حين تكرمت الشاعرة الأردنية تفاحة بطارسة بإهدائي ديوانها “رفيف السنابل” والصادر عن دار البيروني/ عمَّان في العام 2020م لفتت نظري لوحة الغلاف التي تحمل تصميما جميلا نصفه الأعلى تدرجات اللون الأزرق للسماء من اللون الفاتح حتى الداكن في أعلى الغلاف، والنصف الأسفل مساحة ذهبية وكأنها بيدر قمح وثلاث سنابل منحنية دلالة النضج قبل الحصاد، فتساءلت لما كانت ثلاث فقط، ولفت نظري العنوان أيضا بشاعريته رفيف السنابل وهو عنوان النص الأول في الديوان، فكلمة رفيف كلمة عربية مشتقة من الفعل “رف” ولها معان متعددة باللغة العربية منها الخصوبة ولعل هذا ما ربط اسم الديوان بلوحة الغلاف الأمامية، أما اللوحة الخلفية وعلى امتداد لوحة الغلاف الأمامية فقد ضمت صورة الشاعرة وصور أغلفة أربعة من كتبها ونص يعبر عن ملخص فكرة الديوان وهي الحب، ومن ثم لفت نظري الإهداء والذي قامت فيه بإهداء ديوانها الذي بدأته بعبارة: “إلى الذين يؤمنون أن الحب سبب لكل جميل” ثم تهدي الديوان لقرائها وتنهي الاهداء بعبارة: “إليكم طاقة نورٍ وجمال”، والديوان بين دفتي الغلاف عبر مئة وخمس وستين صفحة وواحد وأربعين نصا.
الشعر كان ولم يزل مرآة العرب ومعبر عن الأحاسيس والمشاعر للشاعر، فهو بناء لغوي يحتاج روحا ألقة تحلق بفضاء اللغة والأحاسيس والمشاعر مضيفا للثقافة صروحا جديدة ومتجددة، وفي هذا الديوان باحت لنا الشاعرة بأحاسيسها ومشاعرها وأحلامها ورغباتها فتسربت من بين أناملها صور ولوحات شعرية متميزة وجميلة، فهي تنقل لنا أحاسيسها شعرا بوعي وبدون تكلف فتنقلنا الى فضاءات جميلة سواء من حيث الحب وما يمكن أن تقدمه للحبيب، أو صور الألم التي حفل بها الديوان في مقابل صور الحب، فحلقت بين الوعي والحلم وبين الحب وبين الألم، وبين الأطفال الابرياء حلم المستقبل وبين المكان والوطن، فتنقلت بين الواقع الملموس وما فوق الواقع.
خلال تجوالي بين جمالية النصوص لفت نظري بشكل خاص النص الأول “رفيف السنابل” فهو حوى فكرة الديوان بالكامل تقريبا ففيه لوحات شاعرية وجميلة مرسومة بالكلمات تدور حول العطاء بالحب، هذه المشاعر الإنسانية بتعبيراتها المختلفة والتي هي حاجة ملحة للروح وللنفس فلا معنى للحياة بدون حب، وحين تغلب مشاعر الحب على أية أحاسيس أخرى ستكون الحياة أجمل، ومن خلال تمتعي بالتحليق في فضاءات الشعر ونصوص الشاعرة تفاحة بطارسة وجدت أن ديوانها يتركز حول ثلاثة محاور ولعلها السنبلات الثلاثة على لوحة الغلاف، وهذا ما سيكون مجال الحديث من بوح قلمي.
الحب والعطاء للآخر: وهو السنبلة الأولى التي نضجت في الديوان حيث نجد الشاعرة تقول في نصها “رفيف السنابل” عما تقدمه للآخر من حب فتقول: “فرشت لك الروح، فاعبر، بعطري، بشهد الليالي.. تعطر”، لتنقلنا من هذه اللوحة المشتعلة حبا وعطرا إلى مجموعة لوحات تصور هذا العطاء فتقول في نفس النص: “كرعشة حلم اللقاء، على لمسات النسيم المجلل، فوق سرير المساء” وتنهي النص بعد عدة لوحات شعرية بالقول: “إلى أن يعود إلينا صهيل البقاء، فهي نبارك حب السماء، نمد بعمر الثواني، نمد بأيدينا للسلام، نقول: سلاما سلاما سلام”، بينما في نصها “قطرة حب” تقول عن نفسها: “فأنا أمطر صيفا وربيعا، وخريفا، وشتاء، أزرع الأزهار قربانا، على جسر اللقاء” في إشارة إلى ما يمكن أن تمنحه للآخر من الحب في كل الأوقات والأزمنة، وحين تلتقي بالآخر في أرض الغربة في نصها “تلاقينا” تقول: “بلا وعد بلا أمل تلاقينا، ولم ندري بأن مئات أحلام ستجمعنا، وأن الليل والأشواق مسرانا، وأن الحب مبسمنا ومسعانا”، بينما في نصها “إلى قمة الحب” تقول: “وكي نرتوي من خمور المساء، هنا سنقيم خيام اللقاء، ونفترش الحب”.
هذا الحب والاشارات المتكررة بما يمكن أن تقدمه من هذه المشاعر للحبيب تتناثر بين جنبات الديوان في الكثير من النصوص فنراها في نصها “أغنيات المدى” تقول بلوحة شاعرية: “أعددت كل حقائبي، ودفاتري وقصائدي، وزهورنا، تلك التي أخفيتها بين السطور على المدى، لتظل أغنية المدى”، وفي نصها “أوصدت قلبي عليك” يثور الحب ويتجلى في جنبات النص فتقول: “وحين أتيت، سكبت أنوثة سري، كأشهى الخمور على شفتيك”، وايضا يظهر هذا العطاء بالحب في نص “الملاذ” بقول الشاعرة: “لأنك أنت الأمير، وأنت المتوج، فوق الفؤاد مليكا، يجوب المساء، يؤجج شوق الليالي”، وكذلك في نصها “شرفة القلب” بقولها: “أعد لك الأمسيات، بثوب من الخمر…. هنا سيقول الزمان، حكاية عشقي، ويكتبني أجمل العاشقات”، وفي نصها “برجلك اليمين” تهمس للحبيب بالقول: “ها عامنا الجديد قد بدأ، فادخل معي، برجلك اليمين”، وتواصل الهمس بنصها “الحب لا يشيخ” فتهمس: “الحب لا يشيخ، ولا يمل لا يكل الأمنيات”، وتهمس للحبيب أيضا في نصها “حين أحبك” معبرة عن حجم حبها بالقول: “أخشى عليك اشتياقي، ولهفة قلبي، فشوقي لهيب إذا راح يوما، إليك استعر” وتتجلى بالتعبير عن الحب بنصها “نبيذ الكروم” فتهمس بالقول: “الا أمدد لنا في المساء، خمارا يجدد فينا التلهف، نشرب من راحتيه نبيذا، يشق طريق النجوم”، وفي آخر نص بالديوان وهو “ما بها؟” تتساءل: “ما بها زهرة اللوز، تسألني عنك؟، عن حلمنا تسأل الفجر، والشمس والاقحوان”، وهذه التعابير عن الحب وعن العطاء فيه سواء كان عطاءً روحيا أو جسديا تجلى في العديد من القصائد ومنها ” باب الصباح” ونص “لغز” ونص “ليلة عاصفة”. طلب الحب من الآخر: وهو السنبلة الثانية من السنابل الثلاثة حيث نجدها تطلب من الآخر حبا يعادل ولو جزءًا من عطائها بالحب فتقول في نصها “قطرة حب” مخاطبة الآخر: “أعطني بعضا من الحب، ولو كان قليلا، بعض همس، بعض بعض من حنين” فنستنتج أن رغم كل العطاء لا تجد المقابل فتطلبه ولو بالقليل، ونجدها في نصها “حلم أبيض” تحلم بالآخر فتقول: “راحت في أوصال الليل الساكن، تسري رعشة، لامس قلبي، إمتد، توهج، صار يلون ليلي وهما، يضحك، يبكي، غاب تلاشى بين أيادي الليل، كحلم أبيض”، وتستمر رغبة اللقاء للآخر البعيد في نصها “همسات قلب” فتقول: “تعود قلبي عليك، تعودت أرسله كل صبح، ليشرب قهوته في فناجين شوقي اليك”، وتواصل المناشدة للآخر للعودة في نصها “من أنت” فتقول: “يا سيدي لقد دعوتك، لكي تغيث صوتي الذي ارتعش، دعوتك لتعود تسقني، ماء الحياة من جنونك”، ويتجلى ذلك أيضا في نصها “لأني أحبك جدا 1” فتهمس بمشاعر عالية الوتيرة يشوبها الألم بالقول: “لأني أحبك صرت أعاقر ليلي، أفتشه عن كلام جميل لشعري، أصغي لناي حزين يهيج شوقي وتوقي اليكَ، فأحسب أني لقيتك”، وفي نهاية النص نفسه تكرر النداء بالقول: “تعال.. إذا ما احترقنا نكون فدا العشق، أو ما احترقنا، فنصبح أهلا لعشق كبير وحب”.
في نص “لأني أحبك جدا 2” تتأجج مشاعرها بالنداء للآخر فتناديه: “لأني أحبك، أصبحت أعشق حتى جنون الوجود، وأرشقه بعبير هواي، ليحمله، أين كنت، إليكَ، ليركع بين يديك”، وتواصل التمني بنص مازج التراث الشعبي بالايمان حين كان الناس يربطون شرائط من قماش على أشجار بجوار قبور الأولياء كي يحققوا أمانيهم في نصها “شموع الأمنيات” فتقول بعد وصف مطول على لسان الشجرة: “قالت سلام القلب أمنحكِ، اطمأني، ههنا يصغي إلى ملهوفةٍ، رب الأنام”، وبصور شعرية وشاعرية جميلة تواصل الشاعرة التعبير عن طلب الحب من الآخر ونرى ذلك في نصها “هناك أكون” تخاطب الحبيب بالقول: “هنا درب قلبي، فمر بأشواقه، وخذ بعض شوقي، سراجا ينير الطريق”، وأيضا في نصها “مقعدنا الخشبي” بقولها: “ويا ليتنا قد دعونا الزمان، لكي يتوقف في لحظة، كان فيها لقانا”، وفي نص حافل بالأوجاع تحت عنوان “نيران الشوق” تعبر عن حجم الوجع فتقول: “يا سيدي نيران شوقي، أوصدت أبواب قلبي، خلف حلم طاول اللحظات، أبقى كل ما في عالمي شررا، وأبقاني حطام”، ويتجلى الألم في نصها “لماذا” فتقول: “لماذا يطل نهاري، وأنت هناك بعيد بعيد”، ونرى الألم جليا في نص “وجنة الليل” أيضا فتبوح بحزنها وتقول: “تعال.. فلا بد من شمعتين، تنيران درب المدى والأماسي، وتمسح عن وجنة الليل دمعة حزن”، وتواصل طلب الحب من الآخر وتزينه له فتقول في نص “هنا” ما يعبر عن ذلك: “تعال حبيبي، هنا بانتظارك، حب غني سيزهر، وشوق يليق بعينيك، سوف يفيض ويثمر”، وفي نصها “أتحبني؟” يتجلى الألم بقولها: “غريبة أبقى بلا عمر ولا ألقى على، طول الحياة مواسم الخير، الجميلة بالتحنن والعطاء؟”، هذه المناشدة التي تصل حد الاستجداء أحيانا نجدها تتكرر بين النصوص في جنبات الديوان ومنها: “خربشة”، رد روحي”، “جف الوريد”، “صرخة روح”.
الحب للأطفال والوطن: وهنا نجد الشاعرة خرجت عن الحب للآخر وطلب الحب من الآخر لتقدم لنا السنبلة الثالثة بحب آخر فتهمس في نصها “أطفالنا” بهمساتها للطفولة البريئة بالقول: “لا تكبروا، ظلوا كما أنتم، كحبات المطر”، وفي نصها “أول لحظة” تتحدث عن لحظة الولادة لطفل فتقول: “كان صقيعا، ثلجا مثل عروس، يومئ أن حياة تسعى نحو الأرض، وقد طرقت سمعي صرخة أمي”، وتنشد الى ليلى أصغر شهيدة في فلسطين في نصها “ليلى” والتي استشهدت عن عمر ثمانية شهور فقط بالقول: “يا حلوتي يظل اسمك راية، تعلو رؤوس الحاقدين، وغدا ستنبت كفك وردًا، وزيتونا، وأزهارا، تزين قدسنا، وغدا ستطحنهم جيوش العابرين”.
بينما في نصها “وجه أمي”، تحن للبيت والوطن فتقول: “لأكتب فوق جبين الزمان، حكاية عشق التراب، وأرسم من حبها، حب أرض، ويبقى جبيني عصيا على الإنكسار”، وهذا الحب للديار والوطن نراه أيضا في نص “تأشيرة مرور” وبقول الشاعرة: “وبيتنا الذي أتعبه انتظارنا، لما يزال في عنائه، عيناه كل لحظة تفرش دربنا، بالهمس والصلاة والرجاء، كي نحط في أرجائه رحالنا”، ولا تنسى القدس فتقول في نصها “رسالة” معبرة عن الحنين: “ما زلت أرسم دمعتي، أشدو بها مزهوة؛ لتعيش أوطاني، على أفق السماء، فأنا تعبت من الحنين، لحارتي وأزقتي، للقدس للأصحاب”، وفي نصها “سكرة من جنون” تهمس بكل دفء وحب للوطن فتقول: “تطل شمسه بدفء روحنا، لنملأ الحياة بالآمال، بالأشواق تملأ العيون”، وفي نص “قمر الحصادين” تحن لأيام الحصاد بجمالها فتقول: “وفي حقلنا يجمعون السنابل، تصدح أصواتهم للصباح، تردد في مسمع الليل، عزف المناجل، حين تعانق حلو الطرب”.
ديوان شعري حفل بالجمال وصيغت لوحاته بريشة الحرف فرسمت الكلمات فارتفعت وتيرة الأحاسيس الداخلية عبرت عنها بلوحاتها اللغوية الشعرية، اللغة كانت قوية والألفاظ كذلك وواضح أن الشاعرة كانت تتعرض عبر مسيرتها للعديد من التأثيرات النفسية، فهي تحدثت عن ما يمكن أن تقدمه من الحب للآخر بكثير من الصور، وكأنها تقول للآخر: هذا بعض مما أقدمه لك في محراب الحب فلماذا تبتعد وماذا تريد أكثر؟، وفي نفس الوقت نجدها وعبر مساحة كبيرة في الديوان تناشد الآخر أن يمنحها ولو القليل من الحب، فهي في العديد من النصوص تعاني حين تشعر أن الآخر لا يبادلها نفس قوة المشاعر وهذا ما يجعل المعاناة أقوى، فالحب علاقة ايجابية بين طرفين وهو مشاعر يصعب التحكم بها فهو ليس مسائل مادية ملموسة واهتمام الآخر مسألة مهمة حتى يتحول الحب إلى عطاء متبادل يتماه بين الاحساس والعقل، وليس علاقات قائمة على التوتر لتنتج الحزن والألم والابتعاد بل علاقات قائمة على المشاعر والعقل بوضوح في معالمها والتعبير عن هذه المعالم بالمشاعر والإحساس والواقع فكانت نصوص الشاعرة تفاحة معبرة عن ذلك من خلال الكلمات والتخيل والحلم.
وفي النهاية أستذكر بعض مما قلت في مداخلة ارتجالية في حفل اشهار الديوان في المكتبة الوطنية في عمَّان: هذا الديوان رافقني في سفري بين قريتي جيوس في الوطن المحتل وبين عمَّان وقرأته بعمق، ووجدت في النصوص وما خلف النصوص انه هناك خيط يجمع النصوص جميعها، وهو الحب والمعاناة والحديث عن العطاء بالحب والمناشدة للحبيب الغائب، وأيضا الحب الآخر وهو حب المكان والوطن، وقد قرأت الديوان مرتين اضافة لما قرأته لها بالسابق من شعر ووجدانيات ورواية، فتولد في داخلي سؤال: لماذا تفاحة خرجت من هذه العباءة الرائعة “الشعر” واتجهت نحو الرواية؟
” عمَّان 14/8/2022″