انقضى عهد تنظيم داعش وسيطرته على نحو ثلثي مساحة العراق لما يزيد عن خمس سنوات بحربٍ خسرها صيف 2017، لكن الآثار الأمنية والاجتماعية التي خلفها، مازالت تورق العراقيين وتدق في أذهانهم وباستمرار نواقيس الخطر.
ويشكل أطفال عناصر داعش الأجانب المودعين في السجون العراقية مع أمهاتهم المدانات بارتباطهن بالتنظيم، مشكلة لم تجد لها الجهات الرسمية حلولاً، ولاسيما أن الدول التي يحمل آباؤهم جنسياتها، رفضت استقبالهم على الرغم من المطالبات والمحاولات العراقية الحثيثة.
أما فيما يخص أطفال عناصر التنظيم من الأجانب الذين تواجدوا بمخيمات الاحتجاز خارج السجون، فقد نجحت الجهود الدبلوماسية العراقية في تسليم 828 طفلاً منهم إلى الدول التي ينتمون أليها بحسب إحصائية لوزارة الخارجية العراقية.
ويجد الكثير من العراقيين، في إبقاء أطفال عناصر داعش في السجون خطراً مستقبلياً كبيراً، و”جيلاً من الإرهابيين يتم تنشئته داخل السجون”، وفقاً لما يرددونه باستمرار في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت القوات العراقية قد اعتقلت آلافاً من مسلحي وعناصر تنظيم “داعش” وعائلاتهم بين 2014 و2017 بضمنهم مئات الأجانب من جنسيات مختلفة، فيما تقدر منظمة هيومن رايتس ووتش عدد الأطفال الذين تحتجزهم السلطات العراقية وحكومة إقليم كردستان بنحو 1500 طفلاً بشبهة الانتماء إلى تنظيم داعش، بينهم 185 أجنبيا على الأقل، أدينوا بتهم متصلة بالإرهاب.
وقد يبدو لغير المطلع، أن وجود أطفال موقوفين بتهمة الإرهاب أمراً غريباً، لكن نظرة فاحصة لمرحلة سيطرة داعش على الموصل بدءاً من حزيران 2014، سنجد أن التنظيم كان يستخدمهم بالفعل في عملياته.
يشرح ذلك، الباحث والكاتب السياسي عادل كمال، ويقول “منذ إعلان تأسيسه في 2006 وما عرف بالدولة الإسلامية في العراق، أستخدم أطفالاً ومراهقين في تنفيذ عمليات الاغتيال وزرع العبوات الناسفة وجمع المعلومات“.
ويضرب أمثلة على ذلك “الكثير من عمليات القتل بالمسدسات الكاتمة للصوت، كان ينفذها مراهقون يستقلون دراجات نارية أو يظهرون فجأة من بين الزحام في الأسواق ويختفون بذات الطريقة بعد تنفيذ عملياتهم”.
وأيضاً كانوا يستخدمون الصغار كعيون لهم، بوضع بعضهم على جوانب الطرق مع عبوات من الوقود على أنهم باعة، وأيضاً متسولين قرب الاشارات الضوئية.
ولاحقاً بعد سيطرة التنظيم على نينوى والأنبار وغيرها، يقول كمال “فتح معسكرات لتدرب الأطفال على مهارات عسكرية، وجل هؤلاء الأطفال كانوا من أبناء المقاتلين المهاجرين- أجانب- أو المختطفين من الإيزيديين وسواهم“.
لذلك، يرى عادل كمال، أن بعضاً من الأطفال والمراهقين الذين بلغوا الآن سن الرشد في السجون بعد خمس سنوات من اعتقالهم، يشكلون خطراً حقيقياً، لأنهم يحملون أفكار التنظيم ويمتلكون مهارات قتالية.
“إنهم أدوات قتل جاهزة” يقول كمال مستدركاً.
قنابل موقوتة
الخبير الأمني أمير الساعدي، يرى بأن بقاء أطفال عناصر داعش في السجون، مقاتلين أو غير ذلك، سيفاقم من مشاكل الحكومة العراقية “لأنهم بمثابة قنابل موقوتة، تهدد السلم والأمن المجتمعيين، خصوصاً أنهم يكبرون مع فكرة أن العراق عدو لهم وتظل في أذهانهم رغبة الانتقام ولاسيما أن الغالبية العظمى من آبائهم قتلوا في المعارك أو حوكموا بالإعدام“.
لذلك يدعو السعدي الحكومة العراقية إلى ضرورة إيجاد حل سريع وإرسال الأطفال إلى البلدان التي ينتمون إليها وإشراك المجتمع الدولي والمنظمات المعنية بنحو أوسع في الأمر.
ويضيف “في غضون ذلك ينبغي على الحكومة أن تخصص المزيد من برامج التأهيل لمحو الأفكار الإرهابية التي زرعها الدواعش في عقول أطفالهم“.
ويلفت الساعدي إلى أن نحو 16 ألف طفل لعناصر داعش ولدوا داخل العراق بعد حزيران 2014، كثيرٌ منهم من آباء أو أمهات غير عراقيين.
ولم يؤكد أي مصدر رسمي الرقم الذي أورده الخبير الأمني، في حين ذكر عضو مفوضية حقوق الانسان علي البياتي أن عدد أطفال داعش الذين أُلقي القبض عليهم داخل العراق منذ انطلاق عمليات التحرير في العام 2016 بلغ 1127 طفلاً بين ذكر وأنثى.
وبين أن من بينهم 514 طفلاً بعمر أقل من 3 سنوات، فيما ضمت الفئة العمرية ما بين 3-9 سنوات، 460 طفلاً 280 من الإناث و252 ذكر.
ينحدر هؤلاء الأطفال من جنسيات مختلفة كالتركية، والأذربيجانية، والروسية، والطاجكستانية، والقيرغستانية، والأوزباكستانية، والمغربية، والأوكرانية، والجزائرية، والألمانية، والفرنسية وغيرها.
وقد عثرت القوات العراقي عليهم، خلال أو بعد انتهاء حرب التحرير في تموز/يوليو2017، وتم تسليمهم إلى مراكز إيواء تابعة لوزارتي العدل والعمل والشؤون الاجتماعية، حسبما أوردت ذلك مفوضية حقوق الإنسان في العراق.
ووفقاً لإحصائيات المفوضية فإن عدد الأطفال المصنفين في خانة(الأحداث) من عمر التاسعة وحتى سن الرشد 18 سنة، يبلغ 153 حدثاً، 94 أنثى، والبقية 59 من الذكور.
ويكشف المدير العام لدائرة إصلاح الأحداث في وزارة العدل أمين هاشم، عن وجود 140 من أطفال داعش مودعين لدى دائرته، وأوضح قائلاً “وزارة العدل تستقبل الأحداث من عمر 9 إلى 18 سنة، وأيضاً 22 سنة في بعض الحالات“.
وعبر عن خشيته من بقاء أطفال داعش مسجونين بنحو دائم إذا لم توضع خطط مناسبة للتعامل معهم، بتسليم الأجانب منهم إلى بلدانهم وتأهيل العراقيين وإعادة دمجهم بالمجتمع.
ويؤكد هاشم، أن هنالك أطفالاً لعناصر داعش مع أمهاتهم في السجون، أبقتهم وزارة العدل معهن لأغراض إنسانية.
ونبه إلى أن بقاء الكثير من أطفال داعش من الاجانب في العراق لغاية الآن، هو بسبب مشكلات في البلدان التي يحملون جنسياتها، لكونها غير متأكدة إن كانوا بالفعل من مواطنيها، لذلك ترفض استقبالهم لحين التأكد من ذلك.
وتمثل إجراءات التأكد من فحص الحمض النووي الـ (DNA) والوثائق الموجودة لدى الأطفال وأمهاتهم واحدة من المعوقات التي تواجهها السلطات العراقية كونها تتطلب تحقيقات مطولة، بسبب مقتل أغلب آبـاء هـؤلاء الأطفال في معارك التحرير.
وسلم العراق حتى عام 2019، 300 طفلاً إلى روسيا وتركيا وأذربيجان وألمانيا وفرنسا والسويد وجورجيا وفلندا وسويسرا وأوكرانيا، وما تبقى 600 طفلاً تم تسليم 188 طفلا منهم بداية العام 2020 إلى تركيا.
هذا ما يؤكده عضو لجنة الامن والدفاع النيابية النائب كاطع الركابي، مشيراً إلى أن العراق يتعامل حالياً مع أكثر من 1000 طفل أجنبي لأبوين انتميا للتنظيم وتعود أصول أغلبهم الى شرق أوروبا وآسيا الوسطى لاسيما طاجكستان وروسيا وتركيا وأذربيجان.
ويقول “تتولى المحكمة الجنائية المركزية في بغداد بالتعاون مع وزارة الخارجية تسليمهم إلى بلدانهم بعد سلسلة إجراءات قانونية وتتراوح اعمار هؤلاء بين عامين وستة عشرَ عاماً“.
عناصر غير مرحب بها
“لا يمكن اعتبار أطفال داعش لاجئين أو وافدين أو رعايا داخل العراق، كونهم دخلوا هم أو ذووهم قبل ولادتهم، إلى البلاد بنحو غير قانوني، وكانوا جزءاً من عمليات عسكرية مسلحة”، هذا ما يراه أستاذ العلاقات الدولية أسامة السعيدي متوافقاً مع الأعراف الدولية.
ويستدرك “غير أن مشكلة العراق تكمن في صعوبة إعادة الأطفال الأجانب إلى دولهم كونها هي الأخرى تعرضت لاعتداءات نفذها إرهابيون ولا ترغب في استقبالهم، خشية من توسع ظاهرة التطرف الديني فيها“.
ووفقاً للسعيدي، فقد “تبنت الأمم المتحدة برامج تأهيلية في العراق لاستيعاب هؤلاء الاطفال وإعادة تأهيلهم لأن أكثرهم يحملون فكراً متطرفاً ويحتاجون لمثل هذه البرامج، وبالتالي فعملية تأهيلهم ومن ثم ترحيلهم إلى بلدانهم أو بلدان أخرى ترغب في استقبالهم تحتاج إلى إشراف دولي“.
ويضيف “ليس هناك قانون دولي يجبر دول هؤلاء الأطفال أو دول أخرى على استقبالهم، وبالتالي فإن عمليات ترحيلهم تعتمد بدرج كبيرة على جهود الدبلوماسية العراقية“.
وسعت الأمم المتحدة في سبتمبر 2020 إلى وضع أسس عالمية لإعادة أطفال داعش إلى أوطانهم، عبر طرحها مبادرة أممية، تضمنت تقديم دعم مالي وتقني متكامل لتلبية الاحتياجات الحقوقية والإنسانية للعائدين من معسكرات ومخيمات العراق وسوريا.
والاستجابة السريعة للمخاوف الأمنية والعدلية بطريقة تناسب كافة أعمار الأطفال العائدين، إضافة إلى معالجة وضع الباقين في المخيمات بنحو يضمن إستقبالهم من قبل الدول التي ينتمون إليها.
ويذكر عضو لجنة العلاقات الخارجية السابق مختار الموسوي أن عناصر داعش الموجودين في السجون العراقية ينحدرون من أكثر من 120 دولة، وأن بعض المقاتلين جلبوا معهم عائلاتهم حين التحقوا بالتنظيم في العراق.
وآخرون كونوا عائلات بعد وصولهم، وأنجبوا أطفالاً وقع 833 منهم في قبضة القوات العراقية خلال وبعد العمليات الحربية.
وينوه الموسوي” لدى العراق والوزارات المعنية تواصل دائم مع المنظمات الدولية من أجل الضغط على بلدان هؤلاء الأطفال لاستلامهم، لأن بقائهم يشكل تهديداً أمنياً وعبئاً مالياً على الحكومة العراقية“.
وكان داعش من أكثر التنظيمات المتطرفة تجنيداً للأطفال، بافتتاحه مدارس ومعسكرات تدريبة بالعراق وسوريا لتعليمهم طرق استخدام السلاح وإخضاعهم لتدريبات قتالية للمشاركة في المعارك.
إضافة إلى إعداد مناهج دراسية لزرع العنف وأفكار التطرف في عقولهم واستغلالهم في جمع المعلومات الإستخبارية، وهذا من بين الأسباب التي قال الموسوي أنها تقف وراء امتناع دول أوربية عن استعادة أطفال من مواطنيها.
آليات وجهود تسفير أطفال داعش
بحسب المتحدث باسم وزارة العدل أحمد لعيبي، فإن عمليات تسليم أطفال داعش إلى دولهم التي لا تمانع من استقبالهم ما تزال مستمرة وأن هؤلاء حصراً ممن ليس لديهم جرم أو قيد جنائي، أي ليسوا متهمين بارتكاب جرائم.
وقال بأن دور الوزارة يقتصر على استحصال الموافقات الرسمية لتسفير الأطفال والتواصل مع وزارة الخارجية العراقية لمخاطبة سفارات الدول المعنية من أجل محاولة استحصال الأوراق الثبوتية وجوازات سفر مؤقتة للأطفال لغرض تسفيرهم بها.
“لكن العقبة التي تواجه عملنا بهذا الصدد يتمثل بعدم امتلاك الأطفال أوراقاً ثبوتية، كونهم دخلوا بأسماء وهمية ومزورة أو ولدوا داخل البلاد دون الحصول على وثائق عراقية“.
بالنسبة للشق الأخير مما ذكر، فإن بيانات الولادة والمستمسكات الشخصية كهوية الأحوال المدنية، لا تمنح في العراق، لغير أبوين نظما عقد زواج أصولي أمام قاضٍ مختص في محكمة الأحوال الشخصية، وتم تثبيت ذلك في دائرة الجنسية والأحوال المدنية.
وبالعودة إلى لعيبي، فإن وزارة الخارجية العراقية “فاتحت كل الدول التي يتواجد أطفال منحدرين منها داخل العراق، وبانتظار استحصال الموافقات لتسليمهم اليها عن طريق القنوات الدبلوماسية العراقية“.
ونجح العراق في إقناع بعض الدول على تسلم أطفالها كتركيا واذربيجان والجزائر وطاجكستان وروسيا حسبما يقول عضو مفوضية حقوق الإنسان فاضل الغراوي الذي قال إن هنالك بالمقابل دول رفضت ذلك، دون أن يسمها بالاسم.
ولا يخفي العزاوي قلقه من استمرار وجود أطفال داعش في الـسـجـون ومـراكـز الاحـتـجـاز، نظراً لما يسببونه من ارباك وتعقيد في المشهد الأمني المحلي، وفقاً لتوصيفه ويتابع:
“هـؤلاء الأطفال وأعني بهم غير المقاتلين، عاشوا في كنف داعش وشهدوا جميع محطاته، وقد يكونوا مطلعين على أدق التفاصيل، مما ينذر بإمكانية نقل تلك المـشكلات والـتعـقيدات إلى المجتمعات التي سيتواجدون فيها“
ودعا بدوره الحكومة العراقية إلى اسـتثمار الجـوانب الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية لحث الدول على تسلم هؤلاء الأطفال، حتى لا تكون هنالك تداعياتٌ مستقبلية على الدولة ومسؤولياتها في إحلال السلم المجتمعي.
في 29 حزيران يونيو 2019 حثت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه الدول على استعادة أفراد عائلات المقاتلين الأجانب الذين قتلوا أو اعتقلوا في العراق وسوريا.
وقالت باشليه لدى افتتاح الدورة الـ41 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف “يجب استعادة أفراد العائلات الأجانب”. وشددت على أنه لا ينبغي تحت أي ظرف من الظروف جعل الناس وخاصة الأطفال بدون دولة.
قانونية البقاء والمغادرة
وأجاز المشرع العراقي في قانون الجنسية العراقي رقم (26) لسنة (2006) النافذ، منح الجنسية الأصلية على الانتساب لجهة الأب أو الأم بالتساوي، استناداً الى المادة/ 18 ثانياً من الدستور العراقي ، منطلقاً من ذلك في تحقيق المساواة بين الجنسين في هذه الناحية.
وطيلة بقاء تنظيم داعش في المحافظات الغربية الثلاثة (نينوى- الأنبار- صلاح الدين)، شجّع على زواج أفراده من الرجال والنساء من بعضهم لتوفير جيل جديد يؤمن بعقيدته ويكون قادراً على حمل السلاح.
ونظم العديد من حفلات الزواج لأفراده اكتسبت شرعيتها من محاكم يشرف عليها رجال دين تابعون له بعقود أصدروها لهم.
ويواجه القضاء العراقي تحدياً دستورياً يكمن في عدم مؤاخذة الأطفال دون سن الــ 9 جزائياً وفقاً لخبراء قانونيين، منهم فائق سعد الله محسن، الذي يقول:
“الدستور لا يجيز ذلك” أي عدم محاسبتهم قضائيا. معتبراً أطفال داعش ممن أمهاتهم عراقيات عراقيون وفق القانون وبإمكانهم الحصول حتى على الجنسية العراقية، وهذا ينطبق على الجميع حتى على الآباء من مقاتلي داعش الأجانب، لكن يتعين على الأم تصديق زواجها بالمحاكم الرسمية أولا ومن ثم إثبات نسب الطفل“.
ووفقاً لمحسن فإن “من حق الزوجة رفع دعوى بالمحاكم العراقية للمطالبة بتسجيل وثيقة زواجها من زوجها الداعشي (العراقي أو الأجنبي)، حتى وإن كانت صادرة مما يسمى محاكم داعش.
“وفي حال لم تتوفر هذه الوثيقة، فيمكن اللجوء لشهادة شاهدين يقرون أمام القاضي بوقوع واقعة زواج الطرفين بتاريخ معين، وأن الطفل أو الأطفال المعنيين هم ثمرة هذا الزواج وأن الأب مات أو فقد أو رحل لجهة مجهولة“.
ويضيف إلى كل ذلك “يعيش المئات من أطفال داعش في العراق في سجون وسط ظروف جيدة، ولا يمكن اعتبار هذه الأماكن سجوناً أيضا، إنما هي دار دولة كما حال دور رعاية الأطفال مجهولي الأهل لأنهم دون السن القانونية”، لافتاً إلى أن “الحكومة الاتحادية تريد التخلص من الأطفال الأجانب قبل بلوغهم السن القانونية”.
أنجز التحقيق من قبل “العالم الجديد” بالتعاون مع شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية
العالم الجديد – حسن الناصري.