستحوذ عليها العم بعد جريمة قتله للشقيق ليست الا الارض التي تعيش عليها هذه الشعوب .. التي يتنازع عليها الجشعون .. وهي في الجوهر تعكس افكارا وقيما مناهضة لنزعة التملك الرأسمالية في رمزية ودلالة محتواها العميق الذي يتقبل المزيد من التفسيرات وفقاً لمستوى الادراك المعرفي والمقدرة على قراءة ما وراء السطور ومشاهدة ما خلف الستارة التي تكاد تحجب الرؤيا في عمق المسرح وتحتاج للتركيز وبعد النظر لمعرفة طبيعة الحدث للوصول للحقيقة ..
بعد سلسلة تراجيدية من الأحداث.. تبدأ بتوجه هاملت الى الدانمرك ووصوله لمبتغاه في تصفية خصمه الذي عده عدواً له ينبغي الفتك به.. وينجح في سعيه بعد ادعائهِ الجنون وانكاره لمعرفة حبيبته الفتاة الرقيقة أوفيليا .. التي لا يبارك أباها علاقتها به .. في محاولته للتأكد من قاتل أبيه والوصول اليه.. كي يخفي نواياه بالانتقام ويتأكد من حقيقة الامر بيقين لا يقبل الشك.. و الذي يترافق مع سقوط آخرين..
تموت امه جيرود بعد ان شربت بالخطأ نبيذاً مسموماً وضع لكي يتناوله هاملت.. بعد قتله لعمه الملك وتقطيعه والتمثيل به.. ووضعه للسم في فمه .. تعكس بشاعة الانتقام وتحوله الى فعل وحشي مدان ومقزز .. و في النهاية يكون هو القتيل التالي.. حيث يصاب بجرح من سيف مسموم من لارتيس أثناء استراحة للمبارزة بينهما غدرا.. وعلمه بأن السيف مسموم بحسب اتفاق سابق بين كلوديوس و لارتيس على تصفية هاملت وفقاً لخطة بينهما ..
يلجأ هاملت للخديعة للكشف عن خيانة عمه بالدعوة لإقامة حفلا خاصاً على تتويج عمه ملكاً على الدانمرك و زواجه من أمه .. استغله لعرض تفاصيل حكاية خيانة عمه لشقيقه.. التي أدركها من شبح أبيه .. وظهور التوتر على عمه الملك وانزعاجه ومغادرته الحفل .. الذي عكس قلقه وخوفه وأكد لهاملت خيانة العم كلوديوس وحسمه للأمر بقرار الانتقام منه دون تراجع ..
من هذه اللحظات في المسرحية.. تتصاعد الخيوط الدرامية .. يبرز دور الشخصية في عكس الحدث وروايته.. وهو امر جديد في نطاق الكتابة للمسرح آنذاك.. حيث كان الحدث يتحكم بشخوص المسرحية .. بينما في هاملت نرى شكسبير يقلب المعادلة.. يغير الاتجاه.. يعيد صياغة الحدث.. من خلال الشخصية وتطورها.. عبر مونولوج مدروس ومسيطر عليه من قبل الكاتب .. يكشف دوافع وغايات هاملت.. رغبته في الانتقام والثأر .. مركزاً على الحدث الرئيسي دون تشعبات وتفرعات.. مع اعطاء فسحة لأحداث غير متكاملة.. ومتعارضة احياناً.. بشكل متعمد و مقصود .. في سرد نسق الحدث والخلط والمزج بينها.. للوصول الى ازدواجية رؤية .. تبيح الاختلاف والادراك وتعدد الموقف .. لا اضنه عفوياً بحكم براعة شكسبير وجرأته وخياله اللامحدود .. وادراكه العميق لمطلب الجمهور الانكليزي ونفسيته.. التي تتقبل فكرة الانتقام بحكم معاناته وآلامه في زمن التحولات الرأسمالية ومظاهر الاذلال والخيانة التي تفشت في المجتمع في ذلك الزمن.. والتي تقترب تفاصيلها وتتشابه في بنيتها مع الكثير من القصص والحكايا الاسطورية المألوفة.. التي لها جذور واصول تاريخية و ميثولوجية متناقلة عبر الاجيال لدى الكثير من الشعوب .
لهذا فإن أسطورة القاتل الدنماركي.. الذي قتل شقيقه ليظفر بالعرش و يتزوج من امرأته.. هي الثيمة المعتمدة في بنية شكسبير.. التي بنى عليها تفاصيل.. ونسج بقية خيوط حكاية هاملت الذي يدرس في إنجلترا وعودته إلى بلاده بعد وفاة والده .. حيث يتفاجأ بزواج والدته من عمه وتنصيبه ملكا ًعلى العرش في المملكة، ثم يليها الشبح .. شبح أبيه ليخبره .. أن أخاه قتله غدراً .. وأن عليه أن يثأر له. من هنا يبدأ رحلة في الانتقال للبحث والتقصي عن الحقيقة..
تذكرنا بالكثير من اساطير الرحلات في التاريخ .. في المقدمة منها رحلة كلكامش وترحاله للبحث عن عشبة الخلود وهو ما سنتوقف عنده للمقارنة .. حيث لم يجري لحد الآن رغم المئات من العروض والكثير من الكتابات النقدية والمقارنة للتوقف عند مظاهر التشابه بين مضمون مسرحية هاملت وملحمة كلكامش السومرية..
وهنا تتجلى براعة شكسبير ثانية في نهله من الميثولوجيا.. ومقدرته العالية على تحويل الحكاية الاسطورية وتهذيبها وتشذيبها وتحويلها من قصة دموية بشعة .. لنص أدبي رفيع يثير فكر القارئ في الأمور المتعلقة بمعنى الحياة ومغزاها وينمي ذوقه ومعرفته.. ليصبح قادراً على السير في الدروب الفاصلة بين الموت والخلود، وتشعب العلاقات الإنسانية والصراعات بين البشر، وحقيقة وجود الإله وكل ما يتعلق بالجوهر الإنساني للوجود والعدم..
كأنه أراد من خلالها كنص ابداعي مسرحي متلون ومتشابك .. عميق المغزى و الهدف .. تزداد اهميته ويتكاثف بريقه رغم تقدم الزمن كنص خالد من نصوص المسرح الكلاسيكي في هذا العصر الذي يمنحه المزيد من الفرص للديمومة والبقاء والحيوية .. وهو ما انتبه اليه الشاعر العظيم لويس اراغون في تعليقه البليغ عنها حيث قال :
أن لكل منا «هاملته» الذي يعبر عن خصوصيته وثقافته ومدى فهمه للشخصية وتفاعله معها. و يتجلى هذا التعبير في المعالجات الإخراجية العديدة التي تناولت المسرحية للعديد من المخرجين الذين قدموها من منظورهم الخاص للشخصية المعقدة .. التي تحمل كماً هائلًا من التناقضات الإنسانية.. التي تتجاوز تفسيرات علم النفس الضيقة والمحدودة رغم التطور الهائل في هذا المجال، مما يجعل من هذا العمل الأدبي عملا أبدياً راقياً يتلاءم عبر الأزمنة مع المفاهيم الثقافية لليوم.. حيث ما زلنا نشارك هاملت همومه ونتوق لتخيل عصره وظروفه ونعيد حسابات مخاوفنا وشكوكنا وغضبنا لتتلاقى مع هواجسه الانسانية وحيرته الوجدانية.
لهذا ما زالت «هاملت» واحدة من أهم وأكثر الأعمال الأدبية التي تمّ اقتباس فكرتها وشخوصها في العديد من الأعمال الأدبية والتلفزيونية الدرامية حيث جرى اقتباس فكرة القصة فيها في اعداد فيلم ديزني الشهير «الأسد الملك».. كذلك دخلت بعض عناصرها في سياقات فيلم «حرب النجوم» في موجة افلام الخيال العلمي وتعدتها للكوميدية في مسرحية «أنا أكره هاملت ـ I Hate Hamlet» للكاتب الأمريكي بول رودنيك.. وفي جزئيات مسرحية «كلمات وكلمات و كلمات ـ Words, Words, Words» للكاتب الأمريكي ديفيد آيفز المكونة من فصل واحد فقط .
لقد جرى تجسيد صورة البطل المستعد لتحمل البطولة والمقامرة بصيغة ـ أكون بطلا أو لا أكون ـ في هذه الاعمال بصيغ مختلفة ومتباينة وفقاً لتعقيدات وسمات هذه الشخصية المتميزة والمتفردة التي تحمل عدة وجوه وتتقبل التأويل والتغيير والخصوصية والاختلاف في ذات الوقت لدرجة غير طبيعية جعلت النقاد يتوجوها كأفضل عمل على الإطلاق..
فهاملت في هواجسه وتحولاته المتنوعة لا يبتغي البحث عن شيء واحد فقط .. مهما كان عظيماً أو صغيراً ولا يمكن تحجيمه وتصغيره عند حدود البحث عن العرش، أو الحب، أو الانتقام، كل على حدة.. هو بحكم طموحه واصراره وعزيمته التي لا حدود لها كل ذلك وأكثر .. بارع وجاهز ومستعد لخوض الصراع في اكثر من جبهة كجبار لا يهاب المعوقات التي تعترض طريقه.. ويتصرف بشهامة ونبل رافضاً أي شكل من اشكال النذالة والانتهازية .. و لا يقبل استغلال الفرص في غفلة من الزمن بعد أن سنحت له الفرصة للتخلص من عمه في غفلة من حراسه.. لكنه لم يستغلها كي لا يمنحه فرصة للخلود طالما كان في لحظة مناجاة يصلي لربه.. قد تمنحه مغنماً.. وفضل بعد جهد قتله وهو منغمس في معاصيه دون أن تتاح له فرصة للتوبة والغفران.
لذلك يبقى كلوديوس ـ عم هاملت ـ طوال المسرحية حياً لا يموت إلا في المشهد الأخير، مما يضعه أمام سؤال هام: يتحمل اجابات متعددة وتفسيرات أوسع تتعلق بشخصية هاملت ..
هل هو رجل أفعال أمْ أقوال ؟.. هل هو رجل مدعي خالي الوفاض.. لا يتجاوز حدود الاقوال والوعود .. أو مجرد فم يتشدق بعبث الكلام ؟.. متردد جبان يبحث عن فرصة للتراجع كي لا يفعل شيئاً؟!..
أم حكيم صبور ذكي واثق من نفسه وقدراته؟.. يخطط بتعقل وهدوء للوصول لغايته.. في اللحظة المناسبة التي لا تفرض عليه ويختارها هو كقناص وصياد ماهر لا يخطأ عند الضرورة الهدف.. قد يكون كل هذا وذاك في آن معاً..
لتتحقق من خلالها كافة العوامل المميزة للبطل التراجيدي كما أراد شكسبير .. بطل تراجيدي بمواصفات إنسانية تحتسب للمخاطر لكنها قابلة لارتكاب الخطأ .. الخطأ القاتل والفظيع المؤدي للموت .. الموت المفضي للوصول الى المزيد من الحقائق والوضوح.. بعد أن تحول من ضحية يسعى للثأر الى آثم يقتل والد حبيبته أوفيليا التي اساء إليها وانتحرت .. و دفع بأخيها لينتقم منه ويقتله أثناء مبارزة جرت بينهما في آخر الأمر..
البطل ذو الألف وجه..
في كتابه الذي يُعد من أفضل الكتب في القرن العشرين «البطل بألف وجه» يرى عالم الميثولوجيا الشهير جوزيف كامبل أن البطل الحقيقي إنما يحمل على عاتقه مصالح قبيلته، أو جماعته أو دولته، كما أنه يجب أن يخرج من عالمنا اليومي إلى عالم الخوارق، حيث يواجه تحديات صعبة عليه الفوز بها ليصبح بعدها إنساناً أقوى مما كان عليه. وللمزيد من التوضيح حدد كامبل عدة مراحل يجب أن يمر بها البطل لكي يستحق لقب بطل أسطوري، وهذه المراحل تتكون من ثلاث مراحل أساسية وهي الرحيل، والمحنة، والعودة ومراحل أخرى فرعية تتمثل فيما يلي: مرحلة العالم اليومي، الدعوة للمغامرة، رفض هذه الدعوة، مقابلة شخص حكيم، تخطي عتبة عالم جديد، الاختبارات والحلفاء والأعداء، المحنة، المكافأة والموت.
ولو اجرينا مقارنة بين شخصية هاملت وتحولاتها في المراحل التي مر بها وشخصية كلكامش في الملحمة السومرية لوجدنا نقاط التقاء وتشارك وتشابه بين مسرحية هاملت لشكسبير وملحمة كلكامش التي لا يعرف مدونها للأسف.. منها :..
اولاً :كلاهما هاملت شكسبير و كلكامش السومري.. يمران بمرحلة انتقال في الزمان والمكان والترحال الضروري الذي يشكل قاعدة الحدث أو القصة و الحكاية الاسطورية ..
ثانياً :كلاهما ينتسب لخلفية تاريخية تراعي تقديمه كبطل بمواصفات اسطورية بشخصية متأزمة.. قلقة .. متوترة .. غير مستقرة.. لا تستكين.. متأهبة لخوض المخاطر مهما عظمت.. غير ابهة بالموت..
ثالثاً: لكليهما هدف عظيم يبحثان عنه ويخططان للوصول اليه يجمع بينهما اكتشاف الحقيقة .. حقيقة اكتشاف ومعرفة القاتل لدى هاملت .. وحقيقة البحث عن الخلود في مسيرة كلكامش وهدفه لتجاوز الموت والبقاء حياً ..
رابعاً : كلاهما يتعرض للخيبة والمفاجأة فيعود في لحظة التفكير والاكتشاف مكسور الخاطر مهموماً يعيد حساباته.. هاملت في مفاجأة زواج عمه من والدته .. و كلكامش في صدمته عند وفاة غريمه وصديقه انكيدو وتحلل جثمانه بعد الموت وتفسخه..
خامساً : كلاهما عشق المغامرة بفعل دوافعه الذاتية الداخلية وتأثيرات خارجية تشابكت في دفعه لخوض غمار مغامرة تجبره على التخلي عن حياته السهلة الوادعة والشروع في الانتقال لحياة صعبة غير اعتيادية..
سادساً : لكل منهم حلمه الذي يقلب مصيره ويجعله اسير احلام واوهام لطيفِ شبح يعيد بناء نفسه وفقاً لمتطلبات هواجس الحلم ..
سابعا : خوف كلا الشخصيتين هاملت و كلكامش من المجهول الذي ينتظرهم.. وسعيهما في لحظة تردد وتمعن لاحتساب جدوى الحدث.. وتحديد الموقف واتخاذ القرار للتخلص والتملص من أعباء المسؤولية .. لكنهم يواجهان مصيراً متشابهاً ـ أكون او لا أكون ـ ذلك هو السؤال .. ذلك هو المصير..
ثامناً: كلاهما يتقابلان في لجة الاحداث وتشابكها مع حكيم.. يرشدهم للطريق الذي ينبغي أن يسلكوه للوصول الى الهدف.. ويمدهم بالدعم والمعلومات التي تسهل امرهم وتساعدهم على تجاوز الصعوبات والمخاطر بالنصائح والارشادات الضرورية ..
تاسعاً : يتخطى كلاهما عتبة الزمن بمفصل تاريخي يحد بين الماضي والمستقبل .. فيه الكثير من الفنتازيا تعكس الفارق بين حياتين ومرحلتين وزمنين مختلفين كل الاختلاف في الجوهر والملامح والتفاصيل والتشابه.. هي ذات العتبة وحارس القصر لدى هاملت.. تذكرنا بحارس الغابة خمبابا في ملحمة كلكامش..
عاشراً : بين الشك واليقين يبذل كل منهما لاستدراك الموقف وتشخيص العدو من الصديق .. هاملت الذي يكتشف خبث صديقي الدراسة ـ روز نكرانتز وغيلد نسترن ـ وصدق ولاء صديقة هوراشيو له.. و كلكامش الذي يكتشف اهمية انكيدو بعد جولة خصام وعداء ومبارزة فيصبح صديقه وعضيده يرافقه في رحلته ويشاركه الحلم ويتقاسم معه الاحزان والافراح..
حادي عشر : كلاهما يمران بمحنة غير عادية .. قسوة الاحداث .. وهول المخاطر.. المشاطرة في بمواجهة الموت .. الموت المختلف المفضي للخلود بمفاهيمه الانسانية العميقة .. الموت في كونه نهاية تفضي لولادة جديدة تلك هي المكافأة الحقيقية التي تشكل جوهر الحياة و ديمومتها التي يرغبان و يسعيان للتشبث بها بكل السبل ..
ثاني عشر: كلاهما يواجه مصيره المحتوم مستدركاً ضرورة التطهر من الذنوب ويمران بمرحلة اختبار تمنحهم الفرصة لجرد حساباتهم واعادة النظر بمفاهيمهم ويتقبلان التضحية بالكثير من المسلمات التي تجاوزتها الحياة ..
بهذه المقارنة .. مع هذه المواصفات بين مسرحية هاملت لشكسبير وملحمة كلكامش السومرية .. نستطيع ان نؤكد إن هاملت شكسبير بشخصيته الاسطورية قد تماهت رغم اختلاف وبعد الأزمنة في رواية احداث ترافقت بصناعة بطلين خالدين غير عاديين قادرين على اختراق الزمن والتواصل مع الاجيال بطرق تفتح الف باب وباب لأنها تحمل ألف وجه ووجه.. وهذا هو سر خلودهما .. كنصين ابداعيين في مجال الثقافة والفن ..
المصادر
1ـ وليم شكسبير .. هاملت
2ـ لويس اراغون
3ـ والت ديزني الاسد الملك.. The Lion King
4ـ بول رودنيك
5ـ ديفيد آيفز .. كلمات وكلمات و كلمات
6ـ جوزيف كامبل
7ـ الواح سومرية .. صموئيل نوح كريمر
8ـ ملحمة كلكامش.. طه باقر
9ـ صباح كنجي .. هل كان كلكامش ابناً لبقرة؟ .. شبكة الانترنيت
10ـ فراس السواح .. قراءة في ملحمة كلكامش
11ـ مسرحية هاملت .. اداء وبطولة محمد صبحي في مصر
12ـ مقالات وبحوث عن شكسبير في الانترنيت
ـ لا بد من التنويه ان الشاعر العراقي صلاح نيازي لديه اعتراضات وتصويبات كثيرة لترجمات شكسبير المتكررة الى العربية .. كما لديه ترجمته الخاصة للمسرحية