بالاطلاع على صفحات التواصل الاجتماعي، الفيس بوك مثالاً، نلاحظ أن نسبة التفاعل مع الكتاب، حتى ذوي الأقلام الرصينة، تتراوح ما بين 50 إلى 250 قارئ، كحالة وسطية، من أصل 5000 صداقة لدى الأغلبية. في الوقت الذي يتجاوز فيه الرقم الألف مع المواضيع المتعلقة بالخلافات الشخصية، أو التي تتعرض لسمعة شخص ما، أو عند الترويج لتهمة، يستثنى هنا بعض عمليات التلاعب الانترنيتي في زيادة العدد، أو أقلام لا يتعدون أصابع اليد لهم حضور جميل في الكتابة قبل أن يكون في قدرة التنوير.
في الواقع ليس المجتمع، ولا القراء هم الذين يبتعدون عن الحراك الثقافي، بقدر ما تنبذهم تكرار وضحالة النصوص المطروحة ومواضيعها، جلها لا ترقى إلى سوية المعالجة المنطقية لأوبئة المجتمع، ومعاناة الشعب، بل ونسبة غير قليلة تكرس انعدام الثقة، وتضمر الآمال، أي على خلفية ضعف القوى الفكرية الجاذبة، وغياب الآراء المؤثرة، يتوسع الشرخ بين الحراك والشعب.
ضنك الحياة في الوطن، والمعاناة اليومية فرضت على القراء صدق المواقف، ودفعت بالمجتمع على طرح الانتقادات للحراك الكوردي دون مواربة.
مثلما افتقادهم لضرورات العيش، من المياه والكهرباء إلى الخبز والأكل، أضاعت ثقتهم بإدارة كوردية قادرة على تحسين الظروف المأساوية، والتي خلقت بالمقابل شرائح من المفسدين وتجار الحروب، أضعفت أمالهم بقدرة تأثير الحراك الثقافي على القوى السياسية لتحسين ظروفهم.
لذلك، نقدهم وتقييمهم للمواضيع التي يتطرق إليها حراكنا الثقافي، من على صفحات التواصل الاجتماعي، إن كانت عن طريق تعليقات بسيطة فاقدة للجماليات الأدبية، وغارقة في الأخطاء الإملائية أو القواعدية، إما بلغة الأم (الكوردية) أو لغة المحتل (العربية) أو كانت بالإهمال وعدم المبالات بما يتم طرحه، أفضل من أي نقد أدبي -فلسفي منمق، وأصدق من معظم الدراسات، والتحليلات التي تتناول القضية وقادمها بمنهجيات حزبية كلاسيكية، لأنهم يتحدثون من مآسي حاضرهم، ومن المعاناة اليومية، فيتكون لديهم إدراك لا شعوري بما يخبئه لهم المستقبل، ما سيقدمه حراكنا وفي مقدمتها القوى المهيمنة على الأرض والسلطة، أو المقدمة ذاتها كالمعارضة، وتتوضح لديهم إمكانياتهم السياسية-الثقافية، ويشعرون إن كان المعروض مناسبا للحاضر وفيه أمل لتغيير المستقبل أم لا. فعلى الأقلام أن تعي وتدرك بما فيه من الضياع، وعليها أن تعالجها قبل أن تتجاوز خط اللاعودة.
والمهاجرون، خاصة الجيل الجديد، النسبة الأكثر تبتعد يوما بعد آخر عن الساحة الوطنية، وقلما يطلعون على نشاطات الحراك الثقافي، لكن هذا لا يعتم على أن شريحة واعية لها رؤيتها، وتقييماتها، وخدماتها، الذين يعرضون إلى جانب نشاطاتهم؛ انتقادات منطقية للواقع، لا بد من دراستها وأخذها بعين الاعتبار.
لكن لا بد من الفصل بين هذه الشريحة المنطلقة من ساحة مصالح الشعب قبل الذات والحزب، والذين يتناولون المشاكل الخلافية، ويقيمون مواد الكتاب، من خلال ارتباطاتهم الحزبية، المؤدي إلى تيههم في دجى الخلافات، ولا يدركون نتائج ما ستتمخض عنه مجريات الأحداث على الساحة إلا من خلال مواقف الحراك المتضارب، ولا يعون ما تعنيه توعية المجتمع وإنقاذه من الموروث الحزبي الكارثي.
ويظل الكتاب على اختلاف مشاريهم، هم المحركون للوعي الجمعي، والمأمول منهم إدراك الواقع الكارثي للشعب من جهة، ولأطراف الحراك الحزبي، قوى الإدارة الذاتية أو معارضتها من جهة أخرى، أخطائهم تنعكس على الجميع، عليهم الانطلاق من خلفيات الشعور بالمعاناة، والإحساس بقساوة الصراع ولكن للأسف قلة هم الذين يأمل منهم تنوير المجتمع، مفاهيمهم وطروحاتهم تلاقي الجفاء والتهجم، من مسلوبي الإرادة، ولهذا يلاحظ أن تغيير المعادلة في العمق الثقافي لا يزال في طور الولادة، وتأثيرات اللاشعور الموروث مهيمنا حتى اللحظة على الساحة الثقافية وهي من الأسباب التي يبعد الشارع الكوردي عنهم.
ولضمور الثقة بما يتم تقديمه من قبل الإدارة الذاتية والمتصارعة معها، تصبح تأثير مفاهيم الملتزمين على الساحة الثقافية، ضحلة على الوعي الاجتماعي، ولا تتجاوز صداها حلقة الأصدقاء والأقرباء، ولن تثمر لأن جلها غارقة في مجال المقالة الواحدة، حتى ولو كتبت تحت العشرات من العناوين، وتباهت بها المئات أو الألاف من المؤيدين.
فالحشد الوهمي للقراء خلف كاتب أو شريحة ثقافية لا تملك أية إمكانيات عصرية، أو مفاهيم تنويرية، وتكرس التآكل الداخلي، ومضمون نصوصهم هي ذاتها وتكرر للمفاهيم الجامد، ولا تملك روح التغيير في ذهنية المجتمع، ليس بأكثر من تلاعب بوعي الشعب، بها يزيدون من تعمية البصيرة، وبالتالي سيظل المجتمع غريبا عن حراكه، الذي يفتقد إمكانيات تنير دروبه. وعلينا ألا ننسى أن الغربة الفكرية هذه لها علاقة جدلية بالمعيشة اليومية والمعاناة والأمان، وبإسقاطات الخلافات الحزبية، حتى ولو كانت على المستوى الإيديولوجي أو القومي أو الديني.
الواقع يفرض شروطه، فالشريحة الثقافية التي لا تتجه بشكل مباشر إلى محاولات تغيير المآسي اليومية، ولا تبحث في الإشكاليات التي يعاني منها الشعب، ولا تقدم ما تناسب القضية القومية، وتكرر الماضي المأزوم، وتجعل التنوير حلما، حتى ولو عرضت المفاهيم والتحليلات بنبرة ولغة منمقة جديدة، ستظل عاجزة على إنقاذ المجتمع وبناء قادم رصين.
ففيما لو قارنا حضور الحراك الثقافي بالمراحل الزمنية الماضية وتغيرات العصر لوجدنا بأنها لا تزال دون المستويات المطلوبة، وبالمناسبة، ولئلا ندخل في حلقات تأنيب الضمير وجلد الذات، ننوه أن مقارنته بالمؤسسات الثقافية للدول المحتلة لكوردستان، غير منطقية، فهما على حافتي جدلية: من جهة، أنظمة ذات سيادة، ودولة لها إمكانيات تدعم مؤسساتها الثقافية، مقابل حراك معدوم الإمكانيات، ولا يزال في بداياته كبعد زمني، وأمامه حمل أثقل بكثير من إمكانياته، مع ذلك لا بد من التذكير أن هذا الواقع يفرض عليه العمل أضعاف ما يقدمه الطرف الأخر، ولكن العكس هو المرئي، وهنا تكمن الطامة، والتي لا تختلف عن المستنقع الذي يغوص فيه الحراك السياسي، وهو ما يؤثر على سويات تفاعل الشعب مع نصوصهم وتظل في أدنى مستوياتها، إن كانت على صفحات التواصل الاجتماعي أو على المواقع أو على الأقنية التلفزيونية الافتراضية والعامة، وغيرها.
هل التجافي من الشعب رد فعل على ضحالة المفاهيم والأفكار المطروحة؟
أم أن المجتمع يصرف الحراك الثقافي مع الحزبي، والذي يأس منه؟
هل الثقافي يختلف في تحليلاته وطروحاته وتقييمه للمستقبل عن الحزبي؟
هل تمكن من تصحيح ولو جزء بسيط من مسارات الحراك الحزبي- السياسي؟
هل قدم حتى اللحظة مفاهيم مناسبة لحاضرنا، أم أن كل ما يعرضه تكرار، وتعميق للخلافات، وهو ما يشمئز منه المجتمع، الذي أقحم فيه مرغما؟
أليس الحراك الثقافي هو المذنب الأول، إن كان بشكل فردي أو جماعي أو تنظيمي، أم هناك أطراف أخرى؟
أليست الحركات الثقافية هي التي تنور المجتمع؟
هل يمكن القول أن حراكنا دخل مرحلة التنوير؟
السؤال الأخير هو لب الإشكاليات المعانية منها الحراك الثقافي، للولوج إلى المرحلة لا بد من تجديد الذات، والعمل بمعزل عن تأثير التيارات الحزبية، والتحرر من منهجيتهم ومواقفهم السياسية، ودعم الأقلام النيرة وتصحيح مسارات المجموعات التي لا تزال تتخبط في المفاهيم، التي تنشر المقالة الواحدة رغم سلبياتها على مدارك المجتمع، والأهم الوقوف على قضايا المجتمع من منظوره وليس من منهجية الأحزاب ومواقفهم، لا بد من تغيير وتطوير ما هو دارج، والفصل بين التحليلات التنويرية من الجامدة، وإلا فالمجتمع سيظل يقول أنكم لا زلتم دون مستوى القضية والقدرة على حل مشاكله، والأساليب المتبعة لن تقضي على الشرخ بينهم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
30/7/2022م