تقول العرب عن المتنبي على أنّه الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فشعره عند العرب وهم شعراء بالفطرة وقتها، تجاوز الى حد بعيد الأشعار التي توارثوها من ” الجاهلية” وصدر الإسلام وما بعده. وللعرب الحق أن يفتخروا به كما نحن العراقيين، أوليس المتنبي إبن السماوة التي أرضعت المناضلين ضد الظلم في نقرة السلمان حليب الوطنية، قبل أن ترتد وغيرها من المدن التي لم تعرف الذل الى مستنقع العمامة؟
إن كان المتنبي قد ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، وهذا الأمر يخصّ الشعوب العربيّة التي تتذوق الشعر أكثر من غيرها حتّى قالت قريش عن محمّد وهو يأتيها بالقرآن من أنّه شاعر. فكارل ماركس لا زال لليوم وسيظل شاغلا الدنيا والناس بأفكاره التي يبدو أنّها لا تشيخ، بل على العكس فهي تتجدد على الدوام. فقد كتب المحلل الإقتصادي
جورج ماغنوس بعد الركود الإقتصادي بالعام 2009 مقالا تحت عنوان” “أعطوا كارل ماركس فرصة لإنقاذ الاقتصاد العالمي”، وأنّ “الإقتصاد العالمي يحمل أوجه تشابه كثيرة مع ما تنبأ به ماركس”. نعم لقد تنبأ ماركس بمأزق رأس المال العالمي ولكنه ليس بنبي، بل فيلسوف وإقتصادي وعالم إجتماع. والفيلسوف الذي مثل ماركس لا يبني ما يتنبأ به على الغيب ولا على الصدفة، بل يبنيها على حقائق تنتجها الحياة وتزّكيها. فالتأريخ وفق ما جاء به ماركس مثلا لا يُمكن الوصول الى ماهيّته من خلال وجهة نظر كهنوتيّة ولا من خلال المواعظ الأخلاقيّة، بل من خلال النظرة العقلانية وإكتشاف القوى المحرّكة للتحولات التي ترافقها.
قبل إندلاع كومونة باريس بأشهر، حذر كارل ماركس الثوار من مغبّة القيام بالثورة. الا أنه عاد وبعد إندلاعها نتيجة فرضها عليهم، فحيّا الثورة بحماسة كبيرة. ويبدو أنّ ماركس لم يعتمد على فقر الجماهير ومشاركتها الثورة بل إعتمد على وعيها، كون الفقر والظلم والإضطهاد والتمايز الطبقي والقهر الإجتماعي كانوا موجودين قبل الكومونة بوقت طويل. وماركس وبهذا الخصوص هو الذي يقول بحق من أنّ (الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، الطاغية مهمته أن يجعلك فقيرا وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائبا).
الأحداث الأخيرة في باريس أثبتت صحّة مقولة ماركس هذه، فوعي الشعب الفرنسي هو الذي قاده الى الشوارع والساحات ليُجبر الحكومة على التراجع عن سياساتها الضريبية التي إستهدفت ذوي الدخل المحدود، ووعي الشعب هذا هو من دفعه الى الشارع بعد أن رفعت الحكومة أسعار الوقود بضع سنتات. ولم يكن هذا الشعب ينزل وبهذه القوّة الى الشوارع ليجبر الحكومة عن التراجع ولو المؤقت عن سياساتها الإقتصادية، لو كان هناك رجال دين يقودونه. علما أنّ العاطلين عن العمل في فرنسا يتمتعون بتعويضات صناديق البطالة، وأطفالهم يدرسون في مدارس حكومية مجانية، ويستفادون من رعاية صحية مجانية ومتطورة، ولهم نقاباتهم التي تدافع عن حقوقهم أمام مالكي الشركات والمؤسسات الحكومية والخاصّة. ومن الملفت للنظر أنّ هذا الحراك الجماهيري قد نجح دون وجود أحزاب سياسية تقوده ميدانيا!!
ماذا عن بغداد، وهل أثبتت مقولة ماركس صحّتها فيها كما أثبتت صحّتها في باريس؟ الجواب نعم، كون الحراك الجماهيري الذي يدفع الحكومة ببغداد للتراجع عن حجم فسادها وسرقاتها وإستهتارها بمصير شعبنا ووطننا، لم يقم ولن يقوم بالزخم والإصرار الذي كانت عليه الجماهير بباريس، كون الوعي هناك هو من أشعل فتيل التظاهرات وليس الفقر. أمّا شعبنا الذي يعيش أكثر من ثلاثين بالمئة منه تحت مستوى خط الفقر، شعبنا الذي لا يمتلك أبناءه مدارس ومستشفيات، شعبنا الذي يعاني البطالة وسوء الخدمات، فثورته بزخم كبير من خلال هبّة شعبيّة حتى دون وجود أحزاب تقوده “كما في باريس” يعتبر ضربا من الخيال. لأن الوعي الذي يصنع الثورة كما يقول ماركس، غائب عن الجماهير. فعلاوة على نهج السلطات في ترسيخ غياب الوعي بإعتباره العامل الأساس في تقويض سلطتهم، نرى المؤسسة الدينية المتحالفة مع السلطة تصادر وعي الجماهير هي الاخرى، كما ونرى نسبة كبيرة وكبيرة جدا من الجماهير تبحث عن أفيونها عند هذه المؤسسات الدينية، وليذهب الوطن ومستقبله ومستقبل أجياله الى الجحيم.
شعب يرقص على نشيد موت يلحنه طغاة ورجال دين .. لن يعيش بكرامة كما الشعوب الحيّة.
زكي رضا
الدنمارك
6/12/2018