صدمت برحيل الصديق الباحث نبيل فياض.. ولا استوعب لحد الآن انه قد غادر مسرح الحياة.. وأشك انني سأتقبل فكرة موته في القادم من الزمن.. كأنني اتشبث به حياً بيننا.. لا ادعه يفلت مني.. ويا ليت كنت بالقرب منه لحظتها كي أبقى ممسكاً به.. لا ادعه يغيب عن انظارنا.. فمثله لا يمكن ان يغيبْ.. ولن يُغيب بحكم ما في روحه من طاقة وحيوية إنسانية.. كانت تمنحه وتمنح من حوله القوة والعطاء.. طاقة لا حدود لها.. تتجدد كل يوم رغم المحن والمصائب التي كانت تتسلسل وتتناسل.. كي تحيل كل ما حولنا الى عبث وخراب.. خراب مدمر يولد اليأس ويطيح بالنفوس.. يجعلك تشعر بالوحدة والكآبة في هذا الكون.. كي تناجي الآلهة في السماء مرة.. أو ترضخ لسطوة الجلاد على الأرض ثانية.. إنْ لم ْتختار طريق المواجهة والكفاح..
بين هذا وذاك كان نبيل يحلق كالعصفور.. مبتسماً.. ساخراً.. ينشد الحان المعرفة.. ليفيض بالسعادة كنبي يعرج للسماء.. وهو يقترب من عرش الرب محملا بالكثير من الأسئلة الصعبة.. التي يجفل منها الإله.. وحال ما يهبط من السماء يعيد نفس السلوك.. مع ابسط الناس في يوميات عمره.. منذ ان حمل لواء المعرفة.. وقرر البوح عن أفكاره بيقين اسطوري..
منذ ان عرفته.. حينما زرته مع الصديق سربست نبي في حي من احياء دمشق القديمة.. بالقرب من المنطقة الصناعية والشاغور.. قبل أكثر من ثلاث عقود مضت ونبيل هو.. هو.. لم يتغير ولم يتعب او يكل.. كان يسير في ذات الطريق.. على سراط غير مستقيم.. غير آبه بما يقال عنه.. يتحمل سفاهات من يسعى للتطاول عليه.. او من قرر مقاطعته والتشهير به.. ابتداء من أقرب المقربين له..
تجنبه البعض من ذوي القربى.. لأسباب سياسية بحكم علاقتهم مع الدولة.. كانوا يمتعضون من تصريحاته وانتقاداته للدولة وحزب البعث.. باستثناء قلة منهم واصلوا زيارته وكان يرد زياراتهم.. أخص منهم الفقيد الراحل بسام الذي توفي بحادث مروري وابن عمه هشام وقريب له اعتقد اسمه اياد..
وآخرون تجنبوه.. قاطعوه.. بحكم كتاباته ومواقفه الناقدة للدين.. اعتبروا وجوده مسيئاً للعائلة.. يسبب المشاكل لهم.. يحرجهم.. وبين هؤلاء وغيرهم كان ثمة من غدر به من الأصدقاء.. وانساق لأسباب ودوافع نفعية للانتقاص منه والتشهير به.. وهناك من تمادى وانقلب الى صانع اخبار وملفق مبتذل عن نبيل وخصوصياته كإنسان..
بين السياسة والدين اختار نبيل.. ان يكون نبيلا صادقاً.. منسجماً مع نفسه.. بحث عن المعرفة بعدة لغات يجيدها ويتقنها.. انشغل بما يمكن ان يستوعبه العقل.. العقل الرافض لترهات الدين.. والعقل الرافض لكل اشكال العنف.. عنف الدين وعنف السياسة.. لذلك وقف عارياً امام الجميع.. ليصرخ بكل ما يملك من قدرات معلناً عن موقفه الرافض..
الرافض لكل اشكال وانماط الغيبيات
والرافض للايديولوجيات
واختار ان يقف مع الانسان الحر.. كان يكره الضعف الإنساني.. يكره التخاذل.. يكره أي مظهر من مظاهر النفاق وتعدد الوجوه.. لذلك نجح وأبدع في بحوثه التاريخية عن الأديان.. وفشل في تجاربه السياسية التي فرضت عليه وغادرها بسرعة البرق..
نبيل لم يساوم.. ولم يتزحزح قيد انملة عن مواقفه المناهضة للتطرف الديني.. لكنه لم يكن ضد الأديان بالمعنى الاجتماعي للدين.. كان يعتبر مهمته المقدسة مع الآخرين.. هي تحرير الانسان من أوهام الدين.. لم تكن مشكلته مع الله كما قال غوار في احدى مسرحياته.. بل المشكلة مع من يتصور انه بعد الله.. وهكذا كان نبيل.. لم يكن وجود الإله او عدمه مشكلة بالنسبة له.. مشكلته كانت مع وجود الانسان الفاقد للعقل.. والمؤمن المزيف الكابح للعقل.. ورجل السلطة المناهض للعقل..
كانت له علاقات مع ناس ومؤمنين من مختلف الأديان.. حتى في زمن “اشتباكه” مع محمد رمضان البوطي مفتي الدولة السورية.. والردود التي حدثت بينهما في مجال البحث والكتابة.. كان يفرق بين البوطي الانسان.. الذي زاره في بيته.. وبين البوطي الذي يسعى لنشر الأوهام.. ويتشبث بالدين والسلطة بكلتا يديه..
هكذا كان في بحثه الدائم عن الحقائق.. التي تفضح دعاة الدين.. وتكشف عيوبهم.. اكاذيبهم.. عورتهم.. بالتالي تحط من منزلتهم.. ومنزلة اديانهم المستندة على الخرافات والاساطير.. التي تقوض وتؤسر العقل.. لتنتج المزيد من الجهل والتطرف والتخلف.. في هذا لم يكن نبيل محايداً.. سعى وكافح لتحرير الانسان وانقاذه من الأوهام..
هكذا كان موقفه من السياسة.. ناقداً للدولة والأحزاب.. وفي المقدمة منهم حزب البعث باعتباره حزب السلطة في بلاد الشام.. الذي كان يعيب عليه ادعاءاته بالتحرر وتحقيق الإنجازات.. رفض تصنيف الدولة وحزب البعث في خانة العلمانية.. اعتبرهم متواطئين مع سفهاء الدين.. مشوهين ومكملين لبعضهم.. يلعبون في ساحة واحدة على عقول الناس..
فالحزب الذي يدعي العلمانية والاشتراكية والتحرر ـ حزب البعث ـ بنى في فترة وجوده في السلطة الآلاف من الجوامع.. شجع على انتشار مظاهر التخلف.. سمح للمؤسسات الدينية ان تنمو وتتوسع.. في الوقت الذي منعت الدراسات الناقدة للدين.. ومنعت كتبه ـ أي كتب نبيل ـ من التداول..
أذكر اننا كنا معا في مكتبة الأسد.. واحتجت لحظتها كتاب له.. كان مسجلا في قائمة المكتبة.. لكنّ طلبنا رفض.. لان الكتاب مصنف ممنوع من التداول.. وكانت المفاجأة لمدير المكتبة حينما قلت له وانا أؤشر على نبيل:
ـ هذا هو.. المؤلف امامك.. ونحن بحاجة لكتابه الآن.. وضحكنا.. لا اعرف على من كنا نضحك حينها؟ على أنفسنا ام على دولة البعث “العلمانية”؟ ام.. على مخلفات الدين وقلة استخدام العقل في عصرنا التكنولوجي؟ ام.. على المنع الساذج للمعرفة؟ لكنني موقن كان ضحكاً كالبكاء..
هل كان نبيل يبكي ويتألم؟
هل كان يحزن؟
منذ ان عرفته يفيض بالمعرفة ويشع عطاء بلا حدود.. عرفت أيضا كان ينزف دموعاً ودماء.. يبكي لحال الآخرين.. كان يعذبه منظر طفل محتاج.. او امرأة مقهورة تعاني.. لا بل كان يعيش أجواء المعاناة حينما يسمع ان المتطرفين قد هاجموا مجموعة بشرية في غابات افريقيا.. ام في الهند.. وهكذا كان موقفه من الصراعات الاجتماعية والسياسية في بلدان الشرق.. ينزف من أجل الآخرين وينغمس في نشاطات إنسانية لا حدود لها..
كنت في دمشق منتصف عام 1996.. حينما استنجدت بي امرأة عراقية.. طالبة مبلغاً عاجلا لأجراء عملية جراحية كقسط اولي لا بد من تسديده لإدخالها لصالة العمليات.. بالرغم من أن الطبيب العراقي الجراح كان قد تنازل عن اجوره.. لكن إدارة المشفى الفلسطيني أصرت على اخذ اجورها.. وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا.. ولم يكن امامي الاّ انْ أذهب لنبيل.. قبل منتصف الليل.. لأستدين منه مبلغ 2500 ليرة سورية..
وهكذا كان الحال معه حتى في أيامه الأخيرة.. حينما طلب مني ان اتصل لتشخيص من يمكن الوثوق بهم لإيصال مساعدات إنسانية للاجئين العراقيين المحتاجين في مناطق الحسكة والقامشلي..
رحل نبيل.. ومع رحيله تجددت المواقف.. هناك من نددوا به.. نعتوه بالكافر والزنديق.. وهناك من رثاه وتألم لرحيله وحزن عليه..
رحل نبيل في غيبة مهدية.. ليعرج نحو السماء.. باحثاً رصيناً.. يتقصى أثر الأنبياء.. ليعود الينا محملا بالجديد من رؤياه ومشاهداته في أجواء السماء.. هي عودة فاضية.. إلا من روحه المرحة.. ليحدثنا عن معراجه.. وما لم يجده.. ولم يعثر عليه.. في ثنايا السماء..
اتخيل عودتك القريبة لتقول لنا كعادتك في أصعب المواقف وأحرجها.. ساخراً ضاحكاً.. وأنت تؤشر بيديك وتبعد ما بين كفيك:
ـ ولا شيء.. ولا شيء.. لم أجد شيئاً هناك..
دعنا يا نبيل نأمل عودتك..
لنحتفل بميلادك الجديد..
ليكن معراجك يوم ميلادك..
ـــــــــــــــــــــــــــ
صباح كنجي
8/9/2022
ـ نبيل فياض باحث سوري من مواليد 1955 القريتين.. له أكثر من 50 كتاباً بحثياً ومترجماً.. توفي يوم الأحد 21/ 8/2022