يطرح المتن الروائي منصات متعددة في الصياغة الفنية والرؤية الفكرية والفلسفية , من رحم ملحمة كلكامش في طرح الاسئلة التي تتجاذب مع منصات الواقع الجاري , بكل مفرداته المتنوعة والمختلفة , في طرح الاسئلة التي تبحث عن جواب . كالبحث كلكامش عن عشبة الخلود . تكاملت صياغتها في اسلوبية خلاقة في الشكل والمضمون , مطعمة في ثنايا السرد : بالشعر والنثر في عمق المفردات اللغوية الفخمة , التي نحت الافكار والتعبير الفلسفي , بشكل جميل في جمالية حسية , تعطي زخماً في المعنى والايحاء والمغزى الرمزي , في الأحداث المتلاحقة بالتركيز الشديد , لتضفي في الوصف التصويري الدرامية الفعل والفعل المضاد , بالدراما الصاعدة نحو التراجيدية الحياتية , في استلهام وتوظيف ملحمة كلكامش , بأنها متحركة ومتناسلة متولدة وليس جامدة , يمكن أن يتقمص شخوصها البارزة , أي اسم عراقي في صراعه اليومي والحياتي المرهق بشكل دائم . ان ملحمة كلكامش الأصل تعطي وجه النور في التجارب والدروس والعبر من عمقها الدال , في انشغال العقل في مساراتها وجوهر المضمون , للصراع الوجود في عناوينه البارزة , ويمكن استخلاص زبدة الأحداث وقيمتها الدالة . كما وضعت في الحبكة الروائية , الحكمة والبصيرة مرادفاً لعشبة الخلود , بأن يكون الانسان خلية متحركة وفاعلة ومنتجة للخير والعطاء , بدلاً ان يكون كسولاً وخاملاً , أو مضراً لفعل الخير , أو أسيراً لشرنقة الاوهام وتخيلات الشعوذة . ان دلالات المتن الروائي لرواية ( كلكامش ….. عودة الثلث الاخير ) متعددة الجوانب في الآفاق الفكرية وجوهرها التعبيري , ويمكن تلخيص أهمها في النقاط الموجزة التالية :
1 – تناسل الاسماء :
ان الاسماء والشخوص ملحمة كلكامش ليس جامدة , طالما الصراع الوجودي أزلي قائم على أشده , يمتد من الملحمة الى يومنا هذا ,فالاسماء تتبدل , لكن المضمون والجوهر باقٍ , يتولد في الجوهر الفكري لهذا الصراع . ممكن ان تكون ملحمة كلكامش بالمسمى ( ملحمة واثق ) في تناسلها في الرمزية الدالة . وممكن ان تكون البغي المقدسة ( سيدوري ) بأسم ( شمخة ) , وممكن ان تكون ( عشتار ) الزوجة والحبيبة الوفية لزوجها ( تموز ) التي خاطرت بحياتها في النزول الى العالم السفلي , لملاقاة حبيبها وزوجها ( تموز ) ممكن ان تحمل أسم ( كولا ) الزوجة والحبيبة . ويمكن أن يكون الوحش ( خمبابا ) أي إنسان في داخله وحش كاسر , وفي هيكلية ملامح الطغاة وسارقي خبز الفقير , وقتلة الحياة , واغتيال القيمة الانسانية , وتبقى الحقيقة الساطعة , أن الخليقة ليس هي خلقت لتكون مرتعاً للفوضى والحروب والمعاناة , فهناك الخالق الأعظم يرى ويسمع , ويمهل ولكن لا يهمل , ولا يمكن ان تكون الحياة مرتع الاحزان و المعاناة والوجع والجروح النازفة , فأن مصير الانسان في النهاية الموت وتأكله الديدان . لذلك عبر كلكامش ( واثق )عن احزانه ومأساته الانسانية الى زوجته وحبيبته ( كولا ) بقوله :
الى كولا حبيبتي
سيدة الشقاء والصحة
الطيبة العظيمة
عرفت كيف تُشفيني
لأنكِ تحملين كل الاعشاب
تمتلكين حقيبة ملؤها الشفاء
أنتِ التي أعدتِ الحياة الى قلبي من جديد
تجلسين ملكة تحيط بكِ النجوم
لقد أبهجتِ قلبي وروحي
كم أنا مشتاقٌ لأمشط شعركِ الطويل
أغاني أوروك تُّحيط بخصركِ النحيل
2 – الاسئلة الحرجة :
– من أنا ؟
– هل يتعظ الانسان ؟
– متى يستيقظ الانسان ؟
– ما قيمة الوجود ؟
– هل يسمع الرب الاعلى آهات ومعاناة البشر ؟
– ما قيمة الماء والطين في العطاء الإنساني ؟
– هل تستوعب الارض معاناة البشر ؟
هذه الاسئلة الحيوية في الصراع الازلي مازالت قائمة , تستوجب وقفة مع النفس والروح أمام الرب الأعظم :
يا رب
كلما أصلي ترتفع روحي
كأني أصعدُ سُلمَ العروج
فليس طعمُ الصلاة واحدا
مساحاتي بدأت بالاتساع
أقليم الأرض لا تستوعبُ طوفان صدري
كل هذه الصلوات
ومازلت في بداية الطريق
لا توجد أراضٍ أطوفُها
ولا حياة أسبحُ فيها
إلا وأنت فيها وبها وحولها
ُ دُلني اليكَ
خذني دمعة شوق لرحابة رحمتك
3 – قيمة الوجود وقيمة الحكمة والبصيرة :
ان يدرك الانسان قيمة وجوده تتعلق بقيمة الحكمة الحياتية التي تأخذه الى منصات النور , وان يدرك ان الموت نهايته , أن الحكمة والروح هي ثلثي الوجود والثلث الأخير وهو الجسد , فمن البديهي من يريد ان يفوز بالدنيا والآخرة , ان يعود الى جسده , لتكتمل الحكمة والروح والجسد , حتى يعرف الانسان روحه وجسده , حتى لا يكون غريباً عنهما . أن الحمقى والأغبياء لا يدركون ذلك .
4 – عشبة الخلود :
هذا الهم والشجن الذي صدع رأس كلكامش والمجازفات الخطيرة التي سار اليها , من أجل نيل عشبة الخلود . لكن ينبغي ان يدرك ما قيمة معنى الخلود ومن يستحق أو لا يستحق , قبل أن يداهمه الموت وتأكله الديدان . أن يدرك أن الحياة والوجود هي عمل وإنتاج , وليس كسل وخمول . أويكون سلبياً في الحياة والعمل المثمر ( – هل نسيت الغرامة المالية , من المفترض أن تسدد ما عليك من الديون لقد أخبرني الفلاحون بأنك أهملت الزراعة وتركت حراثة الأرض ) فلابد بالعمل المثمر بالخير والعطاء , هو عين عشبة الخلود التي بحث عنها وفقدها . لابد ان تزدهر الارض السومرية بالاعمال المثمرة بالخير بالعطاء الانساني , حتى يصل الى غاية ومرام الخلود , بأن الارض والانسان عطاء ونور مستمر , وليس ظلاماً ومعاناة مستمرة , ان يعرف الحقيقة ويمشي إليها في طريق النور والعطاء بحكمة العقل , لا بالخرافات التي تجلب الظلام والتمزق . هكذا علمتنا حكمة فقه الطين السومري .
جمعة عبدالله