الثلاثاء, نوفمبر 26, 2024
Homeمقالاتالحجــّــار : عبد الرضا المادح

الحجــّــار : عبد الرضا المادح

عند بزوغ الفجر يتنكّب مطرقته الثقيلة ويتسلق سفح جبل متين أمام قريته بليزان المحشورة بين ثنايا الجبل العملاق. يزحف الضوء القادم من خلف القمّة ليتسلل بين الشجيرات المتشابكة على السطح المائل الموزع بين تربة مخضرة وأحجار كلسيّة وأخرى بازلتيّة قاتمة.
يضع قدمه اليسرى على قطعة حجر كبيرة. يمعن النظر اليها ليحدد شكلها الهندسي القادم. تهوي المطرقة على تلك النقطة التي ارتسمت في نظرته الثاقبة. رنين مطرقته على سندان الحجر يتغلغل بين خلايا جسده. ينفلق الحجر فيستوي. يقلبه ليشقه من جديد فيصنع مكعباً متناسق الابعاد. حجر بعد حجر تتراصف في المكان كقطع الثلج المنثور.
يلقي بجسده على الارض لتسترخي عضلاته المشدودة. يسرح بأحلامه في الفضاء المنغلق على صمته، فتصطدم بنتوءات الجبل القاسية لترتد إليه فتزداد غموضاً.
استعرض في ذاكرته أحاديث البيشمرگة ( المقاتلين الانصار ) الشيوعيين، فجاءت سلسة على قلبه. لم يسمع بأغلبها من قبل.” اضطهاد الفلاحين..ظلم الاغوات ( الاقطاعيين ).. الدكتاتورية.. حقوق الفلاحين والعمال.. حقوق الاكراد.. التحرر.. الكهرباء.. المدارس….. والحلم لايتحقق الا بالنضال .”
أخذ نفساً عميقاً وكرر العبارة الاخيرة مع نفسه:
ـ الحلم لايتحقق الا بالنضال.
في المساء مابين الظلمة ورجفة ضوء الفانوس أسرّ لزوجته:
ـ سألتحق بمفارز الشيوعيين.
ـ ……..
انحبست الكلمات في متاهات الحيرة والصدمة.
ـ نعم.
قالها وبتأكيد لايقبل النقاش.
ـ كيف لا… أنظري أنهم جاؤوا من مختلف المحافظات، ومعهم نساء تقاتل، لم تطأ أرجلهم الجبل في حياتهم ونحن الرجال الكرد أبناء المنطقة نتقاعس عن ذلك..!!
ـ لا والله.. فأن ذلك اكبر عيب.
كان مزهواً بمظهره الجديد. يتسابق مع رفاقه عند دخول المفرزة إلى قرى برواري بالا، ليعلن لأهاليها عن قراره الجريء. ينصت لكلمات الرفيقات والرفاق، يستفهم عن معانيها. لايتقاعس عن المهمات التي يكلف بها. يوظف علاقته الطيبة مع القرويين لحثهم على تقديم العون والانضمام لصفوف المقاتلين.
بعد بضعت اشهر، لم يفهم بالضبط سبب انتظار كل هذه المدة. جاء الخبر كنيزك رسم أثراً كبيراً في سماء حياته.
ـ رفيق.. اهنئك .. لقد حصلت على شرف العضوية.
صرخ من اعماق قلبه ليتردد صدى الكلمات بين أفواه وقلوب رفاقه:
ـ أللهم صلي على محمد.
جاءته التهاني صادقة ليتقبلها بأبتسامة اختلطت ببراءة القروي على محياه.
زفّ الخبر الى زوجته، حيث كان في اجازة يتمتع بها بين فترة واخرى، مما أثار حسد رفاقه ابناء المحافظات المحرومين من تلك النعمة، ليعبـّروا عن ذلك بتعليقاتهم الماجنة وكركراتهم الخبيثة.
بعد ان تناول الافطار مع عائلته، تناهى الى سمعه حركة غير طبيعية في الخارج.
ـ سيد نهاد… *
ادرك أن الصوت غريب فتناول سلاحة وخرج بهمة وحذر.
ـ السلام عليكم.
ـ وعليكم السلام.
قال احدهم دافعا بسلاحة الى خلف ظهره، حيث أدرك أن المقابل غير مرتاح لوجودهم.
ـ ملا رمضان يريدك.
ـ وماذا يريد..!؟
ـ لانعرف ولكن يجب أن تذهب معنا.
ـ وأين هو الان..؟
ـ في گلي ( وادي ) قرية بازي.
علّـّق سلاح العفروف ** على كتفه في وضع يدل على الاستعداد لكل طاريء مطمئنا ً زوجته بأنه سيعود اليهم.
بعد مسير نصف ساعة تقريبا ً صعودا ًوهبوطا ً، دلفوا في وادٍ حجري ضيق ، حيث انتشرت هناك مفرزة للحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة ملا رمضان. أقتربوا من رجال افترشوا الارض على شكل حلقة كبيرة توسطها رجل بدين قصير القامة، إتكأ على وسادة مادا ًرجليه بأسترخاء على سجادة صوفية.
ـ السلام عليكم.
ـ وعليكم السلام.
أجاب الجميع.
ـ لماذا بعثت بطلبي ؟.
ـ سمعنا أنك التحقت بمفارز الشيوعيين..!
أجاب الرجل البدين وعيناه تنم عن عدم ارتياح ووعيد.
ـ إذا كان لديكم سؤال، فيمكنكم طرحة على الحزب الشيوعي من خلال لجنة الجبهة..!
تسمر الغضب في اعماق الرجل البدين ولم ينبس بكلمة.
عاد سيد نهاد الى قريته يحتضن سلاحه كطفل مدلل، ليلتحق في اليوم التالي بمفرزته ” السرية الاولى “.
……………………………………

09/ 04/ 2007
* ( سيد نهاد) الاسم الحركي للشهيد سيد جعفر سيد جلال. استشهد في ايلول عام 1983 في المعركة الثانية بعد الهجوم الغادر لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني في الاول من ايار على مقر الحزب الشيوعي العراقي في بشتآشان في كردستان العراق .
** العفروف: سلاح رشاش متوسط سوفيتي الصنع، ثقيل الوزن يتميز بصوت مزمجر وكثافة نيران عالية .
*** من مجموعتي القصصية الأولى ( درب التبانة ).

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular