2022 / 7 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
سفرة في اعماق التاريخ قطعها صباح كنجي باحثاً ، مثابراً وصبورا ، عن جذور الأديان والحضارات التي اشتبكت مع جذور الإيزيدية ، حتى حسب البعض ان هذا الدين المترامي في اعماق التاريخ ما هو إلا فرع من هذا الدين او انشقاق من ذاك ، وسَموه ضالاً احياناً ، ناكرين كل وقائع التاريخ التي كشف عنها السفر البحثي الرصين للباحث القدير صباح كُنجي والذي تمخض عنه كتابه القيم ” الإيزيدية …محاولة للبحث عن الجذور ” مع 400 صفحة من الحجم الكبير مزينة بكثير من الجداول الدالة على المعلومة التي طرحها الباحث ، والصور الأثرية لبعض المعابد والأديرة والكهوف التي رافقت تطور الديانة الإيزيدية على مر العصور ، والكتاب من منشورات دار نشر طهران لعام 2021 ، ويضم تسعة فصول مع خلاصة واستنتاجات وملحقين غطى بهما الباحث كثيراً مما لم يتطرق له من سبقه من الباحثين في هذا الدين .
تطرق الباحث في الفصل الاول من بحثه المترامي الاطراف هذا الى الآراء التي تناولت اسم الدين الأيزيدي والمصادر التي اعتمد عليها الباحثون في التفتيش عن الإسم الحقيقي الذي طالما اختلف فيه الكثيرون . واوضح الكاتب علاقة الاسماء المختلفة التي لصقها البعض بالأيزيدية ، بالشعوب والاقوام التي تواجدت في مناطق سكن اتباع هذا الدين ، ونوعية العلاقات التي نشات بيين سكنة هذه المناطق والتي امتدت الى العلاقات الدينية وتاثرها بمدى المنازعات التي جاءت بالنتائج التي ترددت حول اختلاف الأسماء في مختلف العصور التاريخية . إن اسماء المصادر الكثيرة التي استدل بها الباحث لمناقشة هذا الموضوع تشير الى مدى المصداقية التي يتمتع بها هذا البحث الذي يضيف الى المعلومات العامة المتوفرة في الوقت الحاضر ثراءً فكرياً وعمقاً تاريخياً لا يمكن تجاهله او الإستغناء عنه في اي بحث قادم في هذا الشأن .
اما الفصل الثاني فيوظفه صباح كنجي الى البحث العميق عن جذور العلاقة بين االأيزيدين وسكان بلاد الرافدين القدامى . اما ادوات هذا البحث ومختبراته التي تناولها الباحث في هذا الفصل ، فقد تنقلت بين مكتشفات علوم الآثار وتقارير المنقبين والمؤرخين ، وحفريات اللغة ، والعادات والطقوس ، واخيراً المشتركات مع ديانات بلاد الرافدين وما يحيط بها من الأقوام .
وقد اجاد الباحث في تحليله للنتائج التي توصل اليها من خلال هذه العلاقات التاريخية بين الشعوب وما تؤمن به من ديانات مختلفة حينما اثبت ” ان هذه المجموعات التاريخية التي تفصل بينها اللغات والتسميات الأثنية المعاصرة .. باديانها المختلفة وصراعاتها الإجتماعية الراهنة .. ليست إلا شجرة وتفرعاتها .. نمت في احقاب التاريخ .. لتتوسع وتزداد طولاً وعرضاً .. يوماً بعد آخر دون ان تنفصل عن عرى جذورها التاريخية .. في اكثر من رابطة وجذر ثقافي عبر اللغات المتداولة اليوم .. لتحكي قصة التوارث الثقافي والتواصل الإجتماعي المشترك بينهم ”
انه استنتاج علمي رائع يشير بكل ثقة وتاكيد الى التواصل والتلاقح بين الحضارات المختلفة التي تبادلت ادوار النتاريخ لتُخرِج على مسرح الحياة كل ما عاشته الإنسانية من تقدم حضاري وعلاقات اجتماعية حاول ويحاول بعض المتخلفين اليوم التنكر لها والدعوة الى وضع التاريخ الحضاري للشعوب في بودقة المذهبية والقومية وكل اشكال التطرف والإحتراب بين الشعوب .
لم تنطلق الدعوة الى العداء بين الشعوب او ما سمته الرأسمالية المعاصرة ” صراع الحضارات ” الذي جاء به صموئيل هنغنتون ، لم تنطلق مشكلة الهيمنة التي يراها هذا الدين او ذاك في تبنيه للحقيقة المطلقة دون سواه ، لم ينطلق كل ذلك من افكار السلفية الدينية او القومية ،سيان الى اي دين انتمت والى اية قومية انتسبت ، بل ساهمت فيها ايضاً السلفية الراسمالية الداعية لسباق التسلح واشعال الحروب وتعميق العداء بين الشعوب لكي تنتصر الآلة القمعية وتظل الشعوب تنتقل بين آفات الجهل والمرض والجوع، تفتش عن المنقذ دوماً .
لا يمكن لأي باحث ، ليس في الشأن الأيزيدي فقط ، بل في شأن الاديان الاخرى التي تزامنت مع هذا الدين ، ان يستغني عن التعمق في دراسة هذا الفصل الذي وجدته خير ما يعبر عن البناء الحضاري للإنسانية بكل مفاصل ارثها وتجليات نتاج شعوبها ، خاصة في بلاد الرافدين والمناطق المحيطة بها .
وبعد عرض واف لكثير من المعابد والآثار التاريخية التي تناولها هذا الفصل ، ينتقل بنا الباحث صباح كنجي الى الفصل الثالث الذي خصصه لأحدى الظواهر الهامة التي تميزت بها الاديان القديمة والتي شكلت ملامحها الأساسية ، حتى انه يمكن القول ان عمق جذور اي دين في التاريخ يتجلى من خلال ارتباطه بهذه الظاهرة ، الا وهي ارتباط الأيزيدية بالموسيقى والغناء . وحينما نؤكد هنا على ان ظاهرة ارتباط الأديان القديمة بالموسيقى ، فإننا نستند على ما ينقله لنا التاريخ من ارتباط الحضارات القديمة بكل معايشاتها الإجتماعية بالموسيقى والغناء كوسيلة من وساءل التعبير عن كثير من الممارسات اليومية للشعوب ، عبادات كانت هذه الممارسات ام افراحاً باعراس او تخليداً لأحداث وغير ذلك الكثير . وهذا بالضبط ما استهل به الباحث صباح كنجي فصله الثالث قائلاً :
” يؤكد علماء التاريخ المعاصرون ، من خلال استنادهم على المكتشفات الأثرية ، ان الإنسان قد غنى ورقص وعزف قبل ان يبتكر الكتابة او يعرف فن الرسم والنحت . وفي بلاد الرافدين التي شهدت مهد الحضارات الاولى بتراثها الإنساني كانت الموسيقى جزءً هاماً من مكونات تلك الحضارة . ”
وحينما يخرج علينا اليوم شذاذ الآفاق ليلعنوا الموسيقى وكل ما يرتبط بها من التعبير عن المشاعر الإنسانية بالغناء او المسرح او الشعر او الرقص ، فإنهم يعبرون بذلك عن مدى تخلفهم الفكري وجهلهم بتاريخ الشعوب التي تتوارى خجلاً من تصرفاتهم الهمجية التي طالما يربطونها بالدين الذي وُلِد في معابد الغناء وباحات الرقص المعبر عن المشاعر المخلصة التي يواجه بها الإنسان معتقداته الروحية او يعبر بها عن مدى عمق علاقاته الإجتماعية .
ومن خلال ذلك يتواصل الكاتب مع الحقيقة التي يؤكدها بقوله ” فإنه من الأهمية دراسة طقوس وعادات الإيزيدية ، كبقايا دين عريق ، له امتداد تاريخي الى العهد السومري ، حيث يمكن ملاحظة التواصل الحضاري بين الماضي والحاضر في مجالات عديدة ومنها الموسيقى ، باعتبارها مظهراً من مظاهر الحضارة القديمة في العراق ”
إن ملاحظة هذا التواصل الذي اشار اليه الكاتب في مؤلفه القيم هذا ، لن يتم إلا عبر التواصل مع الفكر الذي تمثله معطيات هذا التواصل والمتمثل بانفتاح العقل الإنساني على كل منجزات التطور العلمي والتفاعل مع الأطروحات الفلسفية التي بلورت قيماً حياتية وانسانية قد لا تنسجم مع الطروحات الدينية ، خاصة المتزمته منها ، إلا انها تشير الى وِجهة المسيرة الإنسانية التي لا يمكن التخلف عن المساهمة والتأثير والتأثر بها .
ومن الأحداث الهامة التي قد يجهلها الكثيرون والتي جاء بها الباحث عن ارتباط الدين الأيزيدي بحضارات وادي الرافدين القديمة ما ذكره قائلاً :
” ويشترك الأيزيديون مع السومريين في جوانب اخرى اشمل ضمن سياق تادية الطقوس الدينية ، باستخدامهم للموسيقى حيث كانت مسيرات السومريين لإيصال الآلهة الى المعبد لا تتم إلا بإشراك رجال الدين والكهنة المنشدين ، وبعد إتمام طقوس خاصة مقدسة تُقام وليمة كبرى حيث يغني فيها الكهنة”.
ويؤكد مؤلف هذا الكتاب القيم في نهاية هذا الفصل على حقيقة مفادها انه ” حاول قدر المستطاع ان يكون الموضوع (يعني موضوع الموسيقى : ص.إ.) شاملاً لكل ما يتعلق بمسألة الموسيقى عند الأيزيدية، لكن الامر يتطلب دراسات اعمل واشمل من ذوي الإختصاص ”
وهذه دعوة نشارك فيها المؤلف نداءه هذا بضرورة توجه ذوي الإختصاصات الفنية في الغناء والموسيقى والرقص وكل ما يتعلق بهذا الموضوع في ممارسة الطقوس الدينية ، ان يشحذوا الهمم لإعطاء هذا الموضوع حقه من الإهتمام والتاكيد على عمق هذه الممارسات التي يحاول جهلة اليوم الغاءها من تراثنا الحضاري واعتبارها من المحرمات التي وضعوا لها مقاسات تنسجم وفكرهم الديني الذي لا علاقة له بتلك الممارسات التي كان سكنة وادي الرافدين القدماء يعبرون بها عن معتقداتهم الدينية ويمارسونها كطقوس تعبدية .
مَن يسبر اعماق بحار التاريخ مفتشاً عن جذور الديانة الأيزيدية ليجدها وقد اشتبكت مع حضارات وادي الرافدين وما يحيط بها من اقوام وشعوب ، لا تصعب عليه السباحة في هذه الاعماق ليستجلي في الفصل الرابع من مؤلفه القيم هذا ، ما جاء به التاريخ من تشابك جذور اخرى في اللغات والمصطلحات التي جمعت هذه الشعوب المتلاصقة ليس تاريخياً فقط ، بل وثقافياً ايضاً ، فتقوده سباحته هذه الى شواطئ لغة اليوم والمصطلحات التي ظلت تدور في اروقة الأيزيديين حتى يومنا هذا ، والتي تجد استعمالاتها بنفس او بتشابه المعاني التي كان اجداد الأيزيديين قبل آلاف السنين يتحاورون بها .
والغريب في هذا الامر ليس تشابه الحاضر اللغوي اليوم مع ماضيه السحيق في القدم ، بل تعدد المفردات التي تهدف الى نفس المقصود ، وتطور هذه المفردات المختلفة لكي تشكل امتداداً لما يجري تناوله اليوم . فمثلاً حينما يذكر الباحث صباح كنجي ان العالم العراقي المشهور طه باقر يذكر عدة صيغ لإسم كلكامش . كما يستند الباحث نفسه الى باحثين آخرين مثل انطوان مونكارت حينما يتكلم عن ملحمة كلكامش ، حيث يقول :
” ولو عدنا الى مضمون الملحمة وطبيعة الحياة الإجتماعية والثقافية والدينية للعهد السومري لحصلنا على مدلولات تؤكد وجود مرادفات لغوية مشتركة بين اللغة السومرية وعدد من لغات الشرق الاوسط في المنطقة مع وجود كلمات مشتركة بين لغات هذه الشعوب ”
وقد توصل الباحث في هذا الفصل الى نتيجة مفادها :
” ومن هذه المشتركات اللغوية يمكن ملاحظة وجود كلمات ومرادفات بين الكردية والفارسية والسومرية” .
ومن بين المتشابهات الكثيرة التي اوردها المؤلف اخترت واحدة لأستدل بها على هذا الموضوع .
فإذا اخذنا كلمة ( كاميش ) مثلاً : ” فهي تعني في الكردية والفارسية ثور الجاموس ، وهي مكونة من قسمين (كا وتعني الثور ) وكاميش اي الجاموس ” ،
العربية : جاموس
الفرعونية 🙁 كامس ) وفي المصرية (كاموس )
السريانية ، الآشورية ، الكلدانية : ( كوموشو )
وهكذا تتزاحم المتشابهات ليخرج المؤلف بالقناعة التي يقول فيها :
” والأمر لا يتوقف عند حدود اللغات في الشرق الاوسط ، فقد وجدت ما يفيد المعنى في عدد من اللغات الأوربية ومنها الإنكليزية والألمانية حيث تدخل مفردة الكا او الكو كجذر يفيد بمعنى من المعاني للدلالة على البقر ”
لقد ارفق المؤلف في هذا الفصل الرابع من كتابه مادة هامة جداً تكاد تكون غائبة عن كثير من المؤلفات التي تناولت الأيزيديين وتاريخهم . تتعلق هذه المادة بالأدب الديني التي شكلت اسطورة ( مير مح ) موضوعه الأساسي وما انعكس فيه حول فلسفة الموت عند ألأيزيدية .
لقد تناول هذه الاسطورة باعتبارها تمثل الأدب الشفاهي الإيزيدي واصفها قائلاً :
” وملحمة ( مير مح ) في الادب الشفاهي الإيزيدي معروفة ومشهورة بسبب تحدثها عن الغربة والأيام الحزينة، تجري روايتها عند موت الإنسان ” .
وعند التدقيق في سرد الأسطورة نجد العلاقة التي تتناول التعامل مع الموتى والتي شكلت سمة الحضارات الرافدينية . فلم تتبلور فكرة حرق الموتى مثلاً او تركهم في مناطق عالية مكشوفين للطيور الجارحة او تحنيطهم ، كما هو معروف في الحضارات الأخرى ، بل يجري غسل الموتى ، تكفينهم ،ذِكر دعاء الموتى عليهم ، وضعهم على ناقلة لنقلهم الى القبر ، تحضير القبور المحفورة في عمق الارض ، وضع الموتى المكفنين تحت التراب ، ثم يودع المشيعون موتاهم والعودة الى ديارهم . هذه الطقوس التي تمارسها اليوم بكل تفاصيلها هذه جميع شعوب منطقة وادي الرافدين والمناطق المحيطة بها والتي تشير الى الإمتداد التاريخي للعلاقة بين هذه الشعوب جميعاً والتي يحاول الجهلة بعلم تاريخ الشعوب والعلاقة بينها إنكارها والدعوة ، اجباراً او اختياراً ، لدين معين او قومية معينة .
ومجريات هذه الاسطورة تشير ، كما ذكر الباحث ، إلى انها :
” لا تبتعد عن ملحمة كلكامش ومحتواها المشبع بالمفاهيم الفلسفية ـ الفكرية والتصورات والأسئلة البكر عن الحياة والموت والمسعى للخلود في مسيرة الإنسانية ، وجدير بنا ان نوسع الإهتمام بهذا الإرث ونعيد استنتاجاتنا عنه خاصة في زوايا متعددة تتجاوز التاريخ واهمية الإكتشاف المثيولوجي واسبقية الاديان ونسبها لهذه المجموعة البشرية ام تلك للتفاخر والتاصيل العنصري المرفوض في عصرنا بحكم انتسابنا لشجرة الإنسانية بتفرعاتها واغصانها الممتدة للأعلى والأطراف دون ان تنفصل عن الجذر ” .
وينتقل الباحث في الفصل الخامس من كتابه القيم هذا ليناقش ” التواجد التاريخي للأيزيديين في سوريا”. ربما خصص الكاتب هذا الفصل لسوريا ، بالرغم من وجود الأيزيديين بكثافة سكانية اكثر في مناطق اخرى ، وذلك بسبب ما اورده من قلة المصادر حول هذا الموضوع ، وما شمل هذا الوجود في سوريا ” من الغبن والتجاهل والإلغاء المتعمد ” . وربما يحتل هذا الموضوع اهمية خاصة بارتباطه بتشويه تاريخ الأيزيديين من خلال ربط هذا التاريخ بالإسلام ، حيث تبرز هذه الظاهرة في سوريا اكثر مما هي عليه في المناطق الاخرى التي يعيش فيها الأيزيديون .
لقد تطرق هذا الفصل من الكتاب الى كثير من المصادر التاريخية عن بلاد الشام والأحداث والممارسات التي مارستها شعوب هذه المنطقة والآثار التاريخية التي لازالت قائمة حتى اليوم ، ليوضح بشكل لا يقبل الشك ” على ان هذا التواجد ليس عابراً او جديداً ” مشيراً الى ” وجود صلة تاريخية وميثولوجية مهمة بين ثقافة بحزاني وبعشيقة ومفردات لغتهم الخاصة المركبة وعاداتهم من الأيزيديين مقارنة بمدينة معلولة الجبلية على بعد 60 كم من دمشق .. التي يسكنها المسيجيون الذين يتحدثون الآرامية باللهجة السريانية القديمة “.
إن اهمية وكثرة تجليات الفصل السادس من هذا الكتاب لا تدع لنا إلا التمعن في قراءة هذا الفصل وفسح المجال واسعاً امام تصوراتنا التي ستتراكم في مخيلتنا حول العلاقة المتينة بين ” المفردات اللغوية والميثولوجية المشتركة بين المعتقدات السومرية القديمة والإيزيدية ” كما عبر عن ذلك عنوان هذا الفصل .
يعتقد المؤلف ، واستناداً الى دراساته وبحوثه الخاصة ، عند المقارنة بين الديانة السومرية والديانة الإيزيدية ” ان هذا الترابط والتوافق اللغوي المشترك بين الطرفين ليس مجرد صدفة ، او تشابه لا معنى له ، بل هو حالة تواصل تاريخي ـ ميثيولوجي فريد من نوعه يتجسد بوفاء الإيزيديين لأصولهم رغم هذا البعد السحيق بين الديانتين الذي يتجاوز الـ 6000 عام ، المتسم بتحولات وتعقيدات عميقة بحكم ترافق القمع بصور مختلفة لأكثر عهوده الذي ادى الى كوارث لا تعد ولا تحصى ، ويتحدث الادب الشفاهي الأيزيدي عن 72 فرماناً حل بهم ” .
لقد طرح المؤلف حزمة كبيرة من المتشابهات هذه التي شملت كثيراً من اهتمامات تلك الشعوب في ازمنتها الغابرة تلك ، وبقاء بعض هذه المتشابهات رهن التداول اليومي لأحفاد تلك الشعوب .ومنها على سبيل الإختصار ما شمل قصة الخلق والتكوين ( خلق الكون وخلق الإنسان ) . او وجود ” بعض التسميات والمفاهيم المتداولة في اللغة العربية من ضمنها كلمتي الدين والأرض التي يستخدمها الكرد الأيزيديون في لغتهم المعاصرة . ويربط المؤلف بين ” استخدام مفهوم الحراثة للتعبير عن الممارسة الجنسية عند السومريين ……. وقد استعار هذا التشبيه والمقارنة بين الممارسة الجنسية والحراثة القرآن إذ ورد في نص آية ( نساؤكم حرث لكم ) . او ” تداخل تسمية الارض مع الأم عند الأيزيدية لغوياً ، كما تداخلت الأرض مع الأم ميثولوجياً عند السومريين “. وتتشابك المتشابهات لتعبر عن مفهوم الخصوبة لدى الديانتين والمتمثل بالأرض والأم ، او تسمية الوطن الجديد او المكان الجديد ( نو ـ وار ) او واري نو .وهكذا يأخذنا سرد المتشابهات بين الديانتين السومرية والأيزيدية ليتعامل حتى مع اسم الأيزيدية والنظريات التي نشأت حوله ليشير الى انه ” اكتشف مؤخراً احد خبراء الآثار واللغات القديمة ( السومرية والبابلية والآشورية ) بان كلمة ايزيدي هكذا مكتوب بالخط المسماري في العهد السومري ، تعني الروح الخيرة وغير الملوثين والذين يسيرون على الطريق الصحيح ” .
وفي نهاية هذا الفصل يضع المؤلف جداول تتضمن 27 من المترادفات ، مع المصادر البحثية التي تشير الى ذلك .
الفصل السابع من الكتاب يخصصه المؤلف الى لغة بعشيقة وبحزاني واهميتها بالنسبة للديانة الأيزيدية خاصة ، كما ذكر المؤلف ، بانها لغة ” لا يتحدث بها إلا سكان هذه المنطقة المكونة تاريخياً من قريتين هما بعشيقة وبحزاني ” . وحينما يشير المؤلف الى اهمية هذه اللغة فإنه يشير هنا الى ظاهرة تدعو الى التامل والإنتباه الى خصوصية قلما تجدها في لغات اخرى . فبعد ان يؤكد المؤلف على انها لغة وليست لهجة ويطرح التشابك بينها وبين كثير من اللغات ، يؤكد على ان هذه اللغة ” تشكل ظاهرة تاريخية فريدة قد تكون مدخلاً لمعرفة حقيقة هذا الدين واصوله وجذوره برؤية منفتحة وموضوعية بعيدة عن التعصب والميل العنصري الذي يغلب صفة معينة بشكل شوفيني من خلال مفاهيم قومية متعارضة استعلائية من ( قبيل شعب الله المختار ) او ( كنتم خير امة أخرجت للناس ) ، على حقائق التاريخ المشترك للشعوب والقبائل والأجناس ، الذي تؤكده الجذور المشتركة للغات هذه الشعوب ذي الاصول المشتركة والمنبع المشترك ” .
ويتطرق هذا الفصل بالإضافة الى ذلك الى معطيات تاريخية كثيرة تشير الى الترابط بين القوميات والاجناس المختلفة ونشوء وتطور حضاراتها ، فيعطي بذلك صورة ذات ملامح واضحة لتاريخ المنطقة برمتها . انه فصل جدير حقا بالدراسة والتمعن لكل من تشكل مثل هذه المواضيع اهتماماته الفكرية وآفاقه المعرفية العلمية .
وللمؤلف وقفة خاصة ومهمة ايضاً مع الادب الشفاهي ألأيزيدي في الفصل الثامن من هذا الكتاب . وتأتي اهمية هذا الفصل من ان مادته ، الأدب الشفاهي الأيزيدي ، غير مدونة في الغالب ولحد اليوم .
وقد قَسَمَ المؤلف هذا الأدب الى مكوناته التي تتألف من الأسطورة ، مثلاً أسطورة الخلق واسطورة الطوفان . والأقوال الدينية وعددها 75 ـ 135 قول وتتضمن شروحاً للطقوس والعادات والأعياد، ربما يمكن تشبيهها بالأحاديث النبوية بالنسبة للإسلام ، إذ ان هذه الاقوال لها اهمية خاصة بالنسبة للأيزيديين. ومن ثم الملاحم وقد ذكر المؤلف اسماءً لعشرين ملحمة تناولت احداثاً مختلفة في تاريخ الدين الايزيدي.
اما الفصل التاسع والأخير فيضم مجموعة صور لمعبد لالش ، وهو من المعابد المهمة في الديانة الأيزيدية . وتشير الصور الى بعض الرموز في هذه الديانة ، كالدائرة ، الصليب المتساوي الضلاع كرمز للشمس ، الكهوف التي كانت تشكل ملاذاً للأيزيديين ، وبعض المعابد .
قد يشكل هذا العرض المكثف السريع لبحث رصين عميق نوعاً من المقبلات التي تدعوا الى التمعن في هذا النص والإطلاع عليه بعمق للتعرف على تاريخ وجذور بعض اهلنا في هذا الوطن الذي يضمنا جميعاً والذي نتحمل مسؤولية الحفاظ عليه من خلال الحفاظ على السلام الإجتماعي فيه والسعي لجعله ملاذاً مؤتمناً لكل اهله ، لا تنال منهم العنصرية المقيتة والتعصب البغيض وكل الأفكار المتخلفة التي لا تؤمن بالانسان اولاً واخيراً .